الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2044 - وعن أبي قتادة أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : كيف تصوم ؟ فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله ، فلما رأى عمر غضبه قال : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ، نعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله ، فجعل عمر يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه ، فقال عمر : يا رسول الله كيف من يصوم الدهر كله ؟ قال : " لا صام ولا أفطر " أو قال : " لم يصم ولم يفطر " قال : كيف من يصوم يومين ويفطر يوما ؟ قال : " ويطيق ذلك أحد ؟ " قال : كيف من يصوم يوما ويفطر يوما ؟ قال : " ذلك صوم داود " قال : كيف من يصوم يوما ويفطر يومين ؟ قال : " وددت أني طوقت ذلك " ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :

ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله ، صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده ، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله
" رواه مسلم .

التالي السابق


2044 - ( وعن أبي قتادة أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : كيف تصوم ؟ ) أي أنت ( فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي ظهر أثر الغضب على وجهه ( من قوله ) أي من قول الرجل وسوء سؤاله ، قال النووي : قال العلماء : سبب غضبه كراهة مسألته ، لأنه خشي من جوابه مفسدة ، وهي أنه ربما يعتقد السائل وجوبه ، أو يستقله ، أو يقتصر عليه ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما لم يبالغ في الصوم لأنه كان مشتغلا بمصالح المسلمين ، وحقوق أزواجه وأضيافه ، ولئلا يقتدي به كل أحد فيتضرر بعضهم ، وكان حق السائل أن يقول كيف أصوم ، أو كم أصوم ، فيخص السؤال بنفسه ليجاب بمقتضى حاله ، كما أجاب غيره بمقتضى أحوالهم اهـ وأيضا كان صومه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن على منوال واحد ، بل كان يختلف باختلاف الأحوال ، فتارة يكثر الصوم وتارة يقله ، ومثل هذا الحال لا يمكن أن يدخل تحت المقال فيتعذر جواب السؤال ، ولذا وقع لجماعة من الصحابة أنهم سألوا عن عبادته لله - تعالى - فتقالوها فبلغه فاشتد غضبه عليهم ، وقال : " أنا أتقاكم لله وأخوفكم منه " ، يعني ولا يلزم منه كثرة العبادة بل حسنها ، ومراعاة شرائعها وحقائقها ودقائقها وتقسيمها في أوقاتها اللائقة بها ( فلما رأى عمر غضبه ) أي على السائل وخاف من دعائه عليه خاصة ومن السراية على غيره عامة لقوله - تعالى - واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ( قال ) اعتذارا منه واسترضاء منه لقوله - تعالى - حكاية أليس منكم رجل رشيد أي حتى يأتي بكلام سديد ( رضينا بالله ) أي بقضائه ( ربا وبالإسلام ) أي بأحكامه ( دينا وبمحمد ) أي بمتابعته ( نبيا ) والمنصوبات تمييزات ، ويمكن أن تكون حالات [ ص: 1414 ] مؤكدات ( نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ) وذكر غضب الله تزيين للكلام وتعيين بأن غضبه - تعالى - يوافق غضبه - عليه الصلاة والسلام - ( فجعل عمر يردد ) أي يكرر ( هذا الكلام ) وهو رضينا إلخ ( حتى سكن غضبه ) عليه الصلاة والسلام ( فقال عمر : يا رسول الله كيف من ) أي حال من ( يصوم الدهر كله ؟ ) أي هل هو محمود أو مذموم ، انظر حسن الأدب حيث بدأه بالتعظيم ، ثم سأل السؤال على وجه التعميم ، ولذا قيل : حسن السؤال نصف العلم ( قال : " لا صام ولا أفطر " ) أي لا صام صوما فيه كمال الفضيلة ولا أفطر فطرا يمنع جوعه وعطشه ( أو قال : لم يصم ولم يفطر ) في شرح السنة معناه الدعاء عليه زجرا له ، ويجوز أن يكون إخبارا ، قال المظهر : يعني هذا الشخص كأنه لم يفطر لأنه لم يأكل شيئا ولم يصم لأنه لم يكن بأمر الشارع ، اهـ وهذا كخبر الصحيحين " لا صام من صام الأبد لا صام من صام الأبد " وأما خبر : " من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا " وعقد تسعين فرواه البيهقي وجعله العمدة في نفي الكراهة التي قال بها بعض الحنفية ، وزعم أنه دليل لها ظاهر الفساد إذ معنى ضيقت عليه أي عنه فلا يدخلها أو لا يكون فيها موضع . وقيل : إخبار لأنه إذا اعتاد ذلك لم يجد رياضة ولا كلفة يتعلق بها مزيد ثواب ، فكأنه لم يصم ، وحيث لم ينل راحة المفطرين ولذتهم فكأنه لم يفطر ، قال مالك والشافعي : وهذا في حق من أدخل المنهي في الصوم ، وأما من لم يدخلها فلا بأس عليه في صوم ما عداها ، لأن أبا طلحة الأنصاري وحمزة بن عمر الأسلمي كانا يصومان الدهر سوى هذه الأيام ، ولم ينكر عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو علة النهي أن يكره صوم الدهر لأن ذلك الصوم يجعله ضعيفا فيعجز عن الجهاد وقضاء الحقوق ، فمن لم يضعف فلا بأس عليه ، قال ابن الهمام : يكره صوم الدهر لأنه يضعفه أو يصير طبعا له ومبنى العبادة على مخالفة العادة ( قال : كيف من يصوم يومين ويفطر يوما ؟ ) بأن يجعل العبادة غالبة على العادة " قال : ويطيق " بتقدير الاستفهام أي أتقول ذلك ويطيق " ذلك أحد " فيه إشارة إلى أن العلة في نهي صوم الدهر هو الضعف فيكون المعنى أنه إن أطاقه أحد فلا بأس فهو أفضل ( قال ) أي عمر ( كيف من يصوم يوما ويفطر يوما ؟ قال : " ذلك صوم داود " ) يعني وهو في غاية من الاعتدال ، ومراعاة لجانبي العبادة والعادة بأحسن الأحوال ، ولذا قال بعض العلماء : اجتهد في العلم بحيث لا يمنعك عن العمل ، واجتهد في العمل بحيث لا يمنعك عن العلم ، فخير الأمور أوساطها ، وشرها تفريطها وإفراطها ، وكذا ورد : أفضل الصيام صيام داود - صلى الله عليه وسلم - ( قال : كيف من يصوم يوما ويفطر يومين ؟ ) إبقاء للبدن عن الضعف ليتقوى على سائر العبادات ( قال : " وددت " ) بكسر الدال أي أحببت وتمنيت " أني " مع كمال قوتي " طوقت " على بناء المفعول أي جعلني مطيقا " ذلك " أي الصيام المذكور ، وقال الطيبي : أي لم تشغلني الحقوق عن ذلك حتى أصوم ، فإنه كان يطيق أكثر من ذلك ، فكان يواصل ، وقال : أبيت . . . الحديث اهـ وفيه أن السؤال عن الصيام المذكور في جميع الأحوال ، ولم يكن على وجه المداومة ذلك الوصال ، وهذا بظاهره يدل على أنه أفضل مما ورد في الصحيحين : أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ، وفيهما أيضا لا أفضل من ذلك ، لكن قال ابن عبد السلام : أي لا أفضل لك لأن صوم الدهر أفضل لأن الحسنة بعشر أمثالها ( ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي بعد ذلك الجواب على جهة التفضيل والتبرع من غير السؤال " ثلاث " أي صوم الإنسان ثلاثة أيام حذف التاء منها نظرا إلى لفظ المميز فإنه مؤنث وقيل : بحذف المعدود ، وقال الطيبي : حذف التاء اعتبارا بالليالي الكشاف ، في قوله - تعالى - " أربعة أشهر وعشرا " قيل : عشر ذهابا إلى الليالي ، والأيام داخلة معها ، ولا تراهم يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام ، يقول : صمت عشرا ولو ذكرت خرجت من كلامهم اهـ ونوقش بأن ما ذكره في الآية من تغليب الليالي ظاهر لأنها معدودة من العدة ، وفي صمت عشرا نظر ظاهر لأن الليالي لا اعتبار لها في الصوم بوجه لأنها لا تقبله ، فلا وجه له فيها ، ويمكن دفعه بأنه لملابسة بينهما لا سيما على القول بأنه لا بد من إدراك جزء من الليالي في طرفي بيوم [ ص: 1415 ] " الصوم ، قال ابن حجر : فإن قيل إنه جماعي قلنا الصوم الشرعي لا يعرف إلا من الشارع ، فلا دخل للغة فيه ، أقول : معرفة الصوم الشرعي من الشارع لا يمنع استعمال اللغة حيث قال : صمت عشرا ، أن إيراد الليالي بالمعنى المجازي ، فتأمل " من كل شهر " قيل : هو أيام البيض ، وقيل : أي ثلاث يجد هذا الثواب ، وهو الصحيح لحديث عائشة الآتي " ورمضان " أي وصوم رمضان من كل سنة منتهيا " إلى رمضان " القياس انصرافهما لكن ضبط في النسخ المصححة غير منصرفين " فهذا صيام الدهر " أي المحمود " كله " أي حكما لقوله - تعالى - من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، هكذا قيل ، ولا يخفى أن الكلية الحكمية إنما هي في غير رمضان ، وإنما ذكر رمضان لدفع توهم دخوله في كل شهر ، المعنى أن صيامه كصيامه في الثواب لكنه من غير تضعيف على حد قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ، قيل : ثلاث مبتدأ ، خبره قوله فهذا صيام الدهر ، والفاء زائدة ، أو ما دل عليه هذه الجملة ، وقال الطيبي : أدخل الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، وذلك أن ( ثلاث ) مبتدأ ، ومن كل شهر صفة ، أي يصوم ثلاثة أيام يصومها الرجل من كل شهر صيام الدهر كله ، قال ابن الهمام : ويستحب صوم أيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ، ما لم يظن إلحاقه بالواجب " صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر " أي الله أو الصيام " السنة التي قبله " أي ذنوبهما " والسنة التي بعده " قال إمام الحرمين : والمكفر الصغائر ، قال القاضي عياض : وهو مذهب أهل السنة والجماعة ، وأما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة ، أو رحمة الله ، قلت : رحمة الله تحتمل أن تكون بمكفر وبغيره ، وقال النووي : قالوا : المراد بالذنوب الصغائر ، وإن لم تكن الصغائر يرجى تخفيف الكبائر ، فإن لم تكن رفعت الدرجات ، قال المظهر : وقيل : تكفير السنة الآتية أن يحفظه من الذنوب فيها ، وقيل : أن يعطيه من الرحمة والثواب قدرا يكون كفارة للسنة الماضية ، والقابلة إذا جاءت واتفقت له ذنوب " وقيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله " في النهاية : الاحتساب في الأعمال الصالحة هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها طلبا للثواب المرجو فيها ، قال الطيبي : كان الأصل أن يقال أرجو من الله أن يكفر فوضع موضعه أحتسب وعداه بعلى الذي للوجوب على سبيل الوعد مبالغة لحصول الثواب ( رواه مسلم ) .




الخدمات العلمية