الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
205 - وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد ، فأتي به فعرفه نعمته فعرفها ، فقال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت قال : كذبت ، ولكنك قاتلت لأن يقال : جريء ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل تعلم العلم وعلمه ، وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها . قال : فما عملت فيها ، قال : تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن . قال : كذبت ، ولكنك تعلمت العلم ليقال : إنك عالم ، وقرأت القرآن ليقال : هو قارئ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار . ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله ، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك . قال : كذبت ، ولكنك فعلت ليقال : هو جواد ; فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار . رواه مسلم .

التالي السابق


205 - ( وعنه ) أي : عن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن أول الناس يقضى عليه ) : قيل : هو صفة للناس لأنه نكرة في المعنى ، أي : يحاسب ويسأل عن أفعاله قبل ويستفاد منه أنه أول المقضي عليهم لا مطلقا ( يوم القيامة ) أي : ثلاثة ( رجل استشهد ) : على بناء المفعول أي : قتل في سبيل الله ( فأتى به ) أي : بالرجل للحساب ( فعرفه ) : بالتشديد أي : ذكره تعالى ( نعمته ) : على صيغة المفرد هاهنا ، والباقيتان على صيغة الجمع هكذا جاء في صحيح مسلم ، والحميدي ، وجامع الأصول ، وفي الرياض للنووي ، وفي بعض نسخ المصابيح ، ولعل الفرق اعتبار الإفراد في الأولى والكثرة في الأخيرتين ، كذا ذكره الطيبي ، ولعل المراد بالكثرة أصناف العلوم والأموال ، والله أعلم بالحال ، وليس المراد بالإفراد نعمة الشهادة كما يتوهم فإنه لا يلائمه ما بعده ، بل المراد إفراد جنسية النعمة فإن المفرد المضاف للعموم بخلاف الأخيرتين فإنه جمع فيهما لإرادة الأنواع ، أو أفرد في الأول لنعمته البدنية فقط بخلاف الأخيرتين فإنه انضم معها النعمة المالية أو العلمية ( فعرفها ) : بالتخفيف [ ص: 289 ] أي : تذكرها فكأنه من الهول والدهشة ، نسيها وذهل عنها ( فقال تعالى : فما عملت فيها ؟ ) أي : في مقابلتها شكرا لها أي في أيامها لينفعك اليوم ( قال ) : أي الرجل ( قاتلت فيك ) أي : جاهدت في جهتك خالصا لك ، كذا ذكره الطيبي . أي : حاربت لأجلك ففي تعليلية ( حتى استشهدت ) : الظاهر أن هذا المقول صدر منه على زعمه . قال تعالى : وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ويحتمل أنه مبالغة في التمويه المعتاد به على ما ورد : كما يعيشون يموتون وكما يموتون يحشرون ، وقد قال تعالى : يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ( قال ) : تعالى ( كذبت ) أي : في دعوى الإخلاص أو في هذا القول ( ولكنك قاتلت لأن يقال ) أي : في حقك أنك أو هو ( جريء ) فعيل من الجراءة فهو مهموز ، وقد يدغم أي : شجاع ( فقد قيل ) أي ذلك القول لك وفي شأنك فحصل مقصودك وغرضك ( ثم أمر به ) أي : قيل لخزنة جهنم ألقوه في النار ( فسحب ) أي : جر ( على وجهه حتى ألقي في النار ) : مبالغة في تنكيله ( ورجل تعلم العلم ) : أي : الشرعي ( وعلمه ) : أي : الناس ، أي : وصل إلى مرتبة الكمال والتكميل ( وقرأ القرآن ) : فهو تخصيص بعد تعميم ، أو المراد به مجرد تلاوة القرآن ، يعني : التعلم والتعليم لم يمنعاه عن الاشتغال بالقرآن ، وهذا أظهر ( فأتى به ) : إلى محضر الحساب ( فعرفه نعمه ) : تعالى أو نعم الرجل ( فعرفها ) : فكأنه لغفلته عنها كان أنكرها ( قال ) : تعالى ( فما عملت فيها ) أي : هل صرفتها في مرضاتي أم في غيرها ( قال : تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن ) أي : صرفت نعمتي التي أنعمت بها علي في الاشتغال بالعلم والعمل والقراءة ابتغاء لوجهك وشكرا لنعمتك ( قال : كذبت ) : في دعوى مقام الإخلاص أو على مقتضى عادتك ( ولكنك تعلمت العلم ليقال : إنك عالم ) : ولعله لم يقل : وعلمت العلم ليقال إنك معلم ؛ للاختصار واكتفاء بالمقايسة ، أو لأن أساس الشيء إذا لم يكن على الإخلاص ، فيبعد بناؤه أن يكون على وجه الاختصاص ( وقرأت القرآن ليقال : هو قارئ ، فقد قيل ) : لك عالم وقارئ فما لك عندنا أجر ( ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ) . نعوذ بالله منها ( ورجل وسع الله عليه ) أي : كثر ماله ( وأعطاه ) : عطف بيان ( من أصناف المال كله ) : كالنقود والمتاع والعقار والمواشي ( فأتى به ) : على رءوس الخلائق للافتضاح ( فعرفه نعمه فعرفها ، قال ) : تعالى ( فما عملت فيها ؟ ) أي : في مقابلة النعم أو في الأموال ( قال : ما تركت من سبيل ) " من " زائدة تأكيدا لاستغراق النفي ( تحب أن ينفق فيها ) : كبناء المساجد والمدارس وإعطاء الزكاة والصدقات ( إلا أنفقت فيها لك . قال : كذبت ) أي : في قولك : لك ( ولكنك فعلت ليقال : هو جواد ) أي : سخي كريم ( فقد قيل ) : وفيه إشارة إلى أن الله لا يضيع أجر من عمل لأي غرض يكون ( ثم أمر به فسحب على وجهه ) : ( ثم ) : هذا هو الأصل الصحيح من النسخ في هذا المحل ، وفي نسخة هنا أيضا ( حتى ألقي في النار . رواه مسلم ) .

[ ص: 290 ]



الخدمات العلمية