الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2086 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتكف العشر الأول من رمضان ، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية ، ثم أطلع رأسه فقال : " إني أعتكف العشر الأول ألتمس هذه الليلة ، ثم أعتكف العشر الأوسط ثم أتيت فقيل لي : إنها في العشر الأواخر ، فمن كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر ، فقد أريت هذه الليلة ، ثم أنسيتها ، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها ، فالتمسوها في

العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر ) . قال : فمطرت السماء تلك الليلة ، وكان المسجد على عريش ، فوكف المسجد ، فبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين
. متفق عليه في المعنى . واللفظ لمسلم إلى قوله : ( فقيل لي : إنها في العشر الأواخر ) والباقي للبخاري .

التالي السابق


2086 - ( وعن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتكف العشر الأول ) : بتشديد الواو كذا في النسخ ، والظاهر بضم الهمزة وتخفيف الواو ، ولعل إفراده باعتبار لفظ العشر ( من رمضان ) : بيان للعشر ( ثم اعتكف العشر الأوسط ) : قال الزركشي : كان قياسه الوسطى ، لأن العشر مؤنث بدليل قوله في الرواية الأخرى : العشر الأواخر ، ووجه الأوسط أنه جاء على لفظ العشر فإن لفظه مذكر ، ورواه بعضهم : الوسط بضمتين جمع واسط كبازل وبذل ، وبعضهم بضم الواو وفتح السين جمع وسطى ككبر وكبرى اهـ . فقول ابن حجر : وفي رواية الموطأ الوسط بضمتين جمع وسطى غير صحيح لأن فعل بضمتين لا يكون جمعا لفعلى ، بل لنحو فاعل ( في قبة تركية ) : وهي قبة صغيرة مستديرة من لبود ، قاله النووي ضربت في المسجد ، يقال لها الخرقان ، وتسمى بالفارسية خركاه . ( ثم أطلع رأسه ) : بسكون الطاء المخففة أي : أخرجه من القبة ( فقال : إني اعتكفت ) : بصيغة المتكلم حكاية حال ماضية تصويرا للاجتهاد في تحريها ، قال الطيبي : وفي نسخة : أعتكف ( العشر الأول ألتمس ) : حال أي : أطلب ( هذه الليلة ) : يعني : ليلة القدر ( ثم أعتكف ) : بالنسختين ( العشر الأوسط ) : قال النووي : كذا في جميع نسخ مسلم ، والمشهور في الاستعمال تأنيث العشر ، وتذكيره أيضا [ ص: 1438 ] لغة صحيحة باعتبار الأيام ، أو باعتبار الوقت والزمان ، ويكفي في صحتها ثبوت استعمالها في هذا الحديث من النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ثم أتيت ) : على بناء المجهول أي أتاني آت من الملائكة ( فقيل لي ) : أي : قال لي الملك ( إنها ) : أي : ليلة القدر ( في العشر الأواخر ) : قال الطيبي : فإن قلت : لم خولف بين الأوصاف فوصف العشر الأول والأوسط بالمفرد ، والأخر بالجمع ؟ قلت : تصور في كل ليلة من ليالي العشر الأخير ليلة القدر فجمعه ، ولا كذلك في العشرين ، ( فمن كان اعتكف ) : أي : أراد الاعتكاف ( معي ) : قال ابن الملك : أي : من أراد موافقتي ، وقال الطيبي : وإنما أمر بالاعتكاف من كان معه في العشر الأول والأوسط لئلا يضيع سعيهم في الاعتكاف والتحري . وقال ابن حجر : ليس للتقييد ، بل لإفهامه أن من لم يكن معتكفا معه أولى ، ( فليعتكف العشر الأواخر ) : قيل : فائدة الجمع هنا تنبيه على أن كل ليلة منها يتصور فيها ليلة القدر بخلاف العشر الأول والأوسط .

قال الطيبي : والأمر بالاعتكاف للدوام والثبات . قال النووي في بعض نسخ مسلم : فليثبت من الثبوت ، وفي بعضها فليلبث من اللبث ، وفي أكثرها : فليبت في معتكفه من المبيت ، وكله صحيح . قال ابن الهمام : قد ورد أنه - عليه الصلاة والسلام - اعتكف في العشر الأوسط ، فلما فرغ أتاه جبريل - عليه الصلاة والسلام - فقال : " إن الذي تطلب أمامك " يعني ليلة القدر ، فاعتكف العشر الآخر ، وعن هذا ذهب الأكثر أنها في العشر الآخر من رمضان ، فمنهم من قال : في ليلة إحدى وعشرين ، ومنهم من قال : في ليلة سبع وعشرين ، وقيل غير ذلك .

وعن أبي حنيفة : أنها في رمضان ، فلا يدرى أية ليلة هي ، وقد تتقدم أو تتأخر ، وعندهما كذلك إلا أنها معينة لا تتقدم ولا تتأخر . هذا النقل عنهم في المنظومة والشروح ، وفي فتاوى قاضي خان قال : وفي المشهور عنه أنها تدور في السنة تكون في رمضان ، وتكون في غيره ، فجعل ذلك رواية ، وثمرة الخلاف تظهر فيمن قال : أنت حر ، أو أنت طالق ليلة القدر ، فإن قاله قبل دخول رمضان عتق وطلقت إذا انسلخ ، وإن قال بعد ليلة منه فصاعدا لم يعتق حتى ينسلخ رمضان العام القابل عنده ، وعندهما إذا جاء مثل تلك الليلة من رمضان الآتي قال : وفيها أقوال أخر . قيل : هي أول ليلة من رمضان . وقال الحسن : ليلة سبع عشرة ، وقيل : تسع عشرة . وعن زيد بن ثابت ليلة أربع وعشرين . وقال عكرمة : ليلة خمس وعشرين ، وأجاب أبو حنيفة عن الأدلة المفيدة لكونها في العشر الأواخر بأن المراد في ذلك رمضان الذي كان - عليه الصلاة والسلام - التمسها فيه ، والسياقات تدل عليه لمن تأمل طرق الأحاديث وألفاظها ، كقوله : إن الذي تطلب أمامك ، وإنما كان يطلب ليلة القدر من تلك السنة ، وغير ذلك مما يطلع عليه الاستقراء ، ومن علاماتها أنها بلجة أي مشرقة ، كذا في النهاية . ساكنة لا حارة ولا قارة ، تطلع الشمس صبيحتها بلا شعاع كأنها طمست ، كذا قالوا . وإنما أخفيت ليجتهد في طلبها فينال بذلك أجر المجتهدين في العبادة ، كما أخفى - سبحانه - الساعة ليكونوا على وجل من قيامها بغتة ، والله أعلم .

( فقد أريت ) : بصيغة المجهول المتكلم ( هذه الليلة ) : أي : معينة ( ثم أنسيتها ) : وفي البخاري : أو نسيتها بضم النون وتشديد السين ، المراد نسيان تعيينها في تلك السنة ، قال الزركشي : قيل : ولعل الحكمة في نسيانها أن لا يشتغل الناس بتعظيمها ، ويتركوا تعظيم سائر الليالي . قال ابن حجر : المراد أنه أخبر بأنها ليلة كذا ، ثم أنسي ما أخبر به ، والمخبر بذلك جبريل ، وأما كونه اطلع عليها فرآها فأمر محتمل . قلت : إذا كان محتملا فكان عليه أن يقول : الظاهر أنه المراد ، قال : ثم رأيت القفال من أئمة أصحابنا ، قال : معناه أنه رأى من يقول له في النوم ليلة القدر لعله كذا ، وعلامتها كذا ، وليس معناه أنه رأى ليلة القدر نفسها لأن مثل ذلك لا ينسى أي في صبيحتها . ( وقد رأيتني ) : أي : في المنام ، ومن خصائص أفعال القلوب اتحاد فاعلها ومفعولها ( أسجد ) : بالرفع حال ، وقيل : تقديره أن أسجد أي ساجدا ( في ماء وطين ) : أي : على أرض رطبة ، ولعل أصله في ماء وتراب ، وسمي طينا لمخالطته به مآلا ، وللإيمان إلى غلبة الماء عليه أو لا . ومنه ما روي : كنت نبيا وآدم بين الماء [ ص: 1439 ] الطين ، مع ما في الآية : خلقته من طين وفي حديث قدسي ( خمرت طينة آدم بيدي أربعين صباحا ) ( من صبيحتها ) : وفي المصابيح : في صبيحتها أي : في صبيحة ليلة القدر فنسيت أية ليلة كانت . ( فالتمسوها في العشر الأواخر ) : أي : من رمضان ( والتمسوها من كل وتر ) : أي : من ذلك العشر فإنه أرجى لياليها .

( قال ) : أي : أبو سعيد ( فمطرت ) : بفتحتين ( السماء تلك الليلة ) : أي : التي أريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( وكان المسجد على عريش ) : بفتح فسكون ، وهو بيت سقفه من أغصان الشجر ، أي : بني على صوغ عريش ، وهو ما يستظل به . قال ابن حجر : أي : على مثل العريش ، لأن عمده كانت جذوع النخل ، فلا يحمل ثقلا على السقف الموضوع عليها ، فالعرش هو نفس سقفه لأنه كان مظلا بالجريد ، والخوص من غير زيادة شيء آخر يكن من المطر الكثير ، انتهى . وقوله : فالعرش هو نفس سقفه ، مخالف لما في النهاية عيدان تنصب ويظلل عليها . وفي القاموس : العريش البيت الذي يستظل به كالعرش ، انتهى . والبيت جدران أربعة من حجر أو مدر أو خشب . ( فوكف المسجد ) : أي : قطر سقفه ونزل ماء المطر من سقفه ( فبصرت ) : أي : رأت ( عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) : قيل : يقال بصر بضم الصاد أي : علم ، وقد استعمله أبو سعيد بمعنى أبصرت لا بمعنى علمت ، لأنه قال : فبصرت عيناي ، ولم يورد في كتب اللغة بصر بمعنى رأى فلعله على حذف الزوائد اهـ .

يعني : أن البصر هنا بمعنى الإبصار ، كما في النهاية . وقال البيضاوي في قوله قال بصرت بما لم يبصروا أي : علمت أو رأيت . ( وعلى جبهته أثر الماء والطين ) : جملة حالية . قال الطيبي : قوله : فبصرت عيناي مثل قولك : أخذت بيدي ونظرت بعيني ، وإنما يقال في أمر يعز الوصول إليه إظهارا للتعجب من حصول تلك الحال الغريبة ، ومن ثم أوقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفعولا وعلى جبهته حالا منه ، وكان الظاهر أن يقال : رأيت على جبهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثر الماء والطين .

قال النووي : قال البخاري : كان الحميدي يحتج بهذا الحديث على أن السنة للمصلي أن لا يمسح جبهته في الصلاة ، وكذا قال العلماء ، وهذا محمول على أنه كان شيئا يسيرا لا يمنع مباشرة بشرة الجبهة للأرض ، فإنه لو كان كثيرا لم تصح صلاته . في شرح السنة ، وفيه دليل على وجوب السجود على الجبهة ، ولولا ذلك لصانها عن الطين . قال ابن حجر : وفيه نظر ، إذ كيف يصونها عنه ، وسجودها عليه جعل علامة له على هذا الأمر العظيم اهـ . وفيه أنه لا يلزم من جعله علامة له أن يسجد عليه من غير صيانة الجبهة بكور عمامة أو كم أو ذيل ، ونحو ذلك . والظاهر أن هذا مراد البغوي ، وإلا فلا منازع له في أن السجود على الجبهة واجب .

قال محيي السنة : وفيه أن ما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام قد يكون تأويله أنه يرى مثله في اليقظة ( من صبيحة إحدى وعشرين ) : يعني الليلة التي رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها ليلة القدر هي ليلة الحادي والعشرين ، كذا قيل . والأظهر أن ( من ) . بمعنى ( في ) وهي متعلقة بقوله : فبصرت ( متفق عليه في المعنى . واللفظ لمسلم إلى قوله : فقيل لي : أنها في العشر الأواخر ، والباقي للبخاري ) : أي : لفظا .




الخدمات العلمية