الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3293 - وعن مالك بلغه أن رجلا قال لعبد الله بن عباس : إني طلقت امرأتي مائة تطليقة فماذا ترى علي ؟ فقال ابن عباس : طلقت منك بثلاث ، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا . رواه في الموطأ .

التالي السابق


3293 - ( وعن مالك بلغه أن رجلا قال لعبد الله بن عباس : إني طلقت امرأتي مائة تطليقة فماذا ترى علي ؟ ) : من الرأي وهو الحكم بوقوع الطلاق أو عدمه ( فقال ابن عباس طلقت ) : بفتح الطاء وضم اللام أي المرأة منك ( بثلاث وسبع ) : بالرفع ( وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا رواه ) : أي : مالك ( في الموطأ ) : في عبارة المؤلف مسامحة لمناقشة سبق توضيحها ، وفي الهداية : وطلاق البدعة ما خالف قسمي السنة وذلك بأن يطلقها ثلاثا بكلمة واحدة أو مفرقة في طهر واحد أو اثنتين كذلك أو واحدة في الحيض أو في طهر قد جامعها فيه أو جامعها في الحيض الذي يليه هو ، فإذا فعل ذلك وقع الطلاق وكان عاصيا ، قال ابن الهمام : وفي كل من وقوعه وعدده وكونه معصية خلاف فعل الإمامية لا يقع بلفظ الثلاث في حالة الحيض ; لأنه بدعة محرمة ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ، وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها حين طلقها وهي حائض دليل على بطلان قولهم في الحيض وأما بطلانه في الثلاث فينظمه ما سيأتي من دفع كلام الإمامية ، وقال قوم : يقع به واحدة ، وهو مروي عن ابن عباس ، وبه قال ابن إسحاق ونقل عن طاوس وعكرمة ، يقولون خالف السنة فيرد إلى السنة ، وفي الصحيحين : أن أبا الصهباء قال لابن عباس : لم تعلم أن الثلاثة كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر ، قال : نعم ، وفي رواية لمسلم إن ابن عباس قال : كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر ، طلاق الثلاث واحدة . فقال عمر : إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم . وروى أبو داود عن ابن عباس ، قال : إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة ، ومنهم من قال : في المدخول بها تقع ثلاثة وفي غيرها واحدة ، لما في مسلم وأبي داود والنسائي أن أبا الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال : أما علمت أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة ، الحديث ، قال ابن عباس : بل كان الرجل إذا طلق امرأته قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ، فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال أجيزوهن عليهم هذا لفظ أبي داود ، وذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين إلى أنه يقع ثلاثا ، ومن الأدلة في ذلك ما في مصنف ابن أبي شيبة والدارقطني من حديث ابن عمر المتقدم قلت : يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا ، قال : إذا قد عصيت ربك وبانت منك امرأتك . وفي سنن أبي داود عن مجاهد قال : كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال : إنه طلق امرأته ثلاثا ، قال : فسكت ، ظننت أنه ردها إليه ثم قال : يطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول : يا ابن عباس ، وإن الله عز وجل يقول : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ) عصيت ربك وبانت منك امرأتك . وفي الموطأ ما تقدم وفيه أيضا بلغه أن رجلا جاء إلى ابن مسعود فقال : إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات فقال : ما قيل لك ؟ فقال : قيل لي : بانت منك . قال : صدقوا . هو مثل ما يقولون ، وظاهره الإجماع على هذا الجواب وفي سنن أبي داود وموطأ مالك عن محمد بن إياس بن البكير ، قال : طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ثم بدا له أن ينكحها فجاء يستفتي ، فذهبت معه فسأل عبد الله بن عباس وأبا هريرة ، فقالا : لا نرى أن تنكحها حتى تنكح زوجا غيرك ، قال : فإنما طلاقي إياها واحدة ؟ فقال ابن عباس : إنك أرسلت بين يديك ما كان لك من فضل ، وهذا يعارض ما تقدم من أن غير المدخول بها إنما تطلق بالثلاث واحدة وجميعها يعارض ما عن ابن عباس ، وفي موطأ مالك مثله عن ابن عمر - رضي الله عنه - وأما إمضاء عمر الثلاث عليهم فلا يمكن مع عدم مخالفة الصحابة له مع علمه بأنها كانت واحدة إلا وقد اطلعوا في الزمان المتأخر على وجود ناسخ ، هذا إن كان على ظاهره ، أو لعلمهم بانتهاء الحكم لذلك لعلمهم بإناطته بمعان علموا انتفاءها في الزمن المتأخر ، فإنا نرى الصحابة تتابعوا على هذا ولا يمكن وجود ذلك منهم مع اشتهار كون حكم الشرع المتقرر كذلك أبدا ، فمن ذلك ما أوجدناك عن عمر وابن عباس وأبي هريرة وروي أيضا عن [ ص: 2147 ] عبد الله بن عمرو بن العاص ، وأسند عبد الرزاق عن علقمة قال : جاء رجل إلى ابن مسعود ، فقال إني طلقت امرأتي تسعا وتسعين فقال له ابن مسعود : ثلاث تبينها وسائرهن عدوان . وروى وكيع ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : إني طلقت امرأتي ألفا فقال له علي : بانت منك بثلاث واقسم سائرهن على نسائك . وروى وكيع أيضا عن معاوية بن أبي يحيى قال : جاء رجل إلى عثمان بن عفان فقال : طلقت امرأتي ألفا فقال بانت منك بثلاث ، وأسند عبد الرزاق عن عبادة بن الصامت أن أباه طلق امرأة له ألف تطليقة فانطلق عبادة فسأله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : بانت بثلاث في معصية الله - تعالى - وبقي تسعمائة وسبع وتسعون عدوان وظلم ، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، وقول بعض الحنابلة القائلين بهذا المذهب توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مائة ألف عين رأته فهل صح لكم عن هؤلاء أو عن عشر عشر عشرهم القول بلزوم الثلاث بفم واحد ، بل لو جهدتم لم تطيقوا نقله عن عشرين نفسا باطل ، أما أولا : فإجماعهم ظاهر ، فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه خالف عمر حين أمضى الثلاث ، وليس يلزم في نقل الحكم الإجماعي عن مائة نفس أن يسمي كلا ، ليلزم في مجلد كبير حكم على أنه إجماع سكوتي ، وأما ثانيا : فإن العبرة في نقل الإجماع نقل ما عن المجتهدين لا العوام ، والمائة الذي توفي عنهم - صلى الله عليه وسلم - لا يبلغ عدة المجتهدين الفقهاء منهم أكثر من عشرين : كالخلفاء والعبادلة ، وزيد بن ثابت ، ومعاذ بن جبل ، وأنس ، وأبي هريرة ، وقليل ، والباقون يرجعون إليهم ويستفتون منهم ، وقد أثبتنا النقل عن أكثرهم صريحا بإيقاع الثلاث ، ولم يظهر لهم مخالف ، فماذا بعد الحق إلا الضلال ، وعن هذا قلنا لو حكم حاكم بأن الثلاث بفم واحد واحدة ، لم ينفذ حكمه ; لأنه لا يسوغ الاجتهاد فيه فهو خلاف لا اختلاف ، والرواية عن أنس بأنها ثلاث أسندها الطحاوي وغيره وغاية الأمر فيه أن يصير كبيع أمهات الأولاد أجمع على نفيه وكن في الزمن الأول يبعن ، هذا ، وإن حمل الحديث على خلاف ظاهره دفعا لمعارضة إجماع الصحابة على ما أوجدناك من النقل عنهم واحدا واحدا ، وعدم المخالف لعمر في إمضائه فتأويله أن قول الرجل : أنت طالق أنت طالق أنت طالق كان واحدة في الزمن الأول ، لقصدهم التأبيد في ذلك الزمان ثم صاروا يقصدون التجديد فألزمهم عمر ذلك لعلمه بقصدهم ، وأما المقام الثلاث وهو كون الثلاث بكلمة واحدة معصية أولا ، فحكي فيه خلاف الشافعي استدل بالإطلاقات من نحو قوله تعالى جل شأنه : ( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن ) وما روي أن عويمرا العجلاني لما لاعن امرأته قال كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا ، ولم ينكر عليه - صلى الله عليه وسلم - وطلق عبد الرحمن بن عوف تماضر ثلاثا في مرضه وطلق الحسن بن علي امرأته شهباء ثلاثا لما هنأته بالخلافة بعد موت علي ولنا قوله - تعالى - جل جلاله ( الطلاق مرتان ) إلى أن قال : ( فإن طلقها ) فلزم أن لا طلاق شرعا إلا كذلك ، لأنه ليس وراء الجنس شيء ، وهذا من طرق الحصر ، فلا طلاق مشروع ثلاثا بمرة واحدة وكان يتبادر أن لا يقع شيء كما قالت الإمامية ، لكن لما علمت أن عدم مشروعيته كذلك لمعنى في غيره ، وهو تفويت معنى شرعيته - سبحانه - له كذلك وإمكان التدارك عند الندم وقد يعود ضرره على نفسه ، وقد لا ، ولنا أيضا ما قدمنا من قول ابن عباس الذي طلق ثلاثا وجاء يسأل : " عصيت ربك " ، وما قدمناه من مسند عبد الرزاق في حديث عبادة بن الصامت حيث قال - صلى الله عليه وسلم - بانت بثلاث في معصية ، وكذا ما حدث الطحاوي عن مالك بن الحارث قال : جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال : إن عمي طلق امرأته ثلاثا ، فقال : إن عمك عصى الله ، فأثم ، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا ، وما روى النسائي عن محمود بن لبيد . . الحديث ، كما سبق ، اهـ . وأما ما وقع في بعض كتب الفقه مستندا إلى بعض علمائنا أن البكر إذا طلقت ثلاثا لا يقع إلا واحدة فخطأ فاحش نبه عليه ابن الهمام .




الخدمات العلمية