الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري ) : بالتصغير نسبة إلى قشير قبيلة من العرب ، وهو نيسابوري أحد أئمة علماء هذا الشأن ، جمع من مشايخ البخاري ، وغيرهم كأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وقتيبة بن سعيد ، والقعني ، وروى عنه جماعة من كبار أئمة عصره ، وحفاظ دهره كأبي حاتم الرازي ، وأبي خزيمة ، وخلائق . وله المصنفات الجليلة غير جامعه الصحيح كالمسند الكبير صنفه على ترتيب أسماء الرجال لا على تبويب الفقه ، وكالجامع الكبير على ترتيب الأبواب ، وكتاب العلل ، وكتاب أوهام المحدثين ، وكتاب التمييز ، وكتاب من ليس له إلا راو واحد ، وكتاب طبقات التابعين ، وكتاب المخضرمين . قال : صنفت الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة ، وهو أربعة آلاف بإسقاط المكرر ، وأعلى أسانيده ما يكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة وسائط ، وله بضع وثمانون حديثا بهذا الطريق ، ولد عام وفاة الشافعي : سنة أربع ومائتين ، وتوفي في رجب سنة إحدى وستين ومائتين ، وقد رحل إلى العراق ، والحجاز ، والشام ، ومصر ، وقدم بغداد غير مرة ، وحدث بها ، وكان آخر قدومه بغداد سنة سبع وخمسين ومائتين ، وكان عقد له مجلس بنيسابور للمذاكرة فذكر له حديث فلم يعرفه فانصرف إلى منزله ، وقدمت له سلة فيها تمر فكان يطلب الحديث ، ويأخذ تمرة تمرة فأصبح وقد فني التمر ، ووجد الحديث ، ويقال : إن ذلك كان سبب موته ; ولذا قال ابن الصلاح : كانت وفاته لسبب غريب نشأ من غمرة فكرة علمية . وسنه قيل : خمس وخمسون ، وبه جزم ابن الصلاح ، وتوقف فيه الذهبي ، وقال : إنه قارب الستين ، وهو أشبه من الجزم ببلوغه الستين .

قال شيخ مشايخنا علامة العلماء المتبحرين شمس الدين محمد الجزري في مقدمة شرحه للمصابيح المسمى بتصحيح المصابيح : إني زرت قبره بنيسابور ، وقرأت بعض صحيحه على سبيل التيمن ، والتبرك عند قبره ، ورأيت آثار البركة ، ورجاء الإجابة في تربته .

( وأبي عبد الله مالك بن أنس ) : وهو غير أنس بن مالك كما توهم ( الأصبحي ) : نسبة إلى ذي أصبح ملك من ملوك اليمن أحد أجداد الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب ، وأخر عن البخاري ، ومسلم ذكرا ، وإن كان مقدما عليهما وجودا ، ورتبة ، وإسنادا لتقدم كتابيهما على كتابه ترجيحا ; لعدم التزامه تصحيحا ، وهو من تابعي التابعين ، وقيل : من التابعين إذ روي أنه روى عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص ، وصحبتها ثابتة . قال الحافظ ابن حجر : كتاب مالك صحيح عنده ، وعند من تقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل ، والمنقطع ، وغيرهما . وقال السيوطي : ما فيه من المراسيل فإنها مع كونها حجة عنده بلا شرط ، وعند من وافقه من الأئمة على الاحتجاج بالمرسل - حجة أيضا عندنا إذا اعتمد ، وما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد ، أو عواضد ; فالصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شيء ، وقد صنف ابن عبد البر كتابا في وصل ما في الموطأ من المرسل ، والمنقطع ، والمعضل . قال ابن عبد البر : مذهب مالك أن مرسل الثقة تجب به الحجة ، ويلزم به العمل كما تجب بالمسند سواء ، قال البخاري إمام الصنعة : أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر ، وفي المسألة خلاف منتشر مشتهر ، وعلى هذا المذهب قالوا : أصح الأسانيد عن مالك الشافعي ; إذ هو أجل أصحابه على الإطلاق بإجماع أصحاب الحديث . ومن ثم قال أحمد : جمعت الموطأ من سبعة عشر رجلا من حفاظ أصحاب مالك ، ثم من الشافعي فوجدته أقومهم به ، وأصحها عن الشافعي أحمد ، ولاجتماع الأئمة الثلاثة في هذا السند قيل لها : سلسلة الذهب .

[ ص: 20 ] قيل ، ولا ينافي ذلك إكثار أحمد في مسنده إخراج حديث مالك من غير طريق الشافعي ، وعدم إخراج أصحاب الأصول حديث مالك من جهة الشافعي ، أما الأول : فلعل جمعه المسند كان قبل سماعه من الشافعي ، وأما الثاني : فلطلبهم العلو المقدم عند المحدثين على ما عداه من الأغراض .

قال بكر بن عبد الله : أتينا مالكا فجعل يحدثنا عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن ، وكنا نستزيده من حديثه ، فقال لنا يوما : ما تصنعون بربيعة ؟ ! هو نائم في ذلك الطاق ; فأتينا ربيعة فنبهناه ، وقلنا له : أنت ربيعة ؟ فقال : نعم قلنا : الذي يحدث عنك مالك ؟ ! قال : نعم قلنا : كيف حظي بك مالك ، ولم تحظ أنت بنفسك ؟ قال : أما علمتم أن مثقال دولة خير من حمل علم . وكأنه أراد بالدولة اللطف الرباني ، والتوفيق الإلهي . قال ابن مهدي : الثوري إمام في الحديث ، والأوزاعي إمام في السنة ، ومالك إمام فيهما ، وكان إذا أتاه أحد من أهل الأهواء قال له : أما أنا فعلى بينة من ديني ، وأما أنت فشاك اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه . وقال الشافعي : رأيت على باب مالك كراعا من أفراس خراسان ، وبغال مصر ما رأيت أحسن منه ! فقلت : ما أحسنه ! فقال : هو هدية مني إليك يا أبا عبد الله ، فقلت : دع لنفسك دابة تركبها فقال : أنا أستحي من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله بحافر دابة ، وكان مبالغا في تعظيم حديثه - صلى الله عليه وسلم - حتى كان إذا أراد أن يحدث : توضأ ، وجلس على صدر فراشه ، وسرح لحيته ، وتطيب ، وتمكن من الجلوس على وقار ، وهيبة ، ثم حدث ، فقيل له في ذلك فقال : أحب أن أعظم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ومن كلامه : إذا لم يكن للإنسان في نفسه خير لم يكن للناس فيه خير . وقال : ليس العلم بكثرة الرواية ، وإنما هو نور يضعه الله في القلب . قال مالك : قال لي هارون الرشيد : يا أبا عبد الله ، ينبغي أن تختلف إلينا حتى يسمع صبياننا منك الموطأ ، يعني الأمين ، والمأمون ، فقلت : أعز الله أمير المؤمنين ، إن هذا العلم منكم خرج فإن أنتم أعززتموه عز ، وإن أنتم أذللتموه ذل . وفي رواية : مه يا أمير المؤمنين ، لا تضع عز شيء رفعه الله ، والعلم يؤتى ، ولا يأتي ، قال : صدقت . وفي رواية : صدقت أيها الشيخ ، كان هذا هفوة مني استرها علي اخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا مع الناس . وسأله الرشيد : ألك دار ؟ قال : لا ، فأعطاه ثلاثة آلاف دينار ، وقال : اشتر بها دارا فأخذها ، ولم ينفقها ، ولما أراد الرشيد الشخوص ، قال لمالك : ينبغي أن تخرج معي ; فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطأ كما حمل عثمان الناس على القرآن . فقال : أما حمل الناس على الموطأ فلا سبيل إليه ; لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا فعند أهل كل مصر علم ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اختلاف أمتي رحمة " ، وأما الخروج معك ; فلا سبيل إليه ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " ، وهذه دنانيركم كما هي إن شئتم فخذوها ، وإن شئتم فدعوها ، يعني أنك إنما كلفتني مفارقة المدينة لما صنعت إلي فلا أوثر الدنيا على مدينة رسول الله . وصح عن الشافعي أنه قال : ما في الأرض كتاب في العلم أكثر صوابا من موطأ مالك . وفي رواية : ما تحت أديم السماء أصح من موطأ مالك . قال العلماء : إنما قال الشافعي هذا قبل وجود الصحيحين ، وإلا فهما أصح منه اتفاقا ، وجاءه رجل من مسيرة ستة أشهر في مسألة أرسله بها أهل بلده فقص عليه خبره ، فقال : لا أحسن . قال : فماذا أقول لهم ؟ قال : قل لهم : قال مالك لا أحسن ! أخذ عن ثلاثمائة تابعي ، وأربعمائة من تابعيهم . توفي في ربيع الأول سنة تسع [ ص: 21 ] أو ثمان وسبعين ومائة على الأصح ، ودفن بالبقيع ، وقبره مشهور به ، وولد في ربيع الأول سنة ثلاث ومائة على الأشهر . قيل : مكث حملا في بطن أمه ثلاث سنين ، وقيل أكثر ، وقيل : سنتين . قال الواقدي : مات وله تسعون سنة . وقيل : مالك أثبت أصحاب الزهري ، وأبي المنكدر ، ونافع ، ويحيى بن سعيد ، وهشام بن عروة ، وربيعة ، وجمع كثير ، وروى الزهري عنه مع أنه من شيوخه ، ومن أجلاء التابعين ، فهو من قبيل رواية الأكابر عن الأصاغر ، وقد روى عن مالك : ابن جريج ، وابن عيينة ، والثوري ، والأوزاعي ، وشعبة ، والليث بن سعد ، وابن المبارك ، والشافعي ، وابن وهب ، وخلائق لا يحصون . قال مالك : قل من أخذت عنه الحديث أنه ما جاءني ، ولم يأخذ مني الفتوى .

( وأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ) : نسبة إلى شافع أحد أجداده ، قيل : شافع كان صاحب راية بني هاشم يوم بدر فأسر ، وفدى نفسه فأسلم ، وقيل : لقي شافع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو مترعرع ، وأسلم أبوه السائب يوم بدر ، وكان السائب صاحب راية بني هاشم يوم بدر ، فأسر ، وفدى نفسه ، ثم أسلم ، وعلى القولين يظهر وجه تخصيص النسبة إليه ، ثم نسبة أهل مذهبه أيضا شافعي .

وقول العامة : شافعوي خطأ ، وهو المطلبي الحجازي المكي ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يلتقي معه في عبد مناف ، وورد خبر ( عالم قريش يملأ طباق الأرض علما ) طرقه متماسكة ، وليس بموضوع خلافا لمن وهم فيه كما بينه أئمة الحديث كأحمد ، وأبي نعيم ، والبيهقي ، والنووي . وقال : إنه حديث مشهور ، وممن حمله على الشافعي أحمد ، وتبعه العلماء على ذلك ، ولد بغزة على الأصح ، وقيل : بعسقلان ، وقيل : باليمن ، وقيل : بمنى ، وقيل : بالبحر سنة خمسين ومائة اتفاقا ، وهي سنة وفاة أبي حنيفة . وقيل : ولد يوم موته . قال البيهقي : هذا التقييد لم أجده إلا في بعض الروايات أما بالعام ، فهو مشهور بين أهل التواريخ ، ونشأ يتيما في حجر أمه في ضيق عيش بحيث كانت لا تجد أجرة المعلم ، وكان يقصر في تعليمه . وكان الشافعي يتلقف ما يعلمه لغيره فإذا ذهب علمهم إياه فكفى المعلم أمرهم أكثر مما لو أعطاه أجرة فتركها ، واستمر حتى تعلم القرآن لسبع سنين ، ثم حبب إليه مجالسة العلماء ، وكان يكتب ما يستفيد منهم في العظام ، ونحوها ، لعجزه عن الورق ، وكان يؤثر الشعر ، والأدب إلى أن تمثل ببيت ، وعنده كاتب أستاذ مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة ، فقرعه بسوط ، ثم قال له : مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا ! أين أنت من الفقه ؟ ! فهزه ذلك إلى مجالسة مسلم ، ومن أشعاره :


يا أهل بيت رسول الله حبكم فرض من الله في القرآن أنزله

    كفاكم من عظيم القدر أنكم
من لم يصل عليكم لا صلاة له



ثم قدم المدينة ، وعمره ثلاث عشرة سنة فلازم مالكا فأكرمه ، وعامله لنسبه ، وعلمه ، وفهمه ، وأدبه ، وعقله بما هو اللائق بهما ، وكان حفظ الموطأ بمكة لما أراد الرحلة إلى مالك حين سمع أنه إمام المسلمين ، وكان مالك يستزيده من قراءته ; لإعجابه بها حتى قرأه عليه في أيام يسيرة ، وقال له مرة لما تفرس فيه النجابة ، والإمامة : اتق الله إنه سيكون لك شأن ، وأخرى إن الله قد ألقى عليك نورا فلا تطفئه بالمعصية ; قال : فما ارتكبت كبيرة قط . ثم بعد وفاة مالك رحل عن المدينة إلى اليمن ، وولي بها القضاء ، ثم رحل إلى العراق ، وجد في التحصيل ، وناظر محمد بن الحسن ، وغيره ، [ ص: 22 ] ونشر علم الحديث ، وشاع ذكره ، وفضله إلى أن ملأ البقاع ، والأسماع . قال محمد بن الحسن في مدح الشافعي : إنه استعار مني كتاب الأوسط لأبي حنيفة ، وحفظه في يوم وليلة .

ولما صنف كتاب الرسالة أعجب به أهل عصره ، وأجمعوا على استحسانه ، وأنه من الخوارق حتى قال المزني : قرأته خمسمائة مرة ما من مرة إلا وقد استفدت منه شيئا لم أكن عرفته ، وكان أحمد يدعو له في صلاته لما رأى اهتمامه بنصر السنة . وصنف في العراق كتابه القديم المسمى بالحجة ، ثم رحل إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة ، وصنف كتبه الجديدة بها ، ورجع عن تلك ، ومجموعها يبلغ مائة وثلاثة عشر مصنفا ، وشاع ذكرها في البلدان ، وقصده الناس من الأقطار للأخذ عنه ، وكذا أصحابه من بعده لسماع كتبه ، حتى اجتمع في يوم على باب الربيع تسعمائة راحلة . وابتكر أصول الفقه ، وكتاب القسامة ، وكتاب الجزية ، وكتاب أهل البغي ، وكان حجة في اللغة ، والنحو ، وأذن له مسلم بن خالد مفتي مكة في الإفتاء بها ، وعمره خمس عشرة سنة ، وربما أوقد له المصباح في الليلة ثلاثين مرة ، ولم يبقه دائم الوقود . قال ابن أخته من أمه : لأن الظلمة أجلى للقلوب . وكان يقول : إذا صح الحديث ، فهو مذهبي ، واضربوا بقولي الحائط ، وانفرد بالإعراض عن التمسك بالحديث الضعيف في غير الفضائل ، ومن كلامه الدال على إخلاصه : وددت أن كل ما تعلمه الناس أوجر عليه ، ولا يحمدوني قط ، ووددت إذا ما ناظرت أحدا أن يظهر الحق على يديه .

ومن حكمه البالغة : طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ، ومن أراد الدنيا ، والآخرة فعليه بالعلم أي : مع العمل ، وما أفلح في العلم إلا من طلبه في الذلة ، ولقد كنت أطلب القرطاس فيعز علي ، لا يتعلم أحد هذا العلم بالملكة ، وعزة النفس فيفلح ، ولكن من طلبه بذلة النفس ، وضيق العيش أفلح ، تفقه قبل أن ترأس فإذا ترأست فلا سبيل إلى التفقه . زينة العلم الورع ، والحلم ، لا عيب في العلماء أقبح من رغبتهم فيما زهدهم الله فيه ، وزهدهم فيما رغبهم الله فيه . فقر العلماء فقر اختيار وفقر الجهال فقر اضطرار ، الناس في غفلة من سورة ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) من لم تعزه التقوى فلا تقوى له ، ما فرغت من العلم قط ، طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب الله بها أهل التوحيد . من غلبته شدة الشهوة للدنيا لزمته العبودية لأهلها ، ومن رضي بالقنوع زال عنه الخضوع ، لا يعرف الرياء إلا المخلصون ، لو اجتهدت كل الجهد على أن ترضي الناس كلهم فلا سبيل لذلك فأخلص عملك ونيتك لله ، لو أوصى رجل بشيء لأعقل الناس صرف للزهاد ، سياسة الناس أشد من سياسة الدواب ، العاقل من عقله عقله عن كل مذموم ، ومن نم لك نم بك ، من وعظ أخاه سرا فقد نصحه ومن وعظه علانية فقد فضحه ، التواضع من أخلاق الكرام ، والتكبر من شيم اللئام . أرفع الناس قدرا من لا يرى قدره . الشفاعات زكاة المروءات . من ولي القضاء فلم يفتقر فهو لص . لا بأس للفقيه أن يكون معه سفيه يسافه به . مداراة الأحمق غاية لا تدرك . الانبساط إلى الناس مجلبة لقرناء السوء ، والانفراد عنهم مكسبة للعداوة فكن بين المنقبض والمنبسط ، لأن يبتلى المرء بكل ذنب ما عدا الشرك خير من أن ينظر في الكلام فإني والله اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننته قط . وكان يكتب ثلث الليل ، ثم يصلي ثلثه ، ثم ينام ثلثه ، ويختم كل يوم ختمة . أقول : لعله في أيام رمضان . وقال : ما كذبت قط ، ولا حلفت بالله صادقا ، ولا كاذبا ، وما تركت غسل الجمعة قط ، وما شبعت منذ ستة عشرة سنة إلا شبعة طرحتها من ساعتي قال الكرابيسي : سمعته يقول : يكره للرجل أن يقول : قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لكن يقول : قال رسول الله . وكان له اليد الطولى في السخاء ، قدم من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار فما برح من مجلس سلام الناس عليه حتى فرقها كلها ، وسقط سوطه فناوله إنسان فأمر غلامه بإعطائه ما معه من الدنانير فكانت سبعة ، أو تسعة ، وانقطع [ ص: 23 ] شسع نعله فأصلحه له رجل فقال : يا ربيع ، أمعك من نفقتنا شيء ، قلت : سبعة دنانير . قال : ادفعها إليه . وقال المزني : ما رأيت أكرم منه . خرجت معه ليلة العيد من المسجد ، وأنا أذاكره في مسألة حتى أتيت باب داره فأتاه غلام بكيس ، وقال : مولاي يقرئك السلام ، ويقول لك : خذ هذا الكيس فإنه لك هدية ، وعلينا المنة ، فأخذه منه فأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله ، ولدت امرأتي الساعة ، وليس عندي شيء فدفع إليه الكيس ، وصعد ، وليس معه شيء ، وكان يأكل شهوة أصحابه ، وركب حماره ، وأحمد يمشي بجانبه ، ويذاكره فبلغ ذلك يحيى بن معين فعتب أحمد فأرسل له : لو كنت بالجانب الآخر من حماره لكان خيرا لك ! ، وكانت له المعرفة التامة بالرمي حتى يصيب عشرة من عشرة ، وبالفروسية حتى يأخذ بأذنه ، وأذن الفرس في شدة عدوه . روي أنه سمع قارئا يقرأ : ( هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ) ; فتغير الشافعي ، وارتعد ، وخر مغشيا عليه ، فلما أفاق قال : اللهم إني أعوذ بك من مقام الكذابين ، ومن إعراض الجاهلين هب لي من رحمتك ، وجللني بسترك ، واعف عني بكرمك ، ولا تكلني إلى غيرك ، ولا تقنطني من خيرك . ومن كلامه : لو لم يكن العلماء أولياء فليس لله ولي ، ما اتخذ الله وليا جاهلا . قال المزني : دخلت عليه في مرض موته فقلت له : كيف أصبحت ؟ فقال : أصبحت من الدنيا راحلا ، ولإخواني مفارقا ، ولكأس المنية شاربا ، ولسوء أعمالي ملاقيا ، وعلى الله واردا ، فلا أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها ، أو إلى النار فأعزيها ! ، ثم بكى ، وأنشد يقول :


ولما قسا قلبي ، وضاقت مذاهبي     جعلت رجائي نحو عفوك سلما


تعاظمني ذنبي فلما قرنته     بعفوك ربي كان عفوك أعظما



توفي آخر يوم من رجب ليلة الخميس ، أو ليلة الجمعة ، وكان قد صلى المغرب سنة أربع ومائتين ، وقبره بقرافة مصر ، وعاش أربعا وخمسين سنة .

( وأبي عبد الله أحمد بن حنبل ) : وفي نسخة صحيحة : أحمد بن محمد بن حنبل فالنسبة الأولى مجازية ( الشيباني ) : نسبة إلى قبيلة وهو المروزي ، ثم البغدادي ، ولد ببغداد سنة أربع وستين ومائة ، ومات بها سنة إحدى وأربعين ومائتين ، وله سبع وسبعون سنة ، كان إماما في الفقه ، والحديث ، والزهد ، والورع ، والعبادة ، وبه عرف الصحيح ، والسقيم ، والمجروح من المعدل ، نشأ ببغداد ، وطلب العلم ، وسمع الحديث من شيوخها ، ثم رحل إلى مكة ، والكوفة ، والبصرة ، والمدينة ، واليمن ، والشام ، والجزيرة ، وسمع من يزيد بن هارون ، ويحيى بن سعيد القطان ، وسفيان بن عيينة ، ومحمد بن إدريس الشافعي ، وعبد الرزاق بن همام وغيرهم ، وروى عنه ابناه صالح وعبد الله وابن عمه حنبل بن إسحاق ، ومحمد بن إسماعيل البخاري ، ومسلم بن الحجاج النيسابوري ، وأبو زرعة ، وأبو داود السجستاني ، وخلق كثير ، إلا أن البخاري لم يذكر في صحيحه عنه إلا حديثا واحدا في آخر ( كتاب الصدقات ) تعليقا ، وروي عن أحمد بن الحسن عنه : فضائله كثيرة ، ومناقبه شهيرة ، وهو أحد المجتهدين المعمول بقوله ورأيه ومذهبه في كثير من البلاد . قال أبو زرعة : كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث ، فقيل له : ما يدريك ؟ قال : ذاكرته فأخذت عليه الأبواب قال أيضا : حرزت كتبه اثني عشر حملا أو عدلا كل ذلك كان يحفظه عن ظهر قلبه . وقال أبو داود السجستاني : كأن مجالسة أحمد بن حنبل مجالسة الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا ، وقال محمد بن موسى : حمل إلى الحسن بن عبد العزيز ميراثه عن مصر مائة ألف دينار ، فحمل إلى أحمد بن حنبل ثلاثة أكياس في كل كيس ألف دينار ، فقال : يا أبا عبد الله ، هذا ميراث حلال فخذها ، واستعن بها على عائلتك . قال : لا حاجة لي فيها ، أنا في كفاية ; فردها ، ولم يقبل منها شيئا ، وقال عبد الله بن أحمد : كنت أسمع أبي كثيرا في دبر صلاته : اللهم كما صنت وجهي عن [ ص: 24 ] السجود لغيرك فصن وجهي عن المسألة لغيرك ! ، وقال ميمون بن الأصبغ : كنت ببغداد فسمعت ضجة فقلت : ما هذا ؟ ! فقالوا : أحمد بن حنبل يمتحن ، فدخلت فلما ضرب سوطا قال : بسم الله ، فلما ضرب الثاني قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فلما ضرب الثالث قال : القرآن كلام الله غير مخلوق ، فلما ضرب الرابع قال : لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ! فضرب تسعة وعشرين سوطا ، وكانت تكة أحمد حاشية ثوب فانقطعت فنزل السروال إلى عانته فرمى أحمد طرفه إلى السماء فحرك شفتيه فما كان بأسرع من ارتقاء السروال ، ولم ينزل ، فدخلت عليه بعد سبعة أيام فقلت : يا أبا عبد الله رأيتك تحرك شفتيك فأي شيء قلت ؟ قال : قلت اللهم إني أسألك باسمك الذي ملأت به العرش إن كنت تعلم أني على الصواب فلا تهتك لي سترا . وقال أحمد بن محمد الكندي : رأيت أحمد بن حنبل في النوم فقلت : ما صنع الله بك ؟ قال : غفر لي . ثم قال : يا أحمد ضربت في . قال : قلت نعم يا رب قال : يا أحمد هذا وجهي فانظر إليه فقد أبحتك النظر إليه . روي أنه أرسل الشافعي إلى بغداد يطلب قميصه الذي ضرب فيه ، فأرسله إليه فغسله الشافعي ، وشرب ماءه ، وهذا من أجل مناقبه . قال ولده صالح : إنه حج خمس حجج ثلاثا منها راجلا ، وكثيرا ما كان يأتدم بالخل . قال أبو زرعة : بلغني أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس فيه للصلاة عليه ، فبلغ مقام ألفي ألف وخمسمائة ألف ، وأسلم يوم وفاته عشرون ألفا ، وقبره ظاهر ببغداد يزار ، ويتبرك به .

وكشف لما دفن بجنبه بعض الأشراف بعد موته بمائتين وثلاثين سنة فوجد كفنه صحيحا لم يبل ، وجثته لم تتغير .

[ تنبيه ] : اعترض على ابن الصلاح تفضيل كتب السنن على مسند أحمد فإنه أكبر المسانيد ، وأحسنها ، فإنه لم يدخل فيه إلا ما يحتج به مع كونه اختصره من أكثر من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألفا . وقال : ما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارجعوا فيه إلى المسند ، فإن وجدتموه فحسن ، وإلا فليس بحجة . ومن ثم بالغ بعضهم فأطلق الصحة على كل ما فيه ، والحق أن فيه أحاديث كثيرة ضعيفة ، وبعضها أشد في الضعف من بعض حتى إن ابن الجوزي قد أدخل كثيرا منها في موضوعاته ، لكن تعقبه في بعضها بعضهم ، وفي سائرها شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني ، وحقق نفي الوضع عن جميع أحاديثه ، وأنه أحسن انتقاء ، وتحريرا من الكتب التي لم يلتزم مؤلفوها الصحة في جميعها كالسنن الأربعة .

قال : وليست الأحاديث الزائدة فيه على ما في الصحيحين بأكثر ضعفا من الأحاديث الزائدة في سنن أبي داود ، والترمذي عليهما . وبالجملة ، فالسبيل واحد لمن أراد الاحتجاج بحديث من السنن ، لا سيما سنن ابن ماجه ، ومصنف ابن أبي شيبة ، وعبد الرزاق ، مما الأمر فيه أشد ، أو بحديث من المسانيد ؛ لأن هذه كلها لم يشترط جامعوها الصحة ، والحسن ، وتلك السبيل أن المحتج إن كان أهلا للنقل ، والتصحيح فليس له أن يحتج بشيء من القسمين حتى يحيط به ، وإن لم يكن أهلا لذلك ، فإن وجد أهلا لتصحيح أو تحسين قلده ، وإلا فلا يقدم على الاحتجاج فيكون كحاطب ليل ، فلعله يحتج بالباطل ، وهو لا يشعر .

( وأبي عيسى ) قيل : يكره هذه التكنية : ( محمد بن عيسى الترمذي ) : بكسر التاء ، والميم ، وبضمهما ، وبفتح التاء ، وكسر الميم مع الذال المعجمة نسبة لمدينة قديمة على طرف جيحون نهر بلخ . الإمام الحجة الأوحد الثقة الحافظ المتقن أخذ عن البخاري ، وقتيبة بن سعيد ، ومحمود بن غيلان ، ومحمد بن بشار ، وأحمد بن منيع ، ومحمد بن المثنى ، وسفيان بن وكيع ، وغيرهم ، وأخذ عنه خلق كثير ، وله تصانيف كثيرة في علم الحديث منها : الشمائل ، وهذا كتابه الصحيح أحسن الكتب ، وأحسنها ترتيبا ، وأقلها تكرارا ، وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب ، ووجوه الاستدلال ، وتبيين أنواع من الصحيح ، والحسن ، والغريب ، وفيه جرح ، وتعديل ، وفي آخره كتاب العلل . وقد جمع فيه فوائد حسنة لا يخفى قدرها على من وقف عليها ; ولذا قيل : هو كاف للمجتهد ، ومغن للمقلد . بل قال أبو إسماعيل الهروي : هو عندي أنفع من الصحيحين ; لأن كل أحد يصل للفائدة منه ، وهما لا يصل إليهما منهما إلا العالم المتبحر . وقول [ ص: 25 ] ابن حزم : إنه مجهول كذب منه ، قال : عرضت هذا الكتاب - يعني سننه - على علماء الحجاز ، والعراق ، وخراسان فرضوا به ، ومن كان في بيته فإنما في بيته نبي يتكلم ، نعم ، عنده نوع تساهل في التصحيح ، ولا يضره ، فقد حكم بالحسن مع وجود الانقطاع في أحاديث من سننه ، وحسن فيها بعض ما انفرد رواته به كما صرح هو به ، فإنه يورد الحديث ، ثم يقول عقبه : إنه حسن غريب ، أو حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . لكن أجيب عنه : بأن هذا اصطلاح جديد ، ولا مشاحة في الاصطلاح . وقد أطلق الحاكم ، والخطيب الصحة على جميع ما في سنن الترمذي ، توفي بترمذ سنة تسع وسبعين ومائتين ، وأعلى أسانيده ما يكون واسطتان بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وله حديث واحد في سننه بهذا الطريق ، وهو : " يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر " ، فإسناده أقرب من إسناد البخاري ، ومسلم ، وأبي داود ، فإن لهم ثلاثيات ، وذكر في جامعه بسنده هذا الحديث ، وهو : يا علي ، لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري ، وغيرك . ثم قال : وهذا حديث غريب ، وقد سمعه من البخاري .

( وأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ) : بكسر السين الأولى ، ويفتح ، وبكسر الجيم ، وسكون السين الثانية معرب سيستان من نواحي هراة من بلاد خراسان ، ولد سنة ثنتين ومائتين ، وتوفي بالبصرة سنة خمس وسبعين ومائتين ، وهو الإمام الحافظ الحجة ، سكن البصرة ، وقدم بغداد مرارا فروى سننه بها ، ونقله أهلها عنه ، وعرضه على أحمد فاستجاده ، واستحسنه ، سمع أحمد ، ويحيى بن معين ، والقعنبي ، وسليمان بن حرب ، وقتيبة ، وخلائق لا يحصون . وروى عنه النسائي ، وغيره . قال جمع : ألين الحديث لأبي داود كما ألين الحديد لداود . وكان يقول : كتبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته كتاب السنة ، جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث ، ذكرت الصحيح ، وما يشبهه ، ويقاربه ، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث أحدها : قوله - عليه الصلاة والسلام - " إنما الأعمال بالنيات " ، والثاني : قوله - عليه الصلاة والسلام - : " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " ، والثالث : قوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه " ، والرابع : " إن الحلال بين ، والحرام بين " الحديث . ومن أشعار الشافعي :


عمدة الدين عندنا كلمات     أربع قالهن خير البرية


اتق السيئات ، وازهد ، ودع ما     ليس يعنيك ، واعملن بنية



[ ص: 26 ] فكأنه أراد بقوله : ( ازهد ) حديث الأربعين : ( ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ) .

قال الخطابي شارحه : لم يصنف في علم الدين مثله ، وهو أحسن وضعا ، وأكثر فقها من الصحيحين . وقال أبو داود : ما ذكرت فيه حديثا أجمع الناس على تركه . وقال ابن الأعرابي : من عنده القرآن ، وكتاب أبي داود لم يحتج معهما إلى شيء من العلم ألبتة .

وقال الناجي : كتاب الله أصل الإسلام ، وكتاب أبي داود عيد الإسلام ، ومن ثم صرح حجة الإسلام الغزالي باكتفاء المجتهد به في الأحاديث ، وتبعه أئمة الشافعية على ذلك ، وقال النووي : ينبغي للمشتغل بالفقه ولغيره الاعتناء به ; فإن معظم أحاديث الأحكام التي يحتج بها فيه مع سهولة تناوله . وكان له كم واسع ، وكم ضيق فقيل له : ما هذا ؟ فقال : أما الواسع فللكتب ، وأما الضيق فللاحتياج إليه ، وفضائله ومناقبه كثيرة ، وكان في أعلى درجة من النسك ، والعفاف ، والصلاح ، والورع . قال المنذري : ما سكت عليه لا ينزل عن درجة الحسن . وقال النووي : ما رواه في سننه ، ولم يذكر ضعفه هو عنده صحيح ، أو حسن . وقال ابن عبد البر : ما سكت عليه صحيح عنده سيما إن لم يكن في الباب غيره . وأطلق ابن منده ، وابن السكن الصحة على جميع ما في سنن أبي داود ، ووافقهما الحاكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية