الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1195 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : بت عند خالتي ميمونة ليلة ، والنبي صلى الله عليه وسلم عندها ، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ، ثم رقد ، فلما كان ثلث الليل الآخر أو بعضه قعد ، فنظر إلى السماء ، فقرأ : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) حتى ختم السورة ، ثم قام إلى القربة فأطلق شناقها ، ثم صب في الجفنة ، ثم توضأ وضوءا حسنا بين الوضوءين ، لم يكثر وقد أبلغ ، فقام فصلى ، فقمت وتوضأت ، فقمت عن يساره ، فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه ، فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة ، ثم اضطجع فنام حتى نفخ ، وكان إذا نام نفخ ، فآذنه بلال بالصلاة ، فصلى ولم يتوضأ ، وكان في دعائه : " اللهم اجعل في قلبي نورا ، وفي بصري نورا ، وفي سمعي نورا ، وعن يميني نورا ، وعن يساري نورا ، وفوقي نورا ، وتحتي نورا ، وأمامي نورا ، واجعل لي نورا " - وزاد بعضهم - " وفي لساني نورا " وذكر : " وعصبي ولحمي ودمي وشعري وبشري " . متفق عليه . وفي رواية لهما : " واجعل في نفسي نورا ، وأعظم لي نورا " . وفي أخرى لمسلم : " اللهم أعطني نورا " .

التالي السابق


1195 - ( وعن ابن عباس قال بت ) : من البيتوتة ( عند خالتي ميمونة ) : وهي أم المؤمنين ( ليلة والنبي صلى الله عليه وسلم عندها ) ، أي : في نوبتها ( فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ) : وفيه أن التحدث بعد العشاء غير مكروه إذا كان من كلام الآخرة ، أو من باب الموعظة ، أو من طريق حسن العشرة . ( ثم رقد ) ، أي : نام . في الشمائل : قال : فاضطجعت في عرض الوسادة ، أي : المخدة أو الفراش ، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طولها ( فلما كان ) ، أي : بقي ( ثلث الليل الآخر ) : صفة ثلث ، أي : جمعيه ( أو بعضه ) ، أي : بعض الثلث ، أي : أقل منه ( قعد ) ، أي : قام من النوم ( فنظر إلى السماء ) : يتفكر في عجائب الملكوت ويستغرق في عالم الجبروت ( فقرأ : ( إن في خلق السماوات والأرض ) ، أي : في خلقتهما أو في الخلق الكائن فيهما ( واختلاف الليل والنهار ) ، أي : طولا وقصرا وظلمة ونورا وحرا وبردا ( لآيات ) ، أي : دلالات واضحات وبينات لائحات ( لأولي الألباب ) ، أي : لأرباب العقول السليمة ، على الملة القويمة ، والطريق المستقيمة من التوحيد والنبوة الكريمة ; ولذا قال - عليه السلام - : " ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر " . ( حتى ختم السورة ) : فإن فيها لطائف عظيمة ، وعوارف جسيمة لمن تأمل في مبانيها ، وتبين له بعض معانيها . ( ثم قام ) ، أي : قصد ( إلى القربة فأطلق ) ، أي : حل ( شناقها ) : بكسر الشين خيطها الذي يشد به فمها ، أو السير الذي تعلق به القربة ( ثم صب ) ، أي : أراق الماء منها ( في الجفنة ) ، أي : القصعة ، وهي قدح كبير ، ( ثم توضأ وضوءا حسنا ) ، أي : مستحسنا ( بين الوضوءين ) ، أي : من غير إسراف ولا تقتير ، يدل هذا على أن من كان بين طرفي الإفراط والتفريط حسن ، وقيل ، أي توضأ مرتين مرتين . ( لم يكثر ) ، أي : صب الماء وهو صفة أخرى لوضوء أو بيان للوضوء الحسن ، وهو إيماء إلى عدم الإفراط ( وقد أبلغ ) ، أي : أسبغ الماء إلى محاله المفروضة إشارة إلى عدم التفريط ، ( فقام فصلى ) ، أي : فشرع في الصلاة ( فقمت ) ، أي : نهضت عن النوم أو إلى القربة ( وتوضأت ) ، أي : نحو وضوئه كما في رواية أخرى ، ( فقمت ) ، أي : للصلاة معه تعلما وتبركا ( عن يساره ) : لعدم العلم فإنه كان [ ص: 904 ] صغيرا ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ، ( فأخذ بأذني ) : وفي رواية الترمذي في الشمائل : فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي ، ثم أخذ بأذني اليمنى ، قال ابن حجر : وضعها أولا ليتمكن من مسك الأذن أو لأنها لم تقع إلا عليه ، أو لينزل بركتها به ليعي جميع أفعاله - عليه السلام - في ذلك المجلس وغيره . ( فأدارني عن يمينه ) : قال ابن الملك : " عن " هنا . بمعنى الجانب ، أي أدارني عن جانب يساره إلى جانب يمينه . اهـ .

وفي الشمائل بدل هذه الجملة ففتلها ، قال ابن حجر : وفتلها إما لينبهه على مخالفة السنة ، أو ليزداد تيقظه لحفظ تلك الأفعال ، أو ليزيل ما عنده من النعاس لرواية : فجعلت إذ غفيت يأخذ شحمة أذني ، ( فتتامت ) : بتشديد الميم ، ومن ثم قال الطيبي ، أي صارت تامة ، تفاعل من تم وهو لا يجيء إلا لازما . اهـ . أي : تمت وتكاملت ( صلاته ثلاث عشرة ركعة ) : وفي الشمائل : فصلى ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، قال : يعني ست مرات ، ثم أوتر ، أي : جعل الشفع الأخير منضما إلى الركعة الأخيرة فصار وترا أوتر بثلاث ركعات ، كما في الحديث الآتي لمسلم عنه . ( ثم اضطجع فنام حتى نفخ ) ، أي : تنفس بصوت حتى يسمع منه صوت النفخ بالفم ، كما يسمع من النائم ، وقال ابن حجر : نفخ من أنفه ، ومن ثم عبر عنه في رواية أخرى بالغطيط ، وهو صوت الأنف المسمى بالخطيط بفتح المعجمة وهو الممدود من الصوت ، وقيل : هما بمعنى ، وهو صوت يسمع من تردد النفس أو النفخ عند الخفقة ، أي تحريك الرأس . اهـ كلامه ، وما وجدنا في كتب اللغة ما يدل على أنه صوت الأنف ، ففي النهاية : الغطيط : الصوت الذي يخرج مع نفس النائم وهو ترديده حيث لا يجد مساغا ، وقال : والخطيط قريب من الغطيط وهو صوت النائم ، وفي القاموس : غط النائم غطيطا : صات ، والله أعلم ، ( وكان ) ، أي : من عادته ( إذا نام نفخ ) : قال ابن حجر : فيه بيان أن نفخه صلى الله عليه وسلم لم يكن لأمر عارض ، بل كان جبليا ناشئا عن عبالة البدن ، أي : ضخامته كما هو الغالب ، نعم تلك العبالة حصلت له - عليه السلام - في آخر عمره لما آتاه الله جميع سؤله ، وأراحه من غي أمته ، كان حكمتها ما أشار إليه بعض علماء الظاهر من التابعين ، وعلماء الباطن من المتأخرين يقول الأول ، وقد قيل له ما هذا السمن : كلما تذكرت كثرة أمة محمد ، وما اختصهم الله تعالى به مما لم يؤته لغيرهم ازددت سمنا ، ويقول الثاني : كلما تذكرت أني عبد الله وأنه أهلني لما ترون زاد سمني . اهـ . فلا ينافي ما ورد أن الله لا يحب السمين ، وفي رواية يبغض السمين ، فإن محله إذا كان عن غفلة أو نشأ عن تنعيم وكثرة أكل لحم ، كما يدل عليه رواية ( يبغض اللحامين ) ( فآذنه ) : بالمد ، أي أعلمه ( بلال بالصلاة فصلى ، ولم يتوضأ ) قال بعض علمائنا : وإنما لم يتوضأ وقد نام حتى نفخ ; لأن النوم لا ينقض الطهر بنفسه ، بل لأنه مظنة خروج الخارج ، ولما كان قلبه - عليه السلام - يقظان لا ينام ولم يكن نومه مظنة في حقه ، فلا يؤثر ، ولعله أحس بتيقظ قلبه بقاء طهره ، وهذا من خصائصه عليه السلام . قال الطيبي : فيقظة قلبه تمنعه من الحدث وما منع النوم قلبه ليعي الوحي إذ أوحي إليه في المنام . اهـ . فالوضوء الأول إما لنقض آخر ، أو لتجديد وتنشيط ، والله أعلم .

( وكان في دعائه ) ، أي : في جملة دعائه تلك الليلة ، قال الطيبي : أو دعائه حين خروجه من البيت إلى المسجد على ما ذكره الجزري في الحصن ، وإذا خرج للصلاة ، أي لصلاة الصبح ، قال : ( " اللهم اجعل في قلبي نورا " ) : قيل : هو ما يتبين به الشيء ويظهر ، قال الكرماني : النورين للتعظيم ، أي : نورا عظيما ، وقدم القلب ; لأنه بمنزلة الملك المالك . ( " وفي بصري نورا ، وفي عيني نورا " ) ; لأنهما آلتا الأدلة العقلية والنقلية . ( " وعن يميني نورا ، [ ص: 905 ] وعن يساري نورا ) ، أي : في جانبي ، أو في جارحتي ، قال بعضهم : أراد بالنور ضياء الحق ، يعني استعمل هذه الأعضاء مني في الحق ، واجعل تصرفي وتقلبي فيهما على سبيل الصواب . ( " وفوقي نورا ، وتحتي نورا ، وأمامي " ) ، أي : قدامي ( " نورا ، وخلفي نورا " ) : قال ابن الملك : وفي إيراد عدم حرف الجر في هذه الجوانب إشارة إلى تمام الإنارة وإحاطتها ; إذ الإنسان يحيط به ظلمات البشرية ، ولم يتخلص منها إلا بالأنوار الإلهية .

قال القرطبي : هذه الأنوار يمكن حملها على ظاهرها ، فيكون سأل الله تعالى أن يجعل له في كل عضو من أعضائه نورا يستضيء به من ظلمات يوم القيامة هو ومن يتبعه أو من شاء الله منهم ، قال : والأولى أن يقال هي مستعارة للعلم والهداية ، كما قال تعالى : ( فهو على نور من ربه ) ، ( وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ) ، قلت : ويمكن الجمع فتأمل ، فإنه لا منع ، ثم قال : والتحقيق في معناه أن النور يظهر ما ينسب إليه وهو يختلف بحسبه ، فنور السمع مظهر للمسموعات ، ونور البصر كاشف للمبصرات ، ونور القلب كاشف عن المعلومات ، ونور الجوارح ما يبدو عليها من أعمال الطاعات .

وقال الطيبي : معنى طلب النور للأعضاء عضوا عضوا أن يتحلى كل عضو بأنوار المعرفة والطاعة ، ويتعرى عن ظلمة الجهالة والضلالة ، فإن ظلمات الجملة محيطة بالإنسان من قرنه إلى قدمه ، والشيطان يأتيه من الجهات الست بالوساوس والشبهات ، أي : المشبهات بالظلمات فرفع كل ظلمة بنور ، قال : ولا مخلص عن ذلك إلا بأنوار تستأصل شأفة تلك الظلمات ، وفيه إرشاد للأمة ، وإنما خص القلب والسمع والبصر بـ ( في ) الظرفية ; لأن القلب مقر الفكر في آلاء الله تعالى ، والبصر مسارح النظر في آيات الله المنصوبة المبثوثة في الآفاق والأنفس ، والسمع محط آيات الله المنزلة على أنبياء الله ، واليمين والشمال خصا بـ ( عن ) للإيذان بتجاوز الأنوار عن قلبه وبصره وسمعه إلى من عن يمينه وشماله من أتباعه ، وعزلت فوق وتحت وأمام وخلف من الجارة لتشمل استنارته وإنارته معا من الله والخلق ، ثم أجمل بقوله : ( " واجعل لي نورا " ) : فذلكة لذلك . اهـ . أي : إجمالا لذلك التفصيل ، وفذلكة الشيء : جمعه . مأخوذ من فذلك وهو مصنوع كالبسملة ، قال ابن الملك : أراد به نورا عظيما جامعا للأنوار كلها . اهـ . وفي رواية للنسائي والحاكم : " واجعلني نورا " وهو أبلغ من الكل . ( وزاد بعضهم ) ، أي : بعض الرواة بعدما ذكر ( " وفي لساني نورا " ) : خص بالذكر ليخص بالذكر ( وذكر ) أي : الراوي . قاله ابن الملك ، والأظهر : وذكر ، أي ذلك البعض . يعني في رواية أخرى : ( " وعصبي " ) لأن به قوام البدن ، ( " ولحمي " ) لأن به نموه وزيادته ، ( " ودمي " ) لأن به حياته ، ( " وشعري " ) ; لأن به جماله وهو بفتح العين وسكونها ، ( " وبشري " ) ، أي : جلدي ; لأنه الذي امتاز به الإنسان عن بدن سائر الحيوانات ، ولفظه على ما في الحصن : وفي عصبي نورا ، وفي لحمي نورا ، وفي دمي نورا ، وفي شعري نورا ، وفي بشري نورا . ( متفق عليه ) : ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه إلا أن قوله : وفي لساني نورا من أفراد مسلم على ما يفهم من الحصن .

( - وفي رواية لهما - ) أي : للشيخين ( " واجعل في نفسي نورا وأعظم لي نورا " ) : بفتح الهمزة ، أي : اجعل نوري عظيما ، وهذه الرواية أسندها الجزري إلى مسلم فقط وجعلها مصدرة بقوله : وفي لساني نورا . ( " وفي أخرى لمسلم : " اللهم أعطني نورا " ) : ورواه أبو داود والنسائي أيضا .

[ ص: 906 ]



الخدمات العلمية