الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 212 ] 131 - وعن البراء بن عازب ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان : له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله . فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول ديني الإسلام ، فيقولان : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله فيقولان له : ما يدريك ؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت ، فذلك قوله : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت الآية . قال : فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة ، وألبسوه من الجنة ، وافتحوا له بابا إلى الجنة ، فيفتح . قال : فيأتيه من روحها وطيبها ، ويفسح له فيها مد بصره . وأما الكافر فذكر موته ، قال : ويعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان ، فيجلسانه فيقولان : من ربك ؟ فيقول : هاه هاه ، لا أدري ! فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : هاه هاه ، لا أدري ! فيقولان : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هاه هاه ، لا أدري ! فينادي مناد من السماء : أن كذب فأفرشوه من النار ، وألبسوه من النار ، وافتحوا له بابا إلى النار .

قال : فيأتيه من حرها وسمومها . قال : ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، ثم يقيد له أعمى أصم ، معه مرزبة من حديد ، لو ضرب بها جبل لصار ترابا ، فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين ، فيصير ترابا ، ثم يعاد فيه الروح
" رواه أحمد وأبو داود .

التالي السابق


131 - ( وعن البراء ) : بالتخفيف والمد على المشهور وقيل بالقصر نقله الكرماني ( بن عازب ) : رضي الله عنهما ( عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يأتيه ملكان ) : قال ابن الملك : روى هذا الحديث البراء كما رواه أبو هريرة إلا أن ألفاظهما مختلفة . قال في رواية البراء : يأتيه ، أي : المؤمن ملكان ( فيجلسانه ، فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله ) : بفتح الياء وتسكن ، ولو كان الميت أعجميا صار عربيا ( فيقولان له : ما دينك ) ، أي : الذي اخترته من بين الأديان ( فيقول : ديني الإسلام . فيقولان ) ، أي : له كما في نسخة ( ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ ) ، أي : ما وصفه لأن ( ما ) يسأل به عن الوصف كذا قاله الطيبي ، وتبعه ابن حجر وقال ، أي : ما وصفه أرسول هو ، أو ما اعتقادك فيه ؟ والأظهر أن ( ما ) : بمعنى ( من ) ليوافق بقية الروايات بلفظ : من نبيك ( فيقول : هو رسول الله ) . وفي نسخة - صلى الله عليه وسلم - ( فيقولان له ) ، أي : للميت ( وما يدريك ؟ ) ، أي : أي شيء أعلمك وأخبرك بما تقول من الربوبية والإسلام والرسالة ؟ وقيل : إنما وصل بالواو العاطفة هنا لاتصاله بما قبله بخلاف ما دينك وما هذا الرجل ؟ فإن كلا منهما مستقل منقطع عما قبله ( فيقول : قرأت كتاب الله ) ، أي : القرآن ( فآمنت به ) ، أي : بالقرآن فإن الإيمان به مستلزم للإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أو آمنت بالنبي أنه حق ( وصدقت ) ، أي : صدقته بما قال ، أو صدقت بما في القرآن فوجدت فيه : فاعلم أنه لا إله إلا الله و ذلكم الله ربكم خالق كل شيء وغير ذلك من الآيات الدالة على أن ربي ورب المخلوقات واحد وهو الله تعالى ، وفيه أيضا : إن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه فعلمت أنه لا دين مرضيا عنده غير الإسلام ، وفيه أيضا : محمد رسول الله و قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا وغير ذلك . كذا قاله ابن الملك ، وقال الطيبي : قرأت كتاب الله ورأيت فيه الفصاحة والبلاغة فعرفت أنه معجز فآمنت به أو تفكرت فيما فيه من البعث على مكارم الأخلاق وفواضل الأعمال ، ومن ذكر الغيوب وأخبار الأمم السالفة من غير أن يسمع من أحد فعرفت أنه من عند الله فآمنت به ( فذلك ) ، أي : وصداق هذا قوله ، أي : جريان لسانه بالجواب المذكور هو التثبيت الذي تضمنه قوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت الآية قال ، أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فينادي مناد ) ، أي : للملكين ( من السماء ) ، أي : من جهتها ( أن صدق عبدي ) : أن مفسرة للنداء لأنه في معنى القول ، وجوز أن تكون مصدرية مجرورا بتقدير اللام وهو غير صحيح معنى إلا أن يتعلق بقوله ( فأفرشوه ) : والمعنى صدق عبدي فيما يقول ، فإنه كان في الدنيا على هذا الاعتقاد فهو مستحق للإكرام ، ولذا سماه عبدا وأضافه إلى نفسه تشريفا فأفرشوه بهمزة القطع ( من الجنة ) : والفاء فيه جواب شرط مقدر ، أي : إذا صدق عبدي فاجعلوا له فرشا من فرش الجنة ، فيكون أفرش بمعنى فرش كذا قيل .

[ ص: 213 ] وقال الطيبي : ليس في المصادر الإفراش بهذا المعنى إنما هو أفرش أي أقلع عنه ، فهذا اللفظ بهذا المعنى من باب القياس بإلحاق الألف في الثلاثي ، فلو كان من الثلاثي لكان حقه الوصل ولم نجد الرواية إلا بالقطع اهـ .

لكن قال في " القاموس " : أفرش عنه أقلعه وأفرشه أعطاه فرشا من الإبل أي صغارا وأفرش فلانا بساطا بسطه له كفرشه فرشا وفرشه تفريشا . وقال السيد جمال الدين : أصله أفرشوا له فحذف لام الجر ووصل الضمير بالفعل اتساعا ، وقيل معناه أعطوه فراشا منها ، وقيل : معناه اجعلوه ذا فرش من الجنة ، وقال ابن حجر : يعني عن سماعه صحة الرواية اهـ . وكله تكلف مستغنى عنه بما ذكر في القاموس . ( وألبسوه ) : بقطع الهمزة أي اكسوه أو أعطوه لباسا ( من الجنة ) : أي من حللها ( وافتحوا له بابا إلى الجنة ) ، أي : حقيقة أو مكاشفة كذا في " الأزهار " ، والأظهر هو الأول لما يأتي ( فيفتح ) : وفي نسخة : ويفسح أي له كما في نسخة ( قال ) : - صلى الله عليه وسلم - : ( فيأتيه ) ، أي : المؤمن ( من روحها ) ، أي : بعض روحها ، والروح : بالفتح الراحة ونسيم الريح ( وطيبها ) ، أي : بعض تلك الرائحة والطيب : أي شيء منها ، ولم يؤت بهذا التعبير إلا ليفيد أنه مما لا يقادر قدره ، ولا يوصف كنهه ، وكل طيب روح ولا عكس ، وقيل : ( من ) زائدة على مذهب الأخفش ( ويفسح ) ، وفي نسخة : تفتح وهو غير ملائم لمد البصر ( له فيها ) ، أي : في تربته وهي قبره ، ويدل عليه مقابله الآتي ويضيق عليه قبره . وقال ابن الملك ، أي : في الجنة وهو بعيد . وقال ابن حجر ، أي : في رؤيته وهو لا يخلو عن تكلف ( مد بصره ) : المعنى أنه يرفع عنه الحجاب فيرى ما يمكنه أن يراه . قيل : نصب ( مد ) على الظرف أي مداه وهي الغاية التي ينتهي إليها البصر والأصوب أن نصبه على المصدر أي فسحا قدر مد بصره ، وقيل في التوفيق بين هذا وبين قوله : سبعون ذراعا في سبعين أن هذه الفسحة عبارة عما يعرض عليه من الجنة وتلك عن توسيع مرقده عليه أو كلاهما كناية عن التوسعة من غير تحديد ، ويحتمل أن يكون بحسب اختلاف أحوال الأشخاص في الأعمال والدرجات . وقال ابن حجر : مد بصره بالفتح في نسخة معتمدة فله نائب الفاعل وبرفعه في نسخ ، ويؤيده سبعون ذراعا السابق ( وأما الكافر فذكر ) ، أي صلى الله عليه وسلم كما في نسخة ( موته ) ، أي : حال موت الكافر وشدته ( قال ) ، أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - . ( ويعاد ) : بالتذكير وقيل بالتأنيث ( روحه ) : أي بعد الدفن ( في جسده ) ، أي : بعضه أو كله ( ويأتيه ملكان ، فيجلسانه فيقولان ) : أي له من ربك ؟ فيقول : هاه هاه ) : بسكون الهاء فيهما بعد الألف كلمة يقولها المتحير الذي لا يقدر من حيرته للخوف ، أو لعدم الفصاحة أن يستعمل لسانه في فيه ( لا أدري ) : هذا كأنه بيان وتفسير لقوله : هاه هاه فالمعنى لا أدري شيئا ما أو لا أدري ما أجيب به ( فيقولان له ) ، أي : للكافر ( ما دينك ) : من الأديان ( فيقول : هاه هاه لا أدري : فيقولان ) : أي له : ( ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ ) يعني ما تقول في حقه أنبي أم لا ( فيقول : هاه هاه لا أدري ) : قال تعالى : ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى ) فينادي مناد من السماء : أن كذب ) : أن مفسرة للنداء أيضا ، أي : كذب هذا الكافر في قوله : لا أدري لأن دين الله تعالى ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - كان ظاهرا في مشارق الأرض ومغاربها ، بل جحد نبوته بالقول أو بالاعتقاد بناء على أن كفره جهل أو عناد ( فأفرشوه من النار ، وألبسوه من النار ) . قال تعالى : ( سرابيلهم من قطران ) وافتحوا له بابا إلى النار .

[ ص: 214 ] وقال : - صلى الله عليه وسلم - : ( فيأتيه ) ، أي : الكافر ( من حرها ) ، أي : حر النار وهو تأثيرها ( وسمومها ) : وهي الريح الحارة ( قال : ويضيق ) : بتشديد الياء المفتوحة ( عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، ثم يقيض ) ، أي : يسلط ويوكل ويقدر ( له ) : فيستولي عليه استيلاء القيض على البيض ، وأصله من القيض وهو القشرة الأعلى من البيض ( أعمى ) ، أي : زبانية لا عين له " كيلا يرحم عليه ، وهو يحتمل أن لا يكون له عين لأجله أو كناية عن عدم نظره إليه ( أصم ) ، أي : لا يسمع صوت بكائه واستغاثته فيرق له ( معه مرزبة من حديد ) : المسموع في الحديث تشديد الباء ، وأهل اللغة يخففونها وهي التي يدق بها المدر ويكسر . قال ابن حجر : المرزبة بفتح الموحدة المشددة عند المحدثين ، واعترضوا بأن الصواب تخفيفها اهـ . ولعل وجهه أن مفعلة بتشديد اللام لا يعرف في أنواع الميزان الصرفي ، قال الطيبي : أما المرزبة فالمحدثون يشددون الباء ، والصواب تخفيفه وإنما تشدد الباء إذا أبدلت الهمزة من الميم وهي والأرزبة : ، وأنشد الفراء :

ضربك بالمرزبة العود النخر

اهـ .

أقول : أخطأ الطيبي رحمه الله في تخطئة المحدثين وتصويب اللغويين ، إذ نقل الأولين من طرق العدول على وجه الرواية ، ونقل الآخرين من سبيل الفضول على جهة الحكاية ، وأما استشهاده بإنشاد الفراء فضعيف إذ يحتمل تخفيفه ضرورة أو لغة أخرى ، وقد ذكرهما صاحب القاموس روح الله روحه أبدا فقال : الأرزبة والمرزبة مشددتان أو الأولى فقط : عصية من حديد اهـ . فظهر أن التشديد فيهما لغة مشهورة عند أكثر أهل اللغة ، فلو وافق بعض اللغويين جميع المحدثين لا شك ولا ريب أنه هو الصواب ، فكيف بالتكثير مع أنه عند التعارض أيضا يرجح جانب المحدثين لما تقدم . وأغرب من هذا طعن بعض علماء العربية في القراءات المتواترة حيث لم تكن على وفق مسموعهم وهو كفر ظاهر ، والله ولي دينه وحافظ كتابه وقادر على ثوابه وعقابه . ( لو ضرب بها ) ، أي : المرزبة ( جبل لصار ترابا ) ، أي : اندق أجزاؤه كالتراب ( فيضربه بها ) : وفي نسخة بها ساقط ( ضربة يسمعها ) ، أي : صوتها وحسها ( ما بين المشرق والمغرب ) : الظاهر أن ( ما ) بمعنى ( من إلا الثقلين ) ، أي : الجن والإنس وهل الأموات منهما مستثنى أم الله أعلم بهما ؟ فظاهر الإطلاق يؤيد الأول ، والعلة التي ذكروها يؤيد الثاني . ( فيصير ترابا ، ثم يعاد فيه الروح ) كرر إعادة الروح في الكافر بيانا لشدة العذاب ، ولأنه كان ينكر الإعادة ، فيقال له : ذق هذا جزاء بما كنت تنكره ، ولا يبعد أن يتمسك به من يقول : إن في القبر إماتتين وإحياءتين في تفسير قوله تعالى ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين على أن المراد بالتثنية التكرير والتكثير نحو قوله تعالى : ثم ارجع البصر كرتين وقولهم : لبيك وسعديك ، ويحتمل أن يراد به حقيقة التثنية وهو ظاهر الحديث ، وهذا معنى قول ابن حجر : ومعلوم استمرار العذاب عليه في قبره ، فيحتمل أنها إذا أعيدت تضرب أخرى فيصير ترابا ، ثم يعاد فيه الروح وهكذا ، ويحتمل أن تلك الإعادة لا تتكرر وأن عذابه يكون بغير ذلك وهو ظاهر الحديث .

وقال ابن الملك : يعني لا ينقطع عنهم العذاب بموتهم بل تعاد فيهم الروح بعد موتهم ليزدادوا عذابا ، ويمكن والله أعلم أن تكون إعادة الروح كناية عن رجوعهم إلى حالتهم الأولى ، ولا يلزم من صيرورتهم ترابا خروج الروح منهم لأن أمور الآخرة مبنية على خرق العادة . ( رواه أحمد ، وأبو داود ) .

[ ص: 215 ]



الخدمات العلمية