الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 274 ] 193 - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : من كان مستنا ; فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا أفضل هذه الأمة ، أبرها قلوبا وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا اختارهم الله لصحبة نبيه ، ولإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم على آثارهم ، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم ، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم . رواه رزين .

التالي السابق


193 - ( وعن ابن مسعود قال : من كان مستنا ) : بتشديد النون أي : مقتديا بسنة أحد وطريقته ( فليستن بمن قد مات ) أي : على الإسلام والعلم والعمل ، وعلم حاله وكماله على وجه الاستقامة . قال الطيبي : أخرج الكلام مخرج الشرط والجزاء تنبيها به على الاجتهاد وتحري طريق الصواب بنفسه بالاستنباط من معاني الكتاب والسنة ، فإن لم يتمكن فليقتد بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنهم نجوم الهدى وكان ابن مسعود يوصي القرون الآتية بعد قرون الصحابة والتابعين باقتفاء أثرهم والاهتداء بسيرهم وأخلاقهم ا هـ .

والظاهر أنه يوصي التابعين ومن بعدهم تبع لهم بالاقتداء بالصحابة ، لكن خص أمواتهم لأنه علم استقامتهم على الدين واستدامتهم على اليقين بخلاف من بقي منهم حيا فإنه يمكن منهم الافتتان ووقوع المعصية والطغيان ، بل الردة والكفران لأن العبرة بالخاتمة ، وهذا تواضع منه في حقه - رضي الله عنه - لكمال خوفه على نفسه ، ولما رأى من الفتن العظيمة ووقوع الهالكين فيها وإلا فهو ممن يقتدى به حيا وميتا ، وقد شهد له عليه الصلاة والسلام بالجنة وقال : " رضيت لأمتي ما رضي لهم " وأنه أفقه الصحابة بعد الخلفاء الأربعة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ولذا اختار الإمام الأعظم تشهده على تشهد ابن عباس ويؤيد ما قلنا قوله : ( فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ) . قال الطيبي : الفتنة كالبلاء يستعملان فيما يدافع إليه الإنسان من الشدة والرخاء ا هـ . وهما في الشدة أظهر ، وأما قول الطيبي : لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا قد أمنوا من الفتنة . قال تعالى : إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم ففيه نظر ظاهر ( أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم ) : إشارة إلى من مات ، أفرد الضمير في " مات " نظرا إلى اللفظ . وقال : ( أولئك ) نظرا إلى المعنى كذا ذكره الطيبي ، وفيه إشارة إلى أن الصحابي الحقيقي هو الذي لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمن به ومات على الإيمان ، وأما من عاش منهم فهو في خطر من الردة ، سواء آمن بعدها أو لا ، فإن بالردة تبطل الصحبة في مذهبنا ( كانوا أفضل هذه الأمة ) أي : أمة الإجابة وهم خير أمة فكانوا أفضل الأمم .

قال الطيبي : إشارة إلى ما في الذهن من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى انقراض العالم ا هـ . أو يقال : الإشارة إلى الموجودين في القرن الثاني ويلزم منه الأفضلية على سائر القرون لحديث : " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم " الحديث . ( أبرها قلوبا ) أي : أطوعها وأحسنها وأخلصها وأعلمها أو أكثرها إيمانا قال تعالى : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر الآية . وقال عز وجل : أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى أي ضربها بأنواع المحن والتكليفات الصعبة والشدائد التي لا تطاق لأجل أن يختبر ما عندها من التقوى ، إذ لا تظهر حقيقتها إلا عند ذلك فوجدها مع ذلك على غاية من الانقياد والرضا أو أخلصها للتقوى من قولهم : امتحنت الذهب وفتنته إذا أذبته بالنار حتى خرج خالصا نقيا ، أو أذهب الشهوات والحظوظ الدنيوية عنها كما قاله عمر - رضي الله عنه - . ( وأعمقها علما ) أي : أكثرها غورا من جهة العلم وأدقها فهما وأوفرها حظا من [ ص: 275 ] العلوم المختلفة كالتفسير والحديث والفقه والقراءة والفرائض والتصوف لسعة صدورهم وشرح قلوبهم ، فكان كل واحد منهم أمة جامعا للشمائل السنية والفضائل البهية لا توجد غالبا إلا في جماعة ، وأما من بعدهم فقد افترقوا فبعضهم صار مفسرا وبعضهم محدثا وغير ذلك لعدم تلك القابلية العظمى والاستعدادات الكاملة العليا ، ولذا اعترض الشيخ جلال الدين السيوطي على العلامة التفتازاني في قوله عند قوله تعالى : يسألونك عن الأهلة أن الجواب من أسلوب الحكيم فإنهم ما كانوا يدركون تحقيق ماهية الأهلة ، ولذا عدل إلى قوله : قل هي مواقيت للناس والحج مع أن السائل من أجلاء الصحابة وهو معاذ بن جبل الذي قال عليه الصلاة والسلام في حقه : " هو أعلمكم بالحلال والحرام " . ( وأقلها تكلفا ) أي : في العمل فإنهم كانوا يمشون حفاة ، ويصلون على الأرض ، ويأكلون من كل آنية ، ويشربون من سؤر الناس ، وكذا في العلم فإنهم كانوا لا يتكلمون إلا فيما يعنيهم ، ويقولون فيما لا يدرون : لا ندري ، وكانوا يتدافعون الفتوى عن أنفسهم ويشيرون إلى من هو أعلم منهم ، وكذا في القراءة فإنهم كانوا يتلون القرآن حق تلاوته على لحون العرب من غير النغمات والتمطيطات وغيرها ، وكذا في الأحوال الباطنية فإنهم ما كانوا يرقصون ولا يصيحون ولا يطيحون ولا يطرقون ، ولا يجتمعون للغناء والمزامير ، ولا يتحلقون للأذكار والصلوات برفع الصوت في المساجد ولا في بيوتهم ، بل كانوا فرشيين بأبدانهم ، عرشيين بأرواحهم ، كائنين مع الخلق في الظاهر ، بائنين عن الخلق مع الحق في الباطن ، وكانوا يلبسون ما تيسر لهم من الصوف والقطن والكتان ، غير متقيدين بالأوصاف المخصوصة والمرقعات المنتقشة ، وكانوا يأكلون ما تهيأ لهم من الحلالات والمستلذات ، غير محترزين من اللحم أو اللبن أو الفواكه وغير ذلك ، وكل هذا بتربية النبي - صلى الله عليه وسلم - المربي الكامل المكمل الذي قال : " أدبني ربي فأحسن تأديبي " كما أشار إليه - رضي الله عنه - بقوله : ( اختارهم الله ) أي : من بين الخلائق ( لصحبة نبيه ) : الذي كان كالإكسير في كمال التأثير ( ولإقامة دينه ) : فإنهم نقلة أقواله وحملة أحواله إلى من بعدهم ، وأيضا جاهدوا حق الجهاد حتى فتحوا البلاد وأظهروا الدين للعباد ، مع اشتغالهم بأحوال المعاش والمعاد ، جزاهم الله عن المسلمين خير الجزاء في يوم التناد ( فاعرفوا لهم فضلهم ) أي : على غيرهم وإن كان بعضهم أفضل من بعض ، أي زيادة قدرهم في كل شيء من العلم والعمل والغزو والإنفاق ومزية الثواب وغيرها كما قال تعالى : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ( واتبعوهم ) : بتشديد التاء أي : كونوا متبعين لهم حال كونكم ماشين ( على أثرهم ) : بفتحهما وبكسر الهمزة وسكون المثلثة أي : عقبهم في العلم والعمل ، فإنهم اتبعوا أثر النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما شاهدوا من الأقوال والأحوال والأفعال ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ( وتمسكوا ) أي : خذوا واعملوا ( بما استطعتم ) : وفيه إشارة إلى عجز المتأخرين عن المتابعة الكاملة ، لكن ما لا يدرك [ ص: 276 ] كله لا يترك كله والمحبة على قدر المتابعة كما أن المتابعة على قدر المحبة . قال تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ( من أخلاقهم ) : الحميدة ( وسيرهم ) : السعيدة ( فإنهم كانوا على الهدي المستقيم ) : لأنهم كانوا أتباع الرسول الكريم في الدين القويم .

قال الطيبي في قوله : " فاعرفوا لهم " قد أجمل هاهنا ثم فصل بقوله : فضلهم كما في قوله تعالى : رب اشرح لي صدري والمراد من العرفان ما يلازمه من متابعتهم ومحبتهم والتخلق بأخلاقهم ، فإن قوله : " واتبعوهم " عطف على اعرفوا على سبيل البيان ، وقوله : " على أثرهم " حال مؤكدة من فاعل " اتبعوا " نحو قوله تعالى : ثم وليتم مدبرين ويجوز أن يكون من المفعول ا هـ . وخطر بالبال ، والله أعلم بالحال أن هذا من ابن مسعود - رضي الله عنه - شهادة على حقية الأصحاب المتقدمين ردا على الرافضة والملحدين . ( رواه رزين ) .




الخدمات العلمية