الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2557 - وعن عبد الله بن عمر قال : تمتع رسول - الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج ، فتمتع الناس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج ، فكان من الناس من أهدى ، ومنهم من لم يهد ، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس : " من كان منكم أهدى ، فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن منكم أهدى ، فليطف بالبيت ، وبالصفا والمروة ، وليقصر ، وليحلل ، ثم ليهل بالحج ، فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله ؛ فطاف حين قدم مكة ، واستلم الركن أول شيء ، ثم خب ثلاثة أطواف ، ومشى أربعا ، فركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ، ثم سلم ، فانصرف ، فأتى الصفا ، فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف ، ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ، ونحر هديه يوم النحر ، وأفاض فطاف بالبيت ، ثم حل من كل شيء حرم منه ، وفعل مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ساق الهدي من الناس . ( متفق عليه ) .

التالي السابق


2557 - ( وعن عبد الله بن عمر قال : تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، فساق معه الهدي من ذي الحليفة ) قيل : المراد التمتع اللغوي ، وهو القران آخرا ، ومعناه أحرم بالحج أولا ، ثم أحرم بالعمرة ، فصار قارنا في آخره ، ولا بد من هذا التأويل للجمع بين الأحاديث كما مر ، ذكره الطيبي - رحمه الله - وظاهر هذا الحديث أنه أحرم بالعمرة أولا ، ثم أحرم بالحج ، ويدل عليه قوله ( وبدأ ، فأهل بعمرة ، ثم أهل بالحج ) ، وهذا الإدخال أفضل من عكسه ، مع أنه ورد صريحا في أحاديث أنه أحرم بالحج ، ثم أحرم بالعمرة ، فكيف يصار إليه ، ولو ثبت لكان معارضا ، فالذي أذن الله - تعالى - به أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يبتدئ بالعمرة بعد فرض الحج عليه في أول الوهلة ، وقد اعتمر مرارا بعد الهجرة ، فالصواب أنه كان قارنا أولا ومعنى قوله ( فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ) أنه لما جمع بين النسكين قدم ذكر العمرة على الحج ؛ لأنه الوجه المسنون في القران دون العكس ، ثم كان أكثر ما يذكر في إحرامه الحج ؛ لأنه الأصل المفروض ، والعمرة سنة تابعة ، ولاشك أن حمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على الجمع بين العبادتين أولى من الحمل على عبادة واحدة ، ( فتمتع الناس ) أي أكثرهم ، هذا التمتع اللغوي بالجمع بين العبادتين ( مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج ) أي بضمها إليه ( فكان من الناس ) أي : الذين أحرموا بالعمرة ( من أهدى ) أي : ساق الهدي ( ومنهم من لم يهد ، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس ) أي : المعتمرين ( من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ) ، وفي هذا حجة على الشافعي - رحمه الله - ( ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت ) أي : طواف العمرة ( وبالصفا والمروة ، وليقصر ) أي : إبقاء للشعر لتحلل الحج ( وليحلل ) أي : ليخرج من إحرام العمرة باستمتاع المحظورات ( ثم ليهل بالحج ) أي : ليحرم به من أرض الحرم ( وليهد ) أي : ليذبح الهدي يوم النحر بعد الرمي ، قبل الحلق ( فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج ) أي : في أشهره قبل يوم النحر ، والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة ( وسبعة إذا رجع إلى أهله ) توسعة ، ولو صام بعد أيام التشريق بمكة جاز عندنا .

( فطاف ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( حين قدم مكة ) أي : طواف العمرة ( واستلم الركن ) أي : الحجر الأسود ( أول شيء ) أي : من أفعال الطواف بعد النية ( ثم خب ) أي : رمل ( ثلاثة أطواف ) أي : في ثلاثة أشواط ، قال ابن الملك : إظهارا للجلادة والرجولية في نفسه ، وفيمن معه من الصحابة ، كيلا يظن الكفار أنهم عاجزون ضعفاء ، قلت : هذا كان علة فعله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة القضاء ، ثم استمرت السنة بعد زوال العلة ( ومشى ) أي : بسكون ، وهينة ( أربعا ) أي : في أربع مرات من الأشواط ( فركع ) أي : صلى ( حين قضى ) أي : أدى ، وأتم ( طوافه بالبيت عند المقام ) متعلق بـ " ركع " ( ركعتين ) أي : صلاة الطواف ، وهي واجبة عندنا ، سنة عند الشافعي ( ثم سلم ) أي : من صلاته ، أو على الحجر ، بأن استلمه ( فانصرف ) أي : عن البيت ، أو عن المسجد ( فأتى الصفا ) ، وفي نسخة : والمروة ( فطاف ) أي : سعى ( بالصفا والمروة سبعة أطواف ) أي : أشواط ( ثم لم يحل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ، ونحر هديه يوم النحر ) ، وهو التحلل الأول بالحلق فيما عدا الجماع ( وأفاض ) أي : إلى مكة ( فطاف بالبيت ) أي : طواف الإفاضة ( ثم حل من كل شيء حرم منه ) وهو التحلل الثاني المحلل للنساء ( وفعل مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ساق الهدي من الناس ) أي : مطلقا ( متفق عليه ) . [ ص: 1780 ] وأخرج أبو داود ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجاجا حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزلنا ، فجلست عائشة إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلست إلى جنب أبي بكر ، وكانت زاملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزاملة أبي بكر واحدة مع غلام لأبي بكر ، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه ، فطلع ، وليس معه بعيره ، فقال له أبو بكر : أين بعيرك ؟ فقال : أضللته البارحة ، قال أبو بكر : بعير واحد تضله ، وطفق يضربه ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتسم ويقول : انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع ، وما يزيد على ذلك ، ويبتسم " وفيه تقوية لقول من قال : تمام الحج ضرب الجمال ؛ لأنه من سنة الصديق بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قرره ، ولم يمنعه ، ولما بلغ - صلى الله عليه وسلم - الأبواء ، وودان أهدى له الصعب بن جثامة حمارا وحشيا ، فرده عليه ، فلما رأى في وجهه أي : من التغير لا من الغضب - كما ذكره ابن حجر - قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم . رواه الشيخان - رحمهما الله - وفي رواية أخرى " أنه بعض حمار وحشي يقطر دمه " وعين بعض في رواية : أنه العجز ، وفي رواية : أنه شقه ، وجمع بينهما البيهقي ، وغيره أنه أهدى إليه هدايا ، وبعض مذبوح ، واتفقت الروايات كلها أنه رد عليه ، إلا ما رواه ابن وهب ، والبيهقي من طريقه بسند حسن : أنه أهدى له عجز حمار وحشي ، وهو بالجحفة ، فأكل منه ، قال البيهقي : إن كان هذا محفوظا ، فلعله رد الحي ، وقبل اللحم ، وإنما رد الحي لكونه صيدا ، ورد اللحم تارة لكونه ظن أنه صيد له ، وقبل أخرى حيث علم أنه لم يصد لأجله ، ويحتمل حمل قبوله على حال رجوعه - عليه الصلاة والسلام - من مكة ؛ لأنه جازم بوقوع ذلك في الجحفة ، وفي غير هذه الرواية بالأبواء ، أو بودان ، ذكره ابن حجر - رحمه الله - وفيه أنه حال الرجوع لم يكن محرما ، فلا يتصور عدم قبوله .

وقال القرطبي - رحمه الله : يحتمل أن يكون أحضر الحمار مذبوحا ، ثم قطع منه جزءا بحضرته ، فقدمه له ، فمن قال : أهدى حمارا أراد ابتداء ، وقال بعضهم : أراد ما قدمه ، ويحتمل أنه أهداه له حيا ، فلما رده ذكاه ، وأتاه ببعضه ظانا أن الرد لمعنى يختص بجملته ، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء حكم الكل ، والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الرواة اهـ .

ولا يخفى أن حكم الكل حيا مغاير للجزء ، فإن الأول صيد لا يجوز أخذه ، وأما الجزء ، فيحتمل أنه ما صيد لأجله فيحل ، أو صيد له فيحرم ، وقال جمع من الصحابة : لا يجوز للمحرم لحم الصيد بوجه من الوجوه أخذا بقضية الصعب ، والجمهور أخذوا بخبر مسلم أنه - عليه الصلاة والسلام - قال في الصيد الذي صاده أبو قتادة ، وهو حلال للمحرمين : هو حلال فكلوه ، وفي رواية : " هل معكم منه شيء ؟ قالوا : معنا رجله ، فأخذها - صلى الله عليه وسلم - فأكلها " .




الخدمات العلمية