الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2496 - وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان من دعاء داود يقول : ( اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك ، والعمل الذي يبلغني حبك ، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي ومالي وأهلي ، ومن الماء البارد ) قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر داود يحدث عنه : يقول : ( كان أعبد البشر ) . رواه الترمذي ، وقال حديث حسن غريب .

التالي السابق


2496 - [ وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( كان من دعاء داود يقول ) : اسم كان بحذف إن كما في : أحضر الوغى أي قوله : ( اللهم إني أسألك حبك ) : من إضافة المصدر إلى الفاعل أو المفعول ، والأول أظهر ، إذ فيه تلميح إلى قوله تعالى : يحبهم ويحبونه وأما قول ابن حجر : أي : حبي إياك ، فإنه فاتحة كل كمال فغفلة عن اصطلاح أرباب الحال ، ( وحب من يحبك ) : كما سبق ، أما الإضافة إلى المفعول فهو ظاهر كمحبتك للعلماء والصلحاء ، وأما الإضافة إلى الفاعل فهو مطلوب أيضا ، كما [ ص: 1732 ] ورد في الدعاء : وحببنا إلى أهلها وحبب صالحي أهلها إلينا . وأما ما ورد في الدعاء من سؤال حب المساكين فمحتمل ، ( والعمل ) : بالنصب عطف على المفعول الثاني ، وفي نسخة بالجر أي : وحب العمل من إضافة المصدر إلى مفعوله فقط ولا يحتاج إلى تقييده لقول ابن حجر : أي : الصالح فإنه استغنى عنه بقوله : ( الذي يبلغني ) : بتشديد اللام أي يوصلني ويحصل لي ( حبك ) : يحتمل الاحتمالين ( اللهم اجعل حبك ) : أي : حبي إياك ( أحب إلي من نفسي ومالي وأهلي ) : أي : من حبهما حتى أوثره عليهما . قال القاضي عدل عن اجعل نفسك مراعاة للأدب ، حيث لم يرد أن يقابل نفسه بنفسه عز وجل فإن قيل : لعله إنما عدل لأن النفس لا تطلق على الله تعالى . قلت : بل إطلاق صحيح ، وقد ورد في التنزيل مشاكلة قال الله تعالى : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك اهـ . وفيه أن المشاكلة إنما تكون في الثاني لا في الأول على ما ذكره البيانيون ، لكني وجدت المشاكلة في الأول أيضا في البخاري : وثبت علينا حية ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اقتلوها ) فذهبت . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( وقيت شركم كما وقيتم شرها ) .

وأما قول السيوطي - رحمه الله : وقد يتقدم كقوله تعالى : فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم نعم ورد في الحديث من غير مشاكلة أيضا : أنت كما أثنيت على نفسك ، لكن التحقيق أن إطلاق النفس بمعنى الذات يجوز على الله تعالى ، وأما باعتبار أن النفس بمعنى التنفس فلا يطلق ، وحيث أن اللفظ موهم ، فجواز الإطلاق توقيفي وما توفيقي إلا بالله .

وأما قول ابن حجر : وتجويز الشارح هذه المشاكلة غير صحيح ، لأن ما ورد في حقه تعالى موهم نقصا لا يجوز إلا باللفظ الوارد فيه ، وأما اختراع لفظ آخر وذكره فيه ، فلا يجوز ، وإن قلنا بما قاله الغزالي والباقلاني في أسماء الله تعالى وصفاته التي لم ترد ، لأن محل الجواز عندهما فيما لا يوهم نقصا بوجه فممتنع باتفاق الكل ، وهذا أبلغ راد لكلام الشارح ، فأعرض عنه ولا تلفت إليه ، فأمر غريب ونهي عجيب ومنشؤه عدم فهمه ، واقتصار علمه على فقهه فإن كلام الشارح أن مقتضى المقابلة المبالغة في كلامه - عليه الصلاة والسلام - أن يقال اجعل حب نفسك أحب إلي من نفسي ، لكنه - صلى الله عليه وسلم - عدل إليه تأدبا من أن يجعل نفسه مقابلا لنفسه تعالى ، وإلا فلولا هذه الملاحظة وأطلق فرضا ، لكان هذا الإطلاق جائزا منه - عليه الصلاة والسلام - لأنه الشارع ، وحينئذ كان يصح كلامه بالمشاكلة كقوله تعالى : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إذا عرفت هذا فقوله : لأن ما ورد في حقه تعالى إلخ . تطويل عبث ، إذ ليس الكلام فيه ، وقوله أما اختراع لفظ آخر فإن أراد أنه لا يجوز من الشارع ، فهذا كفر محض لأنه ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - إطلاق النفس على الله تعالى من غير مشاكلة في قوله : أنت كما أثنيت على نفسك ، فكيف لا يجوز على سبيل المقابلة ، وإن أراد أنه لا يجوز من غيره فحشو ، إذ ليس الكلام في غيره ، وأما ما ذكره من مذهب الغزالي والباقلاني في الأسماء والصفات : فخارج عن المبحث أيضا إذ بحث المشاكلة أعم من الاسم والصفة ، وأيضا مذهبهما في المخترع لا فيما ورد من الشارع ، ولو ورد منه فرضا ، فلهذا أبلغ راد لكلامه وفهم مرامه ، فأعرض عنه ولا تلتفت إليه

( ومن الماء البارد ) : دل على كونه محبوبا جدا أعاد من هاهنا لبدل استقلال الماء البارد في كونه محبوبا ، وذلك في بعض الأحيان ، فإنه يعدل بالروح . وعن بعض الفضلاء : ليس للماء قيمة لأنه لا يشترى إذا وجد ، ولا يباع إذا فقد . وعن بعض العرفاء إذا شربت الماء البارد أحمد ربي من صميم قلبي ، ويمكن والله تعالى أعلم أن يكون كناية عن روحه ، لأن حياته متعلقة بالماء . قال تعالى : وجعلنا من الماء كل شيء حي فيكون المراد من نفسي مراداتها ومشتهياتها ، وأما قول ابن حجر : عجيب قول الشارح وعن بعض الفضلاء : ليس للماء قيمة إلخ . فإنه إن أراد أن هذا حكم شرعي للماء كان باطلا بل هو مثلي تارة ومتقوم أخرى ، وإن كني بذلك عن نفاسة الماء كانت العبارة قاصرة ، وكان يكفي في ذلك أن يقول ما صرح به الفقهاء أن الشربة قد تساوي دنانير ، لا لكون [ ص: 1733 ] ذلك قيمة له ، بل لتوقف الحياة عليه ، فمبني على زعمه الباطل من أن معرفة الفقه منحصرة فيه وفي أمثاله ، إذ الحكم المذكور من المثلي والقيمي لا يخفى على أحد من الجهلاء فضلا عن الفضلاء ، فلا شك أن الفاضل إنما أراد به نفاسة الماء بطريق المبالغة ، بل على سبيل الحقيقة ، فإنه على تقدير وجود الماء عند أحد لا يشتريه ، فلا يكون قيمة له عنده ، وإذا فقد بحيث لا يوجد عند أحد بالبيع صح أنه لا قيمة له ، لأنه لا يشتري به ، وبهذا يظهر قصور عبارة فقهائه الذين قالوا : إن الشربة قد تساوي دنانير لا لكون ذلك قيمة له ، فإنه ظاهر المناقضة لأن الشيء إذا كان يساوي شيئا سواء كان ماء أو حجرا أو طعاما أو شجرا ، لا يقال في حقه إن ذلك لا يكون قيمة له ، فتصحيح كلامهم نفي القيمة العادية ثم قوله : بل لتوقف الحياة عليه ، لا يظهر أن هذا التعليل من كلامهم ، أو من كلامه ، مع أنه الظاهر لعدم متعلق اللام ، ويؤخذ من سياقه أن مراده أن ليس له قيمة لأنه ساوى دنانير على خلاف جري العادة ، وإنما يشتري لتوقف الحياة عليه ، لا لكونه يسوى بالدنانير ، ولا لكونها قيمة له ، وهذا سفساف من الكلام لأن حجرا إذا سوى ألوفا من الدنانير ، مع أنه لا ينفع ولا يضر ، لا يقال فيه إن ذلك لا يكون قيمة له ، فإذا كان يشتري الماء بالدنانير لتوقف الحياة عليه كيف يقال إن ذلك ليس قيمة له ؟

وبذلك تظهر مخالفة الحسن البصري للفقهاء حيث قالوا : الماء إذا تجاوز عن ثمن المثل جاز التيمم ، وأبى الحسن فقال : لو كان عندي جميع مال الدنيا فأدفعه إلى الماء وأتوضأ به ولا يصح لي التيمم ، وغايته أنه اختار مذهب الخواص والفقهاء إلى الحرج العام رحمة على العوام .

وبهذا يظهر أن هذا المعترض ما فهم كلام الفقهاء أيضا حق التفهم ، بل أخذ عنهم تقليدا ، وتوهم التقدم .

ومما يلائم قضية عزة الماء ما حكي أن ملكا وقع في صحراء وغلب عليه العطش ، فظهر له من رجال الغيب شخص معه ماء ، فطلب منه فأبى ، فعرض عليه نصف ملكه ، فأعطاه ثم حصل له بعد الشرب عسر البول الذي لا يطيق الصبر عليه فقال للشخص : إن داويته فأعطيك ملكي كله ، فدعا له فحصل له الفرج فعرض عليه الملك فقال : ملك يسوي نصفه لدخول شربة ، ونصفه لخروجها لا قيمة له . فكيف أختاره ؟

وكذا يتبين ما ورد عنه : - صلى الله عليه وسلم - ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة لما سقى كافرا منها شربة ماء ) يعني : فالحكمة في إطعامهم وإسقائهم وإبقائهم وزيادة إنعامهم أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر .

( قال ) أي : أبو الدرداء ( وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر ) : أي : هو ( داود يحدث عنه ) : أي : يحكي ( يقول ) : بدل من يحدث كذا ذكره الطيبي ، وتبعه ابن حجر ، والأظهر أنه حال من الضمير في يحدث ، ( كان ) : أي : داود ( أعبد البشر ) : أي : في زمانه ، كذا قيده الطيبي - رحمه الله ، وعلى تقدير الإطلاق لا محذور فيه ، إلا لا يلزم من الأعبدية الأعلمية فضلا من الأفضلية ، وقيل : هو أكثرهم شكرا لقوله تعالى : اعملوا آل داود شكرا أي بالغ في شكري ، وابذل وسعك فيه ، كذا وذكره الطيبي - رحمه الله - .

وفيه أنه لا دلالة على أنه أكثر البشر شكرا على الإطلاق لقوله تعالى في حق نوح إنه كان عبدا شكورا نعم يفهم من كونه نبيا أنه أكثر أهل زمنه شكرا ، كما يشير إليه اعملوا آل داود شكرا حيث اكتفى من آل داود بمطلق عمل الشكر ، ثم ذيله بقوله المنزل منزلة التعليل : وقليل من عبادي الشكور إشارة إلى أن مرتبة الشكور إنما هي للأنبياء ، وبقدر متابعتهم حاصلة للأصفياء ، وبهذا يصح قوله : أي بالغ في شكرك ، وإلا فهو غير مأخوذ من قوله : اعملوا آل داود شكرا قال الطيبي - رحمه الله - قوله : يحدث يروى مرفوعا جزاء للشرط إذا كان ماضيا والجزاء مضارعا يسوغ فيه الوجهان اهـ . ومراده أن الرفع متعين ، ولو قيل : إن إذا يجزم كما ذكروا في قوله :

وإذا تصبك خصاصة فتحمل فإن الشرط الجازم المتفق عليه إذا كان ماضيا والجزاء مضارعا يسوغ فيه الوجهان ، فكيف إذا كان الشرط جازما مختلفا فيه ، فيتعين الرفع على كل تقدير ، ولا يجوز الجزم لعدم وروده رواية .

لكن لو ورد له وجه في الدراية فبطل قول ابن حجر - رحمه الله - نقلا واعتراضا ، حيث قال بالرفع والسكون ، كما هو القاعدة في كل جزاء شرطه ماض ، كذا قاله الشارح وهو وهم ، فإن القاعدة إنما هي في الشرط الجازم وما هنا إذا وهو غير جازم . ( رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن غريب ) ورواه الحاكم في مستدركه .

[ ص: 1734 ]



الخدمات العلمية