الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1878 - وعنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى ، فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا ، فأتى الأبرص فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : لون حسن وجلد حسن ، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس " ، قال : " فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا

قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل أو قال البقر " - شك إسحاق - إلا أن الأبرص أو الأقرع قال أحدهما : الإبل وقال الآخر : البقر ، قال : " فأعطي ناقة عشراء ، فقال : بارك الله لك فيها " ، قال : " فأتى الأقرع فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قد قذرني الناس " ، قال : " فمسحه فذهب عنه " ، قال : " وأعطي شعرا حسنا ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : البقر ، فأعطي بقرة حاملا ، قال : بارك الله لك فيها " ، قال : " فأتى الأعمى فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس " ، قال : " فمسحه فرد الله إليه بصره ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الغنم ، فأعطي شاة والدا ، فأنتج هذان وولد هذا ، فكان لهذا واد من الإبل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من الغنم " ، قال : " ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال : رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك

أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ به في سفري ، فقال : الحقوق كثيرة ، فقال : إنه كأني أعرفك ، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله مالا ؟ فقال : إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر ، فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت " قال : " وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا ورد عليه مثل ما رد على هذا ، فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت " قال : " وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال : رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري ، فقال : قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري فخذ ما شئت ودع ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله ، فقال : أمسك مالك فإنما ابتليتم ، فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك
" . متفق عليه .

التالي السابق


1878 - ( وعنه ) أي : عن أبي هريرة ( أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى ) منصوبات على البدلية من " ثلاثة " ( فأراد الله أن يبتليهم ) أي : يمتحنهم ليعرفوا أنفسهم أي : ليعرفهم الناس أو ليعلم - تعالى - أحوالهم علم ظهور كما يعلمها علم بطون ، قال الطيبي : هو خبر إن عند من يجوز دخول الفاء في خبرها ، ومن لم يجوز قدر الخبر أي : فيما أقص عليكم ، فقوله فأراد تفسير للمجمل ، ولو رفع " أبرص " وما عطف عليه بالخبرية تعين للتفسير اهـ . يعني أن رفعها بتقدير أحدهم أبرص أو منهم أبرص ( فبعث إليهم ملكا ) أي : في صورة رجل مسكين كما دل عليه قوله الآتي في صورته وهيئته ( فأتى الأبرص فقال ) أي : الملك ( أي شيء أحب إليك ) أي : من الأحوال ( قال : لون حسن ) كالبياض ( وجلد حسن ) أي ناعم طري ( ويذهب عني ) بالرفع كقوله أحضر الوغى ، وفي نسخة علي بصيغة المجهول أي : يزول عني ( الذي قد قذرني الناس ) بكسر المعجمة أي : كرهوا مخالطتي من أجله وهو البرص ( قال ) أي : النبي ( فمسحه ) أي : الملك ( فذهب عنه قذره ) بفتحتين ( وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا ، قال ) [ ص: 1328 ] أي : الملك ( فأي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل أو قال البقر - شك إسحاق - ) قال الطيبي : هو إسحاق بن عبد الله أحد رواة هذا الحديث ، أقول : والإبل أرجح بقرينة قوله الآتي فأعطني ناقة بصيغة الجزم ( إلا أن الأبرص أو الأقرع ) استثناء من الشك ( قال أحدها : الإبل ، وقال الأخر : البقر ) أي : لم يشك إسحاق في هذا بل في التعيين ؛ قاله الطيبي ( قال ) أي : النبي ( فأعطي ) أي : طالب الإبل لا الأبرص كما جزم به ابن حجر ( ناقة عشراء ) بضم العين وفتح الشين والمد : التي أتى على حملها عشرة أشهر ثم أطلق على الحامل مطلقا ( فقال ) أي : الملك ( بارك الله لك فيها ، قال : فأتى الأقرع فقال أي شيء أحب إليك ؟ قال : شعر حسن ) بفتح العين وتسكن ( ويذهب عني الذي قد قذرني الناس ، قال : فمسحه فذهب عنه ، قال : وأعطي شعرا حسنا ، فقال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : البقر ، فأعطي بقرة حاملا ، قال : بارك الله لك فيها ، قال : فأتى الأعمى فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : أن يرد الله إلي بصري فأبصر ) بالنصب والرفع ( به الناس ، قال : فمسحه فرد الله إليه بصره ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الغنم ، فأعطي شاة والدا ) قيل : هي التي عرف منها كثرة النتاج وقيل : الحامل ( فأنتج ) بصيغة الفاعل من الإنتاج ، قال الطيبي : هكذا الرواية ومعناه تولي الولادة والمشهور نتج والناتج للإبل كالقابلة للنساء ، وقال ابن حجر : أي : استولد الناقة والبقرة ( هذان ) أي : الأبرص والأقرع ( وولد ) فعل ماض معلوم من التوليد بمعنى الإنتاج ( هذا ) أي : الأعمى ( فكان لهذا ) أي : للأبرص ( واد من الإبل ولهذا ) أي : للأقرع ( واد من البقر ولهذا ) أي : للأعمى ( واد من الغنم قال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ثم أنه ) أي : الملك ( أتى الأبرص في صورته ) أي : التي جاء الأبرص عليها أول مرة ( وهيئته ) قال الطيبي : ولا يبعد أن يكون الضمير راجعا إلى الأبرص لعله يتذكر حاله ويرحم عليه بماله ، والأول أظهر في الحجة عليه حيث جاءه في صورته التي تسبب في جماله وحصول كثرة ماله ( فقال ) أي : له ( رجل مسكين ) أي : أنا ( قد انقطعت بي الحبال ) أي : الأسباب ( في سفري ) قال الطيبي : الباء للتعدية ، قال السيد جمال الدين : فيه تأمل لأن المعنى لا يساعد التعدية ، والأصوب أن يقال بالباء بمعنى من كما في قوله - تعالى - يشرب بها عباد الله اهـ . والأظهر أن الباء للسببية والملابسة كما في قوله - تعالى - وتقطعت بهم الأسباب والحبال بكسر المهملة بعدها موحدة جمع الحبل وهو العهد والزمان والوسيلة وكل ما ترجو فيه خيرا أو فرجا أو تستدفع به ضررا والحبل هاهنا السبب ، فكأنه قال : انقطعت بي الأسباب ، وفي شرح الشيخ ابن حجر العسقلاني أي : الأسباب التي يقطعها في طلب الرزق ، ولبعض رواة مسلم " الحيال " بالمهملة والتحتانية جمع حيلة أي : لم تبق لي حيلة ، ذكره السيد جمال الدين وقال ابن الملك وفي بعض نسخ البخاري " الجبال " بالجيم وهو جمع جبل أي : طال سفري وقعدت عن بلوغ حاجتي ( فلا بلاغ ) أي : كفاية ( لي اليوم إلا بالله ) أي : إيجادا وإمدادا ( ثم بك ) أي : سببا وإسعادا وفيه من حسن الأدب ما لا يخفى حيث لم يقل وبك ، وثم لتراخي الرتبة والتنزل في المرتبة ، قال الطيبي : أمثال ذلك من الملائكة ليست إخبارا بل من معاريض الكلام كقول إبراهيم : إني سقيم اهـ . وكقولهم : [ ص: 1329 ] " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة " الآية ( أسألك ) أي : مقسما عليك أو متوسلا إليك ( بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال ) أي : الإبل ( بعيرا ) مفعول أسألك أي : أطلب منك بعيرا ( أتبلغ به في سفري ) أي إلى مقصودي أو وطني ( فقال : الحقوق كثيرة ) أي : حقوق المال كثيرة علي ولم أقدر على أدائها أو حقوق المستحقين كثيرة فلم يحصل لك البعير ، وقد أراد به دفعه وهو غير صادق فيه ( فقال : إنه ) أي : الشأن ( كأني أعرفك ) ونكتة التشبيه المغالطة لتمكنه المكابرة ( ألم تكن أبرص ؟ ) أي : قد كنت أبرص ( يقذرك الناس ) بفتح الذال أي : يكرهونك ويستقذرونك وهو حال كقوله ( فقيرا ) أو هذا خبر ثان وهو الأظهر لقوله ( فأعطاك الله ) أي : مالا أو جمالا ومالا ( فقال : إنما ورثت هذا المال كابرا ) حال ( عن كابر ) أي : كبيرا أخذا عن كبير أو كبيرا بعد كبير والمعنى حال كوني أكبر قومي سنا ورياسة ونسبا وأخذا عن آبائي الذين هم كذلك حسبا ، ونعم من قال من أرباب الحال : -


كأن الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ولم يك صعلوكا إذا ما تمولا



وهذا من باب الاكتفاء في الجواب فإنه يلزم عرفا من التكذيب في شيء تكذيبه في آخر ( فقال ) أي : الملك ( له إن كنت كاذبا ) أورد بصيغة الماضي لأنه أراد المبالغة في الدعاء عليه كذا في فتح الباري ووجهه غير ظاهر ، وقيل : ذكر ( إن ) دون ( إذا ) مع أن كذبه كان مقطوعا به عند الملك لقصد التوبيخ وتصوير أن الكذب في مثل هذا المقام يجب ألا يكون إلا على مجرد الفرض والتقدير اهـ . وفيه ما فيه ، والأظهر أنه عدل عن " إذا كذبت " إلى قوله " إن كنت كاذبا " بصيغة الماضي وبالوصف الدال على المتصف بالكذب غالبا للإشارة إلى أن مثل هذا يستحق الدعاء عليه ، ولا يبعد أن تكون إن بمعنى إذا كما قيل في قوله - تعالى - وخافون إن كنتم مؤمنين ( فصيرك الله إلى ما كنت ) من البرص والفاقة أي : جعلك حقيرا فقيرا ( قال : وأتى الأقرع في صورته ) لم يقل هنا وهيئته اختصارا أو اكتفاء ( فقال له مثل ما قال لهذا ) أي : لهذاك ( ورد عليه مثل ما رد على هذا ، فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت ) قال ميرك : فإن قلت لم دخل الفاء في الجزاء وهو فعل ماض قلت هو دعاء اهـ . أي : هذا في معنى الدعاء فلذا جاز دخول الفاء وإن جعل خبرا يكون التقدير فقد صيرك الله ( قال : وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال : رجل مسكين وابن سبيل ) أي : مسافر ( انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري ، فقال ) اعترافا وتحدثا بنعمة الله ( قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري فخذ ما شئت ودع ما شئت فوالله لا أجهدك ) بفتح الهمزة والهاء وفي نسخة بضم الهمزة وكسر الهاء أي : لا أستفرغ طاقتي ( اليوم بشيء ) أي : بمنع شيء ( أخذته لله - تعالى - ) كذا قاله الطيبي ، ولا يخفى أن هذا المعنى لا يناسب المقام بل الأولى أن يقال معناه لا أشق عليك في رد شيء تطلبه مني أو تأخذه من مالي كما نقله الشيخ ابن حجر العسقلاني عن القاضي عياض ، والله أعلم ، ذكره السيد جمال الدين ( قال : أمسك مالك ؛ فإنما ابتليتم ) أي : أنت ورفيقاك والمعنى اختبرتم ، هل تذكرون سوء حالتكم وشدة خدمتكم أولا وتشكرون نعمة ربكم عليكم آخرا ؟ ( فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك ) بصيغة المجهول فيهما ( متفق عليه ) .

[ ص: 1330 ]



الخدمات العلمية