الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
148 - وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما ، فقال : يا قوم ! إني رأيت الجيش بعيني ، وإني أنا النذير العريان ! فالنجاء النجاء . فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا ، فانطلقوا على مهلهم ، فنجوا . وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم ، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق " متفق عليه .

التالي السابق


148 - ( وعن أبي موسى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما مثلي ) : المثل بفتحتين الصفة العجيبة وهو في الأصل بمعنى المثل الذي هو النظير ، ثم استعير للقول السائر : المثل مضربه بمورده ، وذلك لا يكون إلا قولا فيه غرابة من قصة وحال وصفة ( ومثل ما بعثني الله به ) ، أي : إلى أمتي ، وقيل ( ما ) بمعنى ( من ) ، أي : من أرسلني إليه ( كمثل رجل ) : قيل : هذا من التشبيهات المفروقة وهي أن يؤتى بمشبه ومشبه به ثم بآخر وآخر وسيأتي بيانه ( أتى قوما ) ، أي : لينذرهم بقرب عدوهم منهم وأنهم لا قدرة لهم على لقائه ، وإنما الذي ينجيهم منه أنهم يهربون [ ص: 231 ] عنه ، وذلك الرجل من أجلتهم وأمين من أخباره عندهم ( فقال : يا قوم ! إني رأيت ) ، أي : أبصرت ( الجيش ) ، أي : العسكر الكثير المتوجه إليكم ( بعيني ) : للتأكد ودفع توهم المجاز ، وهو بالتثنية وتشديد الياء الأخيرة . وروي بالإفراد وتخفيف الياء ( وإني أنا النذير ) : فيه الحصر ( العريان ) ، أي : بلا غرض ، والنذير العريان : مثل مشهور سائر بين العرب يضرب لشدة الأمر ودنو المحذور وبراءة المحذر عن التهمة ، وأصله أن الرجل إذا رأى العدو قد هجم على قومه ، وأراد أن يفاجئهم وكان يخشى لحوقهم قبل لحوقه تجرد عن ثوبه وجعله على رأس خشبة وصاح ليأخذوا حذرهم ، وقيل : هو الذي غشيه العدو وكان ربيئة قومه ، أي : جاسوسهم ، فأخذوه وتعلقوا بثيابه فانسل منها ولحق بقومه فأنذرهم ، فلما رأوه على حالته تلك ارتحلوا عن آخرهم ، وقيل : إنه الذي سلب العدو ما عليه من الثياب فأتى قومه عريانا يخبرهم فصدقوه لما عليه من آثار الصدق ، وخص العريان بالذكر لأنه أبين في العين وأغر وأشنع عند البصر ( فالنجاء النجاء ) : في أكثر النسخ مرتين .

وفي نسخة مرة وهو بالمد على الأصح مصدر نجا إذا أسرع . يقال : ناقة ناجية أي مسرعة . قال ابن الملك : بالفاء والمد والقصر نصب على الإغراء ، أي : اطلبوا النجاء أو على المصدر ، أي : انجوا وهو الإسراع ، كرر للتأكيد . قيل في " شرح السنة " وبعض نسخ " المصابيح " مرة ، وفي كثير منها مرتين . قال الطيبي : روى الإمام عن القاضي عياض المعروف في " صحيح البخاري : إذا أفرد النجاء مد ، وحكى أبو زيد فيها القصر ، وأما إذا كرر ففيه المد والقصر معا اهـ .

ونقل الأبهري عن الشيخ بالمد فيهما وبمد الأولى وقصر الثانية وبالقصر فيهما تخفيفا ، وهو منصوب على الإغراء ، أي : اطلبوا النجاء بأن تسرعوا الهرب إشارة إلى أنهم لا يطيقون مقاومة ذلك الجيش ( فأطاعه طائفة من قومه ) . قال الطيبي : الإطاعة تتضمن التصديق يعني فيحسن مقابلته بقوله : كذبت فيما يأتي ( فأدلجوا ) : همزة قطع ثم سكون هو الصحيح ، أي : ساروا أول الليل أو ساروا الليل كله على اختلاف في مدلول هذه اللفظة ، وأما بالوصل والتشديد على أن المراد به سير آخر الليل فلا يناسب هذا المقام كذا ذكره الأبهري . وقال الطيبي ، أي : ساروا في الدلجة وهي الظلمة ، وقال السيد جمال الدين : والدلجة أيضا السير في الليل ، وكذا الدلج بفتح اللام ، وادلجوا بتشديد الدال ساروا آخر الليل ( فانطلقوا ) ، أي : ذهبوا وساروا ( على مهلهم ) : بفتح الميم ويسكن .

وقال الطيبي : المهل بالحركة الهيئة والسكون وبالسكون الإمهال . قال الإمام النووي في نسخ " مسلم " : بضم الميم وإسكان الهاء وبتاء بعد اللام ، وفي الجمع بين " الصحيحين " مهلهم بحذف التاء وفتح الميم والهاء وكلاهما صحيحان اهـ . لكن لم يوجد في نسخ " المشكاة " إلا بدون التاء اختيارا للفظ البخاري على لفظ مسلم لكونه أصح ( فنجوا ) ، أي : بسبب تصديق المنذرين ( وكذبت طائفة منهم ) . قال الطيبي : التكذيب يستتبع العصيان يعني فيه إيماء إلى ما قدمناه ( فأصبحوا مكانهم ) ، أي : دخلوا وقت الصباح في مكانهم ( فصبحهم ) : بتشديد الباء ( الجيش ) ، أي : أتاهم جيش العدو صباحا للإغارة ( فأهلكهم واجتاحهم ) : بالجيم في الأولى والمهملة في الثانية ، أي : استأصلهم وأهلكهم بالكلية بشؤم التكذيب ، وهذا فائدة الجمع بينهما ( فذلك ) ، أي : المثل المذكور ( مثل من أطاعني فاتبع ) : وفي نسخة بالواو ( ما جئت به ) ، أي : من الحق ، وهذا ليعلم أنه لا ينبغي أن يستروح بظاهر الطاعة عن اتباع ما جاء به ( ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق ) . قال السيد جمال الدين : من التشبيهات المفروقة شبه ذاته عليه الصلاة والسلام بالرجل ، وما بعثه الله به من إنذار القوم بعذاب الله القريب بإنذار الرجل قومه بالجيش المصبح ، وشبه من أطاعه من أمته ومن عصاه بمن صدق الرجل في إنذاره ، وكذبه اهـ . فهو على حد قول امرئ القيس :

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي

شبه القلوب الرطبة بالعناب واليابسة بالحشف على التفريق بطريق اللف والنشر المرتب ( متفق عليه ) .

[ ص: 232 ]



الخدمات العلمية