الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني

130 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال : لأحدهما : المنكر ، والآخر : النكير . فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : هو عبد الله ورسوله ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله . فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ، ثم ينور له فيه ، ثم يقال له : نم . فيقول : أرجع . إلى أهلي فأخبرهم . فيقولان نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك . وإن كان منافقا قال : سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله ، لا أدري . فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ذلك ، فيقال للأرض : التئمي عليه ، فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه ، فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك . رواه الترمذي .

التالي السابق


الفصل الثاني

130 - ( عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا قبر الميت ) ، أي : دفن وهو قيد غالبي وإلا فالسؤال يشمل الأموات جميعها ، حتى أن من مات وأكلته السباع فإن الله تبارك وتعالى يعلق روحه الذي فارقه بجزئه الأصلي الباقي من أول عمره إلى آخره المستمر على حاله حالتي النمو والذبول الذي تتعلق به الروح أولا فيحيا ويحيا بحياته سائر أجزاء البدن ليسأل فيثاب أو يعذب ، ولا يستبعد ذلك فإن الله تعالى عالم بالجزئيات والكليات كلها حسب ما هي عليها ، فيعلم الأجزاء بتفاصيلها ويعلم مواقعها ومحالها ، ويميز بين ما هو أصل وفصل ، ويقدر على تعليق الروح بالجزء الأصلي منها حالة الانفراد وتعليقه به حال الاجتماع ، فإن البنية عندنا ليست شرطا للحياة ، بل لا يستبعد تعليق ذلك الروح الشخصي الواحد بكل واحد من تلك الأجزاء المتفرقة في المشارق والمغارب ، فإن تعلقه بتلك الأجزاء ليس على سبيل الحلول حتى يمنع الحلول في جزء آخر . ( أتاه ملكان أسودان ) : منظرهما ( أزرقان ) : أعينهما ، وإنما يبعثهما الله على هذه الصفة لما في السواد وزرقة العين من الهول والوحشة ، ويكون خوفهما على الكفار أشد ليتحيروا في الجواب ، وأما المؤمنون فلهم في ذلك ابتلاء ، فيثبتهم الله فلا يخافون ويأمنون جزاء لخوفهم منه في الدنيا ( يقال لأحدهما : المنكر ) : مفعول من أنكر . بمعنى نكر [ ص: 210 ] إذا لم يعرف أحدا ( والآخر : النكير ) : فعيل بمعنى مفعول من نكر بالكسر إذا لم يعرفه أحد فهما كلاهما ضد المعروف ، سميا بهما لأن الميت لم يعرفهما ، ولم ير صورة مثل صورتهما ، ثم يحتمل أن يتمثل الملكان للميت بهذا اللون حقيقة لأنهما مبغوضان ، والزرقة أبغض الألوان عند العرب لأن الروم أعداؤهم وهم زرق العيون غالبا ، ويحتمل أن يراد بالزرقة العمى . قال تعالى : ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ، أي : عميا . ويؤيده ما ورد في الحديث الآخر : فيقيض أي يقدر له أعمى أصم ، ويحتمل أن يكون المراد بالسواد قبح الصورة وفظاعة المنظر على طريق الكناية ، وبالزرقة تقليب البصر فيه وتحديد النظر إليه . يقال : زرقت عينه نحوي إذا انقلبت وظهر بياضها ، وهو كناية عن شدة الغضب ( فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ ) : قيل يصور صورته عليه الصلاة والسلام فيشار إليه ( فيقول : هو عبد الله ورسوله ) : هذا هو الجواب ، وذكر الشهادتين إطناب للكلام ابتهاجا وسرورا وافتخارا وتلذذا ( أشهد أن لا إله إلا الله وأن ) وفي نسخة : وأشهد أن ( محمدا عبده ورسوله ) . ولذا قد أخبر بذلك فيما هنالك ، ونظيره قوله : وما تلك بيمينك ياموسى قال هي عصاي أتوكأ عليها إلخ . فأطنب ; استلذاذا بمخاطبة الحق واستذكارا بنعمته ، كذا قاله الشراح . والظاهر أن قوله : هو عبد الله ورسوله ليس جوابا شرعيا لتوقفه على لفظ الشهادة عند بعضهم وعلى التوحيد عند الكل ، فيجمع بينهما دلالة على الإيمان على جهة الإيقان بخلاف المنافق الآتي ذكره حيث يدعي الإيمان ، لكن من غير دراية وبرهان . ( فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ؟ ) ، أي : الإقرار بالوحدانية والرسالة ، وعلمهما بذلك إما بإخبار الله تعالى إياهما بذلك ، أو بمشاهدتهما في جبينه أثر السعادة وشعاع نور الإيمان والعبادة ( ثم يفسح ) : مجهول مخفف ، وقيل : مشدد أي يوسع ( له في قبره سبعون ذراعا ) : يحتمل أنه بذراع الدنيا المعروف عند المخاطبين وهو الظاهر ، ويحتمل أنه بذراع الملك ، الأكبر من ذلك بكثير . قال الطيبي : أصله يفسح قبره مقدار سبعين ذراعا ، فجعل القبر ظرفا للسبعين ، وأسند الفعل إلى السبعين مبالغة في السعة ( في سبعين ) ، أي : ذراعا كما في نسخة . ، أي : في عرض سبعين يعني طوله وعرضه كذلك ، قيل : لأنه غالب أعمار أمته - عليه الصلاة والسلام - ، فيفسح له في مقابلة كل سنة عبد الله فيها ذراعا ، والأظهر أن المراد به الكثرة ، ولذا ورد في بعض الروايات : مد بصره ، ويمكن أن يختلف باختلاف الأشخاص ، والله أعلم . ( ثم ينور له فيه ) ، أي : يجعل النور له في قبره الذي وسع عليه ( ثم يقال له نم ) أمر من نام ينام ( " فيقول " ) ، أي : الميت لعظيم ما رأى من السرور ( " أرجع " ) ، أي : أريد الرجوع كذا قيل ، والأظهر أن الاستفهام مقدر ( إلى أهلي فأخبرهم ) ، أي : بأن حالي طيب ولا حزن لي ليفرحوا بذلك قال : ياليت قومي يعلمون فيقولان : أي له معرضين عن الجواب لاستحالته كذا قاله العسقلاني ، [ ص: 211 ] وأقول : قوله ( نم ) : متضمن للجواب ومغن عن الإطناب ( كنومة العروس ) : هو يطلق على الذكر والأنثى في أول اجتماعهما ، وقد يقال للذكر العريس ( الذي لا يوقظه ) : الجملة صفة العروس ، وإنما شبه نومه بنومة العروس لأنه يكون في طيب العيش ، وقيل المراد في تمام طيب العيش ( إلا أحب أهله إليه ) . قال المظهر : عبارة عن عزته وتعظيمه عند أهله يأتيه غداة ليلة زفافه من هو أحب وأعطف فيوقظه على الرفق واللطف ( حتى يبعثه الله ) : هذا ليس من مقول الملكين ، بل من كلامه عليه الصلاة والسلام إعلاما لأمته بأن هذا النعيم يدوم له ما دام في قبره ، وحتى متعلق بمحذوف أي ينام طيب العيش حتى يبعثه الله ( من مضجعه ذلك ) : بفتح الميم والجيم موضع الضجع وهو النوم ، وقيل : يحتمل أن يتعلق حتى بنم على سبيل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إشارة إلى غيبته عنهما بانصرافه عنهما ( وإن كان منافقا قال ) وفي نسخة فقال ( سمعت الناس ) ، أي : المسلمين أو الكفار فإنهم أكثر الناس ، قال تعالى : وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين والأول أظهر ( يقولون قولا ) : هو أن محمدا رسول الله ( فقلت مثله ) أي مثل قولهم ( ولا أدري ) ، أي : أنه نبي في الحقيقة أم لا ، وهو استئناف أي ما شعرت غير ذلك القول . قال ابن الملك : محله النصب على الحال أو صفة لمثله ، وفي الثاني نظر ( فيقولان : قد كنا نعلم ) ، أي : بالوحي أو برؤيتنا في وجهك أثر الشقاوة وظلمة الكفر ( أنك تقول ذلك ) ، أي : القول ( فيقال للأرض ) ، أي : للقبر من قبلهما أو من قبل ملك آخر ( التئمي ) : أي انضمي واجتمعي ( عليه ) ضاغطة له يعني ضيقي عليه ، وهو على حقيقة الخطاب لا أنه تخييل لتعذيبه وعصره ( فتلتئم عليه ) ، أي : يجتمع أجزاؤها عليه بأن يقرب كل جانب من قبره إلى الجانب الآخر فيضمه ويعصره ( فتختلف أضلاعه ) : بفتح الهمزة جمع ضلع وهو عظم الجنب ، أي : تزول عن الهيئة المستوية التي كانت عليها من شدة التئامها عليه وشدة الضغطة وانعصار أعضائه وتجاوز جنبيه من كل جنب إلى جنب آخر ( فلا يزال فيها ) ، أي : في الأرض أو في تلك الحالة أو في تربته ( معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك ) . وهذه الجملة من قوله عليه الصلاة والسلام لانقطاع الحكاية من الملكين . رواه الترمذي ) : وقال : حسن غريب .




الخدمات العلمية