الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثالث

1508 - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : شكا الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قحوط المطر ، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ، ووعد الناس يوما يخرجون فيه ، قالت عائشة : فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بدا حاجب الشمس ، فقعد على المنبر ، فكبر وحمد الله ، ثم قال إنكم شكوتم جدب دياركم ، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم ، وقد أمركم الله أن تدعوه ، ووعدكم أن يستجيب لكم ثم قال : الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، لا إله إلا الله يفعل ما يريد ، اللهم أنت الله ، لا إله إلا أنت الغني ، ونحن الفقراء ، أنزل علينا الغيث ، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين ، ثم رفع يديه ، فلم يترك الرفع حتى بدا بياض إبطيه ، ثم حول إلى الناس ظهره ، وقلب أو حول رداءه ، وهو رافع يديه ، ثم أقبل على الناس ونزل ، فصلى ركعتين ، فأنشأ الله سحابة ، فرعدت وبرقت ، ثم أمطرت بإذن الله ، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول ، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه ، وقال : أشهد أن الله على كل شيء قدير ، وأني عبد الله ورسوله . رواه أبو داود .

التالي السابق


الفصل الثالث

1508 - ( عن عائشة قالت : شكا ) يكتب بالألف ، وقيل بالياء . ( الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قحوط المطر ) : بضم القاف أي : فقده . قال الطيبي : القحوط مصدر بمعنى القحط أو جمع ، وأضيف إلى المطر ليشير إلى عمومه في بلدان شتى . ( فأمر بمنبر ، فوضع له في المصلى ) : . قال ابن الهمام : وفيه أنه أمر بإخراج المنبر . وقال المشايخ : لا يخرج وليس إلا بناء على عدم حكمهم بصحته اهـ . أو بناء على عدم علمهم به ، والله أعلم . ( ووعد الناس يوما [ ص: 1111 ] يخرجون فيه ) أي : في ذلك اليوم . ( قالت عائشة : فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بدا ) : بالألف لا بالهمزة ، أي : ظهر . ( حاجب الشمس ) أي : أوله أو بعضه . قال الطيبي أي : أول طلوع شعاعها من الأفق . قال ميرك : الظاهر أن المراد بالحاجب ما طلع أولا من جرم الشمس مستدقا مشبها بالحاجب ، أقول : ويؤيده ما في المغرب حاجب الشمس : أول ما يبدو من الشمس مستعار من حاجب الوجه . ( فقعد على المنبر ، فكبر فحمد الله ) : قال مالك ، والشافعي ، وأحمد في الرواية المختارة عند أصحابه : تسن الخطبة ، وتكون بعد الصلاة خطبتان على المشهور ، ويستفتحهما بالاستغفار كالتكبير في العيد ، وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية المنصوص عليها : لا خطبة لها ، وإنما هي دعاء واستغفار . وقال ابن الهمام : روى أصحاب السنن الأربعة عن إسحاق بن عبد الله بن كنانة قال : أرسلني الوليد بن عتبة - وكان أمير المدينة - إلى ابن عباس أسأله عن استسقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى ، فلم يخطب خطبتكم هذه ، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير ، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد ، صححه الترمذي . قال صاحب الهداية : ثم هي خطبة العيد عند محمد . قال ابن الهمام : يعني فتكون خطبتين يفصل بينهما بجلوس ; ولذا قابله بقوله ، وعند أبي يوسف واحدة ، ولا صريح في المرويات يوافق قول محمد أنهما خطبتان .

( ثم قال : إنكم شكوتم ) أي : إلى الله ورسوله . ( جدب دياركم ) : بفتح الجيم وسكون المهملة أي : قحطها . ( واستئخار المطر ) أي : تأخره . قال الطيبي : والسين للمبالغة ، يقال : استأخر الشيء إذا تأخر تأخرا بعيدا . ( عن إبان زمانه ) : بكسر الهمزة وتشديد الباء أي : وقته ، من إضافة الخاص إلى العام ، يعني : عن أول زمان المطر ، والإبان أول الشيء . في النهاية : قيل : نونه أصلية فيكون فعالا ، وقيل : زائدة فيكون فعلان من آب الشيء يئوب إذا تهيأ للذهاب ، وفي حديث البعث : هذا إبان نجومه ، أي : وقت ظهوره ، وفي القاموس : إبان الشيء بالكسر حينه أو أوله . ( عنكم ) : متعلق باستئخار . ( وقد أمركم الله ) أي : في كتابه . ( أن تدعوه ) أي : دائما خصوصا عند الشدائد . ( ووعدكم أن يستجيب لكم ) : بقوله : ادعوني أستجب لكم ، ولا خلف في وعده . ( ثم قال : الحمد لله رب العالمين ) أي : في هذه الحال ، وفي جميع الأحوال . ( الرحمن الرحيم ) : المفيض على عباده الكافر والمؤمن ، في الدنيا والآخرة ، بالنعم الجليلة والدقيقة تارة في صورة النعماء ، ومرة في طريقة البلاء ، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم . ( مالك يوم الدين ) : بالألف في جميع النسخ ، أي : مالك كل شيء في كل حين ، والتخصيص له لعظمة يوم الدين ، وفيه إيماء إلى أن هذا البلاء مجازاة في الدنيا لما صدر من العباد من وجوه التقصير في العبودية . قال تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير . ( لا إله إلا الله ) : هو المنفرد بالألوهية ، المتوحد بالربوبية . ( ويفعل ما يؤيده ) ، ويحكم ما يشاء ، لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، وفيه إشارة إلى التفويض والتسليم ، وإيماء إلى أنه لا يجب عليه شيء ، كما روي : يا عبدي أريد وتريد ، ولا يكون إلا ما أريد ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط . قال بعض الصوفية : أريد وصاله ويريد هجري فأترك ما أريد لما يريد

وسأل البسطامي أبا يزيد : ما تريد ؟ قال : أريد أن لا أريد . قال شيخ الإسلام : عبد الله الأنصاري : هذه أيضا إرادة . ( اللهم أنت ) الله ، لا إله إلا أنت : أنت تأكيد . ( الغني ) : بذاته عن العبد وعبادته . ( ونحن الفقراء ) أي : المحتاجون إليك في الإيجاد والإمداد . ( أنزل علينا الغيث ) : وفي نسخة : غيثا أي : مطرا يغيثنا ويعيننا ; فإنا عرفنا قدر [ ص: 1112 ] نعمتك بعد فقدان بعضها . ( واجعل ما أنزلت لنا قوة ) أي : بالقوت حتى لا نموت ، ونتقوى به على عبادة الحي الذي لا يموت ، والمعنى اجعله منفعة لنا لا مضرة علينا . ( وبلاغا ) أي : زادا يبلغنا . ( إلى حين ) أي : من أحيان آجالنا . قال الطيبي : البلاغ ما يتبلغ به إلى المطلوب ، والمعنى اجعل الخير الذي أنزل علينا سببا لقوتنا ، ومددا لنا مددا طوالا . ( ثم رفع يديه ، فلم يترك الرفع ) : بل بالغ فيه . ( حتى بدا ) أي : ظهر . ( بياض إبطيه ) أي : موضعهما . ( ثم حول إلى الناس ظهره ) : واستقبل القبلة إشارة إلى التبتل إلى الله ، والانقطاع عما سواه . ( وقلب ) : بالتشديد . وفي نسخة بالتخفيف ، وفي رواية عفرة إبطيه ، ولا تخالف ; لأنها عفرة نسبية ، لا سيما مع وجود الشعر في ذلك المحل ، ودعوى أنه - عليه الصلاة والسلام - لم يكن له شعر فيه لم يثبت ، بل ثبت نتفه - صلى الله عليه وسلم - . ( أو حول ) شك من الراوي . ( رداءه ) : للتفاؤل وإرادة تقليب الحال من الملك المتعال . ( وهو رافع يديه ) : وفي نسخة : يده يعني هذه الحالة كانت موجودة في حال تحويل ظهره أيضا . ( ثم أقبل على الناس ) أي : بوجهه على وجه الاستئناس . ( ونزل ) أي : من المنبر . ( فصلى ركعتين ، فأنشأ الله ) أي : أوجد أو أحدث . ( سحابة ، فرعدت وبرقت ) بفتح الراء أي : ظهر فيها الرعد والبرق ، فالنسبة مجازية . في النهاية : برقت بالكسر بمعنى الحيرة ، وبالفتح من البريق اللمعان . ( ثم أمطرت بإذن الله ) : في شرح مسلم جاء في البخاري ومسلم : أمطرت بالألف ، وهو دليل للمذهب المختار الذي عليه الأكثرون ، المحققون من أهل اللغة : أن أمطرت ومطرت لغتان في المطر ، وقال بعض أهل اللغة : لا يقال : أمطرت إلا في العذاب ; لقوله تعالى : وأمطرنا عليهم حجارة . والمشهور الأول . قال تعالى : عارض ممطرنا ، وهو في الخير ; لأنهم يحبون خيرا . ( فلم يأت ) أي : - عليه الصلاة والسلام - من المحل الذي استسقى فيه من الصحراء . ( مسجده ) أي : النبوي في المدينة . ( حتى سالت السيول ) أي : من الجوانب . ( فلما رأى سرعتهم ) أي : سرعة مشيهم والتجائهم . ( إلى الكن ) : بكسر الكاف وتشديد النون ، وهو ما يرد به الحر والبرد من المساكن . ( ضحك حتى بدت نواجذه ) أي : آخر أضراسه . قال الطيبي : هو جواب الشرط ، وكان ضحكه تعجبا من طلبهم المطر اضطرارا ، ثم طلبهم الكن عنه فرارا ، ومن عظيم قدرة الله تعالى ، وإظهار قربة رسوله وصدقه بإجابة دعائه سريعا ، وبصدقه أتى بالشهادتين . ( فقال : أشهد أن الله على كل شيء قدير ، وأني عبد الله ورسوله . رواه أبو داود ) : وقال : حديث غريب ، وإسناده جيد .

قال ابن الهمام : وذلك الكلام السابق هو المراد بالخطبة كما قاله بعضهم ، ولعل الإمام أحمد أعله بهذه الغرابة أو بالاضطراب ، فإن الخطبة فيه مذكورة قبل الصلاة ، وفيما تقدم من حديث أبي هريرة بعدها ، وكذا في غيره ، وهذا إنما يتم إذا تم استبعاد أن الاستسقاء وقع حال حياته بالمدينة أكثر من سنتين . السنة التي استسقى فيها بغير صلاة ، والسنة التي صلى فيها ، وإلا فالله سبحانه أعلم بحقيقة الحال .

هذا ويستحسن أيضا الدعاء بما يؤثر عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه كان يدعو به في الاستسقاء وهو : اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا ، مريعا غدقا ، مجللا سحا ، عاما طبقا دائما ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم إن بالبلاد والعباد والخلق من اللأواء والضنك ما لا نشكو إلا إليك ، اللهم أنبت لنا الزرع ، وأدر لنا الضرع ، واسقنا من بركات السماء ، وأنبت لنا من بركات الأرض ، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا ، فأرسل السماء علينا مدرارا ، فإذا مطروا قالوا : اللهم صيبا نافعا ، ويقولون : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فإن زاد المطر حتى خيف [ ص: 1113 ] التضرر قالوا : اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام والظراب ، وبطون الودية ، ومنابت الشجر ، لما روي في الصحيحين : أن رجلا دخل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب فقال : يا رسول الله ، هلكت الأموال وانقطعت السبل ; فادع الله يغثنا . فقال - عليه الصلاة والسلام - : اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا . قال أنس : فلا والله ، ما نرى بالسماء من سحاب ولا قزعة ، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار . قال : فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس ، فلما توسطت السماء انتشرت ، ثم أمطرت ، فلا والله ، ما رأينا الشمس سبعا . قال : ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب فاستقبله قائما . فقال : يا رسول الله ، هلكت الأموال وانقطعت السبل ، فادع الله يمسكها عنا . قال : فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال : اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام والظراب ، وبطون الأودية ، ومنابت الشجر . فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس . وقياس ما ذكرنا من الاستسقاء إذا تأخر المطر عن أوانه فعله أيضا ، أو ملحت المياه المحتاج إليها أو غارت .




الخدمات العلمية