الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3312 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني ، فاقبضه إليك ، فلما كان عام الفتح أخذه سعد ، فقال : إنه ابن أخي ، وقال عبد بن زمعة : أخي ، فتساوقا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال سعد : يا رسول الله ! إن أخي كان عهد إلي فيه . وقال عبد بن زمعة : أخي وابن وليدة أبي ، ولد على فراشه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هو لك يا عبد بن زمعة ، الولد للفراش ، وللعاهر الحجر ) : ثم قال لسودة بنت زمعة : ( احتجبي منه ) : لما رأى من شبهه بعتبة ، فما رآها حتى لقي الله . وفي رواية : قال : ( هو أخوك يا عبد بن زمعة من أجل أنه ولد على فراش أبيه ) : متفق عليه .

التالي السابق


3312 - ( وعن عائشة قالت : كان عتبة ) : بضم أوله وسكون فوقية ( ابن أبي وقاص ) : وهو الذي كسر رباعية النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ومات كافرا ( عهد ) : أي : أوصى ( إلى أخيه سعد بن أبي وقاص ) : وهو أحد العشرة المبشرة ( أن ابن وليدة زمعة ) : بالإضافة أي : ابن جاريته ( مني ) : وهي جارية زانية كانت في الجاهلية لزمعة وهو بفتح الزاي والميم ، وقد تسكن الميم ، كذا في جامع الأصول ، واقتصر ابن الهمام على الفتحتين ، وفي المغني : أكثر الفقهاء والمحدثين يسكنون الميم ( فاقبضه ) : بكسر الموحدة أي : أمسك ابنها ( إليك ) : أي : منضما إلى حجر تربيتك ، يعني : كان عتبة وطىء الوليدة وولدت ابنا ، فظن أن نسب ولد الزنا ثابت للزاني فأوصى لأخيه وأمره أن يقبض ذلك الابن إلى نفسه ، وينفق عليه ويربيه . ( فلما كان عام الفتح أخذه ) أي : سعد ابن الوليدة ( فقال : إنه ابن أخي [ ص: 2166 ] وقال عبد بن زمعة : أخي ) : أي : هو أخي ; لأن أبي كان يطؤها بملك اليمين ، وقد ولدت ولدها على فراشه فهو أولى به وأنا أحق به . ( فتساوقا ) : تفاعل من السوق أي : فذهبا ( إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) : أي : للمرافعة ( فقال سعد : يا رسول الله ! إن أخي كان عهد إلي فيه ) : أي : في ابن الوليدة ( قال عبد بن زمعة : أخي وابن وليدة أبي ، ولد على فراشه ) . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هو لك يا عبد بن زمعة ، الولد للفراش ) يعني : الولد يتبع الأم إذا كان الوطء زنا ، هذا هو المراد هاهنا ، وإذا كان والده وأمه رقيقين أو أحدهما رقيقا ، فالولد يتبع أمه أيضا ( وللعاهر الحجر ) : أي : وللزاني الحجارة بأن يرجم إن كان محصنا ، ويحد إن كان غير محصن ، ويحتمل أن يكون معناه الحرمان عن الميراث والنسب ، والحجر على هذا التأويل كناية عن الحرمان ، كان يقال للمحروم : في يده التراب والحجر . قال القاضي - رحمه الله - : الوليدة الأمة ، وكانت العرب في جاهليتهم يتخذون الولائد ، ويضربون عليهن الضرائب فيكتسبن بالفجور ، وكانت السادة أيضا لا يحتمونهن فيأتونهن ، فإذا أتت وليدة بولد ، وقد استفرشها السيد وزنى بها غيره أيضا ، فإن استلحقه أحدها ألحق به ونسب إليه ، وإن استلحقه كل واحد منهما وتنازعا فيه ، عرض على القافة ، وكانعتبة قد صنع هذا الصنع في جاهليته بوليدة زمعة ، وحسب أن الولد له ، فعهد إلى أخيه بأن يضمه إلى نفسه وينسبه إلى أخيه حينما احتضر ، وكان كافرا ، فلما كان عام الفتح أزمع سعد على أن ينفذ وصيته وينزعه ، فأبى ذلك عبد بن زمعة ، وترافعا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فحكم أن الولد للسيد الذي ولد على فراشه ، وليس للزاني عن فعله سوى الوبال والنكال ، وأبطل ما كانوا عليه في جاهليتهم من إثبات النسب للزاني . وفي هذا الحديث أن الدعوى تجري في النسب كما تجري في الأموال ، وأن الأمة تصير فراشا بالوطء ، وأن السيد إذا أقر بالوطء ثم أتت بولد يمكن أن يكون منه لحقه ، وإن وطئها غيره ، وأن إقرار الوارث فيه كإقراره . قال النووي - رحمه الله - : ما تصير به المرأة فراشا إن كانت زوجة فمجرد عقد النكاح ، ونقلوا في هذا الإجماع ، وشرطوا له إمكان الوطء ، فإن لم يمكن بأن نكح المشرقي مغربية ، ولم يفارق واحد منهما وطنه ، ثم أتت بولد لستة أشهر أو أكثر لم يلحق ، هذا قول مالك والشافعي ، إلا أن أبا حنيفة لم يشترط الإمكان حتى لو طلق عقب العقد وأتت بولد لستة أشهر لحقه الولد ، وهذا ضعيف ظاهر الفساد ، اهـ . لأن مبناه على ظهور فساده وغفلته عن تحقيق معناه وظهور صلاحه ، فإن أبا حنيفة شرط الإمكان لكن لم يقتصر على الإمكان العادي وجوز اجتماعهما بطريق خرق العادة ، حملا للمؤمن بحسب الإمكان على الصلاح والإحسان ، والله المستعان . قال : ( وإن كانت أمة فعند الشافعي ومالك تصير فراشا للواطئ بمجرد الملك ، فإذا أتت بعد الوطء بولد لمدة الإمكان لحقه ، وقال أبو حنيفة - رحمه الله - : لا تصير فراشا إلا إذا ولدت ) . ( ثم قال لسودة بنت زمعة ) : أي : زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ( احتجبي منه ) : أي : من الولد ( لما رأى ) : بكسر اللام وتخفيف الميم ( من شبهه بعتبة ) : بيان لما يعني أن ظاهر الشرع هذا الابن أخوك ، ولكن التقوى أن تحتجبي منه ، لأنه يشبه عتبة . قال النووي : واحتج بعض الحنفية بهذا الحديث على أن الوطء بالزنى له حكم الوطء بالنفخ في حرمة المصاهرة ، وقال الشافعي - رحمه الله - ومالك وغيرهم : لا أثر لوطء الزنا ، بل للزاني أن يتزوج أم المزني بها وبنتها ، وزاد الشافعي وجوز نكاح البنت المتولدة من مائه بالزنا وقالوا : ووجه الاحتجاج به أن سودة أمرت بالاحتجاب ، وهذا احتجاج ضعيف ; لأن هذا على تقدير كونه من الزنا فهو أجنبي من سودة لا يحل الظهور له ، سواء ألحق بالزاني أم لا ، ولا تعلق له بالمسألة المذكورة . وفيه أن حكم الحاكم لا يحل الأمر في الباطن ، فإذا حكم بشهادة شاهدي زور أو نحو ذلك لم يحل المحكوم للمحكوم له ; لأن - صلى الله عليه وسلم - حكم به لعبد بن زمعة أنه أخ له ، ولسودة بالاحتجاب اهـ .

[ ص: 2167 ] قال ابن الهمام : إذا ولدت الأمة من مولاها فلا يثبت نسبه منه إلا أن يعترف به ، وإن اعترف بوطئها ، وهو قول الثوري والبصري والشعبي وهارون ، وهو المروي عن عمر وزيد بن ثابت مع العزل ، وقال مالك والشافعي وأحمد : يثبت إذا أقر بوطئها وإن عزل عنها ، ولو وطئ في دبرها يلزمه الولد عند مالك ، ومثله عن أحمد ، هو وجه مضعف للشافعية ، وأصل دليلهم فيه ما رواه الجماعة إلا الترمذي من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : اختصم سعد بن وقاص ، وعبد بن زمعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعني في ابن وليدة زمعة - فقال سعد : يا رسول الله ! هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه انظر إلى شبهه ، وقال عبد بن زمعة : هذا أخي يا رسول الله ! ولد على فراش أبي ، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شبهه فرأى شبها بينا بعتبة ، فقال : ( هو لك يا عبد بن زمعة ، الولد للفراش ، وللعاهر الحجر ، واحتجبي منه يا سودة ) : فلم تره سودة قط . وأجيب : بأنه - عليه الصلاة والسلام - إنما قضى به لعبد بن زمعة على أنه عبد له ورثه لا على أنه أخوه ، ولذا قال : ( هو لك ) : ولم يقل هو أخوك ، وقال : ( احتجبي منه يا سودة ) : ولو كان أخا لها بالشرع لم يجب احتجابها منه ، فهذا دفع بانتفاء لازم الإخوة شرعا ، والأول باللفظ نفسه ، ويدفع الأول بأن في رواية أخرى ( هو أخوك يا عبد ) : وأما الأمر بالاحتجاب ، فما رأى من الشبه البين بعتبة ، ويدفع الأول أيضا بأن هذه الرواية حينئذ معارضة لرواية : ( هو لك ) : وهو أرجح لأنها المشهورة المعروفة ، فلا تعارضها الشاذة ، والشبه لا يوجب احتجاب أخته شرعا منه ، وإلا لوجب الآن وجوبا مستمرا أن كل من أشبه غير أبيه الثابت نسبه منه يجب حكما للشبه احتجاب أخته وعمته وجدته لأبيه منه ، هو منتف شرعا ، وقوله : ( الولد للفراش ) : انتفى به نسبه عن سعد بأنه ابن أخيه ، وعن عبد بأنه أخوه يعني الولد للفراش ، ولا فراش لواحد من عتبة وزمعة ، وبه يقوى معارضة رواية : ( هو أخوك ) : ويمكن أن يجعل هذا ليس حكما مستمرا على ما ذكرنا خاصا بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن حجابهن منيع ، وقد قال تعالى جل جلاله ( لستن كأحد من النساء ) وعلى هذا يجب حمل الوليدة على أنها كانت ولدت لزمعة قبل ذلك ، ويكون قوله ( الولد للفراش ) : يعني أم الولد ، وحينئذ فقوله : ( هو لك ) : أي : مقضي لك ، ويكون المراد أنه أخوك كما في الراوية الأخرى ، وأما ما نقل عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - أنه قال : ما بال رجال يطئون ولائدهم ثم يعتزلونهن ، لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه قد ألم بها إلا ألحقت ولدها بها ، فاعتزلوا بعد ذلك أو اتركوا . رواه الشافعي . فمعارض بما روي عن عمر ، أنه كان يعزل عن جاريته ، فجاءت بولد أسود فشق عليه فقال : ممن هو ؟ فقالت : من راعي الإبل ، فحمد الله وأثنى عليه ولم يلتزمه ، وأسند الطحاوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه كان له جارية فحملت فقال : ليس مني إني أتيتها إتيانا لم أرد به الولد . وعن زيد بن ثابت أنه كان يطأ جارية فارسية ويعزل عنها فجاءت بولد ، فأعتق الولد وجلدها . وعنه أنه قال لها : ممن حملت ؟ فقالت : منك . فقال : كذبت ، ما وصل إليك ما يكون منه الحمل ، ولم يلتزمه مع اعترافه بوطئها : والمروي عن عمر من قوله : إنه يلحق الواطئ مطلقا جاز لكونه علم من بعضهم إنكارا ، ممن يجب عليه استحقاقه ، وذلك أنا بينا أن الواطئ إذا لم يعزل وحصنها وجب الاعتراف به ، فقد علم من الناس إنكار أولاد الإماء مطلقا ، فقال لهم : إني ملحق بكم إياهم مطلقا ، وأما من علم منه الاعتزال في الأمة فإنه لا يتعرض له ، قال : وهذا الذي ذكرناه من عدم لزومه الولد ، وإن اعترف بالوطء ، ما لم يدعه حكم في القضاء يعني لا يقضى عليه بثبوت نسبه منه بلا دعوة ، وأما الديانة بينه وبين ربه تبارك وتعالى ، فالمروي عن أبي حنيفة أنه إذا كان حين وطئها لم يعزل عنها ، وحصنها عن مظان ريبة الزنى يلزمه من قبل الله تعالى أن يدعيه بالإجماع ؛ لأن الظاهر - والحالة هذه - كونه منه ، والعمل بالظاهر واجب ، وفي المبسوط : ( وعن أبي يوسف : إذا وطئها ولم يستبرئها بعد ذلك حتى جاءت بولد ، فعليه أن يدعيه سواء عزل عنها أو لم يعزل ، حصنها أو لم يحصنها ، تحسينا للظن بها ، وحملا لأمرها على الصلاح ما لم يتبين خلافه ، وهذا مذهب الشافعي والجمهور ; لأن ما ظهر سببه يكون محالا عليه ، حتى يتبين خلافه ، وعن محمد لا ينبغي أن يدعي ولدها إذا لم يعلم أنه منه ، ولكن ينبغي أن يعتق الولد ) . وفي الإيضاح : ذكرها بلفظ الاستحباب فقال : قال أبو يوسف : أحب أن يدعيه ، وقال محمد : أحب أن يعتق الولد . وعبارة المبسوط تفيد الوجوب .

[ ص: 2168 ]



الخدمات العلمية