الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2569 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : طاف في حجة الوداع على بعير ، يستلم الركن بمحجن . متفق عليه .

التالي السابق


2569 - ( وعن ابن عباس قال : طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع على بعير ) : وهذا في طواف الإفاضة إما لخصوصية ، أو لعذرية ، فإن المشي في الطواف عندنا واجب ، وقال الطيبي - رحمه الله : إنما طاف راكبا مع أن المشي أفضل ، ليراه الناس كلهم ، وذلك لازدحامهم وكثرتهم .

( يستلم الركن بمحجن ) : أي : يشير إليه بعصا معوجة الرأس كالصولجان ، والميم زائدة على ما ذكره الطيبي ( متفق عليه ) .

[ ص: 1786 ] قال ابن الهمام - رحمه الله : أخرج الستة إلا الترمذي عن ابن عباس أن النبي طاف في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه ، لأن يراه الناس ، وليشرف ، وليسألوه ، فإن الناس غشوه .

وأخرجه البخاري ، عن جابر إلى قوله : " لأن يراه الناس " ورواه مسلم ، عن أبي الطفيل : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالبيت على راحلته يستلم الركن بمحجن معه ، ويقبل المحجن، وهنا إشكال حديثي ، وهو أن الثابت بلا شبهة أنه رمل في حجة الوداع في غير موضع ، ومن ذلك حديث جابر الطويل ، فارجع إليه ، وهذا ينافي طوافه على الراحلة ، فإن أجيب بحمل حديث الراحلة على العمرة دفعه حديث عائشة في مسلم ( طاف - عليه الصلاة والسلام - في حجة الوداع على راحلته يستلم الركن كراهية أن ينصرف الناس عنه ) ومرجع الضمير فيه أنه احتمل كونه للركن ، يعني أنه لو طاف ماشيا لانصرف الناس عن الحجر كلما مر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توقيرا له أن يزاحم ، لكنه يحتمل كون مرجعه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني لو لم يركب لانصرف الناس عنه ؛ لأن كل من رام الوصول إليه لسؤال ، أو لرؤية ، أو لاقتداء لا يقدر لكثرة الخلق حوله ، فينصرف من غير تحصيل حاجته ، فيجب الحمل عليه لموافقة هذا الاحتمال حديث ابن عباس - رضي الله عنه - فيحصل اجتماع الحديثين دون تعارضهما .

والجواب : أن في الحج للآفاقي طوفة ، فيمكن كون المروي من ركوبه كان في طواف الفرض يوم النحر ليعلمهم ، ومشيه كان طواف القدوم ، وهو الذي يفيده حديث جابر الطويل ؛ لأنه حكي في طوافه الذي بدأ به أول دخول مكة ، كما يفيده سوقه للناظر فيه .

فإن قلت : فهل يجمع بين ما عن ابن عباس ، وعائشة - رضي الله عنها - أنه إنما طاف راكبا ليشرف ، ويراه الناس ، فيسألونه ، وبين ما عن سعيد بن جبير أنه إنما طاف كذلك ؛ لأنه كان يشتكي ، كما قال محمد : أخبرنا أبو حنيفة ، عن حماد بن أبي سليمان ، أنه سعى بين الصفا والمروة مع عكرمة ، فجعل حماد يصعد الصفا ، وعكرمة لا يصعدها ، فقال حماد : يا عبد الله ، ألا تصعد الصفا والمروة ؟ فقال : هكذا كان طواف رسول الله - صلى الله عليه وسلم : قال حماد - رحمه الله : فلقيت سعيد بن جبير ، فذكرت له ذلك ، فقال : إنما طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته ، وهو شاك يستلم الأركان بمحجن ، فطاف بين الصفا والمروة على راحلته ، فمن أحل ذلك لم يصعد . اهـ .

فالجواب : نعم ؛ بأن يحمل ذلك على أنه كان في العمرة ، فإن قلت : قد ثبت في مسلم ، عن ابن عباس إنما سعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورمل بالبيت ؟ ليري المشركين قوته ، وهذا لازم أن يكون في العمرة إذ لا مشرك في حجة الوداع بمكة ، فالجواب : يحمل كل منهما على عمرة غير الأخرى ، والمناسب لحديث ابن عباس كونه في عمرة القضاء ; لأن الإرادة تفيده ، فليكن ذلك الركوب للشكاية في غيرها ، وهي عمرة الجعرانة اهـ .

ولا مانع من الجمع بين العلل ، لركوبه - صلى الله عليه وسلم - أو نقول : حمل المطلع على الشكاية ركوبه لعذر المرض ، وغير المطلع حمله على ما رأى من رأيه ، وهذا عندي هو الجواب ، والله تعالى أعلم بالصواب .

وقد أبعد من حمل ركوبه على أن لا ينصرف الناس عن الركن ، فإن مثل هذه العلة لا تصلح أن تكون مانعة عن الأمر الأفضل ، فضلا عن الواجب ، فتأمل ، واختر أحسن العلل لئلا تقع في الزلل ، والخطل .

ثم رأيت الجمع الذي اختاره ابن الهمام - رحمه الله - غير منطبق على ما في ظاهر الحديث الآتي عند ابن عباس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه اعتمروا من الجعرانة ، فهلوا بالبيت ، وحمله على فعل الصحابة دون فعله في غاية من البعد ، والله تعالى أعلم .

ثم من الغريب قول ابن حجر : طاف - عليه الصلاة والسلام - راكبا ، فلم يكن يمس بما في يده الحجر ، بل ما فوقه من الركن المحاذي للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على ناقته ، ووجه غرابته أن الراكب يتمكن من إشارة يده إلى محاذاة الركن حقيقة ، فما الحاجة إلى ارتكاب المجاز في صنعته ؟ وكأنه توهم أنه من قبيل استقبال الكعبة من فوق جبل أبي قبيس ، ونحوه ، والفرق ظاهر كما لا يخفى .

[ ص: 1787 ]



الخدمات العلمية