الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1779 - وعن أبي حميد الساعدي قال : استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة ، فلما قدم قال : هذا لكم ، وهذا أهدي لي . فخطب النبي - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " أما بعد ، فإني أستعمل رجالا منكم على أمور مما ولانى الله ، فيأتي أحدهم فيقول : هذا لكم وهذه هدية أهديت لي ، فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى له أم لا ، والذي نفسي بيده ، لا يأخذ أحد منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء ، أو بقرا له خوار ، أو شاة تيعر " ، ثم رفع يده حتى رأينا عفرة إبطيه ثم قال : " اللهم هل بلغت ، اللهم هل بلغت " . متفق عليه . قال الخطابي : وفي قوله : " هلا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا " دليل على أن كل أمر يتذرع به إلى محظور فهو محظور ، وكل دخيل في العقود ينظر هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران أم لا . هكذا في شرح السنة .

التالي السابق


1779 - ( وعن أبي حميد ) بالتصغير ( الساعدي قال : استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا من الأزد ) بفتح الهمزة قبيلة من بطون قحطان ( يقال له ابن اللتبية ) بضم اللام وسكون التاء ، فوقها نقطتان ، وقد تفتح نسبة إلى بني لتب ، قبيلة معروفة ، واسمه عبد الله ، قال النووي - رحمه الله - : هو بضم اللام وسكون التاء ، ومنهم من فتحها ، قالوا : وهو خطأ ، والصواب بإسكانها ، وقال ابن الأثير في الجامع : بضم اللام وفتح التاء والمعنى جعله عاملا ( على الصدقة ) وساعيا في أخذها ( فلما قدم ) أي المدينة بعد رجوعه من العمل ( قال : هذا ) إشارة لبعض ما معه من المال ( لكم وهذا ) إشارة لبعض آخر ( أهدي لي فخطب النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي الناس ليعلمهم وليحذرهم من فعله ( فحمد الله ) أي شكره شكرا جزيلا ( وأثنى عليه ) أي ثناء جميلا ( ثم قال : أما بعد ) أي بعد الحمد والثناء ( فإني أستعمل رجالا منكم ) أي أجعلهم عمالا ( على أمور مما ولاني الله ) أي جعل حاكما فيه ( فيأتي أحدهم ) أي من العمال وروعي فيه الإجمال ولم يبين عينه سترا وتكرما عليه ( فيقول هذا لكم وهذه ) أنث لتأنيث الخبر وهي ( هدية أهديت لي ) أي أعطيت لي ، أو أرسلت إلي هدية ( فهلا جلس ) أي لم لم يجلس ( في بيت أبيه أو بيت أمه ) أو للتنويع أو للشك ، وهذا تغيير لشأنه ، وتحقير له في حد ذاته ، يعني أنه عرض له التعظيم من حيث عمله ( فينظر ) بالنصب على جواب قوله فهلا يجلس أي فيرى أو ينتظر ( أيهدى له ) أي شيء في بيته الأصلي ( أم لا ) لعدم الباعث العرضي ، قال ابن الملك : يعني لا يجوز للعامل أن يقبل هدية لأنه لا يعطه أحد شيئا إلا لطمع أن يترك بعض زكاته ، وهذا غير جائز اهـ . ويمكن أنه يعطى لغير هذا الغرض أيضا ، لكن حيث إنه يعطى من حيث العمل ، وله أجرة العمل من هذا المال ، فليس له أن يأخذ من جهتين ، فهو أحد الشركاء ، وما أعطي له يكون داخلا من جملة المال ( والذي نفسي ) أي ذاتي أو روحي ( بيده ) أي بقبضة تصرفه ( لا يأخذ أحد ) أي خفية أو علانية ( منه ) أي مال الصدقة ( شيئا ) أي أصالة أو تبعا ( إلا جاء به يوم القيامة ) أي صار سببا لمجيئه ( يحمله ) حال أو استئناف بيان ( على رقبته ) أي تشهيرا [ ص: 1270 ] أو افتضاحا ، قيل في الآية وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم وأجيب بأن الظهور يشمل ما هو قريب منها ، أو ذاك في أوزار الكفار ، وهذا في أوزار الفجار ، لمزيد قبحها باعتبار أن فيها حق الله ، وحق عباده ( إن كان ) أي المأخوذ ( بعيرا له ) أي للبعير ( رغاء ) بضم الراء صوت للبعير ، قال الطيبي : أي فله رغاء فحذف الفاء من الجملة الاسمية ، وهو سائغ لكنه غير شائع . اهـ ( أو بقرا له خوار ) بضم المعجمة صوت البقر ( أو شاة ) بالنصب ( تيعر ) بفتح التاء وسكون الياء وكسر العين ، وفتحها أي تصيح ليعلم أهل العرصات فيكون أشهر في فضيحته وأكثر في سلامته ( ثم رفع يديه ) أي وبالغ في رفعهما ( حتى رأينا عفرة إبطيه ) أي بياضهما ، والعفرة بالضم بياض ليس بخالص ، ولكن كلون العفر بالتحريك ، أي التراب ، أراد منبت الشعر من الإبطين لمخالطة بياض الجلد سواد الشعر ، ولا يخفى أن ذلك إنما يكون عند نتف الشعر ، أو حلقه ، أو باعتبار ما يرى من البعد ( ثم قال : اللهم هل بلغت ) أي الوعيد أو ما أمرتني به ( اللهم هل بلغت ) كرر ذلك تأكيدا للحجة عليهم ، والظاهر أن الاستفهام للتقرير ، وقيل هل بمعنى قد ( متفق عليه ، قال الخطابي : وفي قوله : هلا جلس في بيت أمه أو أبيه ) كذا في الأصل وهو إما كذا في روايته ، وإما نقل بالمعنى ، ولكن مقتضى المقام تقديم الأب فإنه مشعر بزيادة الإكرام ، فيكون قوله في الحديث ، أو " بيت أمه " محمولا على التنزل أو على تقدير أن ليس له أب معروف ، ففيه تهجين لحاله ( فينظر أيهدى إليه ) وهذا أيضا تفسير له ، أو نقل معنوي أو رواية ( أم لا دليل على أن كل أمر يتذرع ) بالذال المعجمة على بناء المفعول أي يتوسل ( به إلى محظور فهو محظور ) أي ممنوع ومحرم ، ويدخل في ذلك القرض يجر المنفعة ، والدار المرهونة يسكنها المرتهن بلا كراء ، والدابة المرهونة يركبها أو يرتفق بها من غير عوض ( وكل دخيل ) بالرفع وقيل بالنصب أي كل عقد يدخل ( في العقود ) ويضم إلى بعضها ( ينظر ) أي فيه ( هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران أم لا ) فعلى الأول يصح ، وعلى الثاني لا يصح كما إذا باع من أحد متاعا يساوي عشرة بمائة ليقرضه ألفا مثلا يدفع ربحه إلى ذلك الثمن ، ومن رهن دارا بمبلغ كثير وأجره بشيء قليل فقد ارتكب محظورا ، قال الطيبي : ولما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن بعض أمته يرتكبون هذا المحظور بالغ حيث قال : " اللهم هل بلغت " مرتين ( هكذا ) أي نقله البغوي عنه ( في شرح السنة ) وعليه الإمام مالك ، وفرع على هذا الأصل في الموطأ أمثلة : منها أن الرجل يعطي صاحبه الذهب الجيد ويجعل معه رديئا ، ويأخذ منه ذهبا متوسطا مثلا بمثل ، فقال : هذا لا يصلح لأنه أخذ فضل جيده من الرديء ولولاه لم يبايعه . اهـ وما قاله في الكلية الأولى فهو موافق لمذهبنا ، ومذهب الشافعي لأن من القواعد المقررة أن للوسائل حكم المقاصد ، فوسيلة الطاعة طاعة ، ووسيلة المعصية معصية ، وأما ما قاله من الكلية الثانية فإنما يليق بمذهب من منع الحيل الموصلة إلى الخروج عن الربا ، أو غيره كمالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم ، ممن يرى إباحة الحيل لا ينظرون إلى هذا الدخيل ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم عامله على خيبر ، وقد قال له : إنه يشترى صاع تمر جيد بصاعي رديء حيلة تخرجه عن الربا ، وهي أن يبيع الرديء بدراهم ويشتري بها الجيد ، فافهم أن كل عقد توسط في معاملة أخرجها عن المعاملة المؤدية إلى الربا جائز ، هذا وقد حكى الغزالي أن من أعطى غيره شيئا وليس الباعث عليه إلا الحياء من الناس كأن سئل بحضرتهم شيئا فأعطاه إياه ولو كان وحده لم يعطه ، الإجماع على حرمة أخذه مثل هذا ، لأنه لم يخرج عن ملكه لأنه في الحقيقة مكره بسبب الحياء ، فهو كالمكره بالسيف ، وقال غيره : من أعطى غيره شيئا مداراة عن عرضه حكمه كذلك ، وكذا من أعطى حاكما أو ساعيا أو أسيرا شيئا علم المعطى من حاله أنه لا يحكم له بالحق أو لا يأخذ منه الحق إلا إن أخذ شيئا ففي كل هذه الصور وما أشبهها لا يملك الآخذ لقوله - صلى الله عليه وسلم - هدايا العمال غلول ، ولضعف دلالة الإعطاء على الملك أثر القصد المخرج له عن مقتضاه بخلاف العقد فإنه دال قوي على الملك ، فلم يؤثر فيه قصد قارنه على أن القصد هاهنا صالح ، وهو التخلص عن الربا ، وفي تلك الصور فاسد ، وهو أخذ مال الغير بغير حق .




الخدمات العلمية