الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3496 - وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح ثم قال ( يا أيها الناس إنه لا حلف في الإسلام ، وما كان من حلف الجاهلية فإن الإسلام لا يزيده إلا شدة ، المؤمنون يد على من سواهم يجير عليهم أدناهم ، ويرد عليهم أقصاهم يرد سراياهم على قعيدتهم ، ولا يقتل مؤمن بكافر ، دية الكافر نصف دية المسلم لا جلب ولا جنب ، ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم وفي رواية قال : دية المعاهد نصف دية الحر . رواه أبو داود .

التالي السابق


3496 - ( وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح ) : أي : سنة فتح مكة ( ثم قال ) : أي : بعد خطبته المشتملة على الحمد والثناء المقتضية لمرتبة الجمع بالحضور مع رب السماء وهو الكمال الإنساني بالفضل الرباني انتقل إلى تنزل مرتبة التفرقة تكميلا للناقصين ، وتحميلا للكاملين عاملا بقضية كلم الناس على قدر عقولهم في طلب أصولهم وفصولهم ، فقال ( أيها الناس إنه ) : أي : الشأن ( لا حلف ) : بكسر حاء مهملة فسكون لام ، وفي نسخة بفتح فكسر أي : لا إحداث للمعاهدة بين قوم ( في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لا يزيده إلا شدة ) : قال بعضهم : الحلف العهد ، ومنه حالفه عاهده ، وتحالفوا تعاهدوا ، وكان أهل الجاهلية يتعاهدون على التوارث والتناصر في الحروب ، وأداء الضمانات الواجبة عليهم وغير ذلك فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إحداثه في الإسلام ، وأقر ما كان في الجاهلية وفاء بالعهود وحفظا للحقوق والذمام ، وتوضيحه ما قال التوربشتي ولخصه القاضي : كان أهل الجاهلية يتعاهدون فيتعاقد الرجل مع الرجل ويقول له : دمي دمك وهدمي هدمك وثأري ثأرك وحربي حربك ، وسلمي سلمك ترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، وتعقل عني وأعقل عنك ، فيعدون الحليف من القوم الذين دخل في حلفهم ، ويقررون له وعليه مقتضى الحلف والمعاقدة غنما وغرما ، فلما جاء الإسلام قررهم على ذلك لاشتماله على مصالح من حقن الدماء والنصر على الأعداء ، وحفظ العهود والتأليف بين الناس ، حتى كان يوم الفتح فنفى ما أحدث في الإسلام لما في رابطة الدين من الحث على التعاضد والتعاون ما نعتهم من المخالفة ، وقرر ما صدر عنهم في أيام الجاهلية وفاء بالعهود وحفظا للحقوق ولكن نسخ من أحكامه التوارث وتحمل الجنايات بالنصوص الدالة على اختصاص ذلك بأشخاص مخصوصة ، وارتباطه بأسباب معينة معدودة ، وذكر في النهاية وجها آخر حيث قال : أصل الحلف المعاقدة والمعاضدة على التعاهد والتساعد والإنفاق ، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال والغارات ، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله : ( لا حلف في الإسلام ) وما كان منه في الجاهلية على نصرة المظلوم ، وصلة الأرحام ونحوها فذلك الذي قال فيه وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة .

[ ص: 2287 ] قال الطيبي وقوله : ( المؤمنون يد على من سواهم ) : يؤيد الوجه الأول لأنه جملة مبينة لنفي الحلف المخصوص في الإسلام ; لأن أخوة الإسلام جمعتهم وجعلتهم يدا واحدة لا يسعهم التخاذل ، بل يجب على كل واحد نصرة أخيه . قال تعالى إنما المؤمنون إخوة وقوله : ( يجير عليهم أدناهم ) : كالبيان للسابق ، ولذلك لم يؤت بالعاطف يعني إذا كانوا في حكم اليد الواحدة فهم سواء فالأدنى كالأعلى يعطي الأمان لمن شاء ، وكذلك قوله : ( ويرد عليهم أقصاهم ، ويرد سراياهم على قعيدتهم ) : جيء بلا واو بيانا وهو ينصر الوجه الثاني من كتاب القصاص ، وإن روي بالواو كما في بعض نسخ المصابيح فبالعكس لاقتضاء العطف المغايرة . قال التوربشتي : أراد بالقعيدة الجيوش النازلة في دار الحرب يبعثون سراياهم إلى العدو ، فما غنمت يرد منه على القاعدين حصتهم لأنهم كانوا رداء لهم ( لا يقتل مؤمن بكافر ) : أي : حربي ، وعند الشافعي : ولو ذميا ( دية الكافر ) : أي : الذمي ( نصف دية المسلم ) .

قال المظهر : ذهب مالك وأحمد إلى أن ديته نصف دية المسلم ، غير أن أحمد قال : إذا كان القتل خطأ وإن كان عمدا لم يقد به ، ويضاعف عليه باثني عشر ألفا . وقال أصحاب أبي حنيفة : ديته مثل دية المسلم ، وقال الشافعي : ديته ثلث دية المسلم ، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ، ودية المجوسي ثمانمائة درهم . من شرح السنة قال الشمني للشافعي : ما روى عبد الرزاق في مصنفه في كتاب العقول عن ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض على كل مسلم قتل رجلا من أهل الكتاب أربعة آلاف درهم ، وروى الشافعي في مسنده ، عن فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن ثابت ، عنه سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب : أنه قضى في اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم ، وفي المجوسي ثمانمائة درهم . وروى أيضا في مسنده عن ابن عيينة عن صدقة بن يسار عن سعيد بن المسيب قال : قضى عثمان في دية اليهودي والنصراني بأربعة آلاف درهم ولنا ما أخرجه أبو داود في مراسيله عن سعيد بن المسيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار ) . ووقفه الشافعي في مسنده على سعيد ، وما أخرجه الترمذي وقال : حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه عن أبي سعيد البقال ، عن عكرمة عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى العامريين بدية المسلمين ، وكان لهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأبو سعيد البقال اسمه سعيد بن المرزبان قال الترمذي في علله الكبير : قال البخاري : هو مقارب الحديث ، وروى أبو داود في مراسيله بسند صحيح ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال : كان عقل الذمي مثل عقل المسلم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر ، وزمن عمر ، وزمن عثمان رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، حتى كان صدر من خلافة معاوية فقال معاوية : إن كان أهله أصيبوا به فقد أصيب به بيت مال المسلمين ، فاجعلوا لبيت المال النصف ، ولأهله النصف خمسمائة دينار ، ثم قتل آخر من أهل الذمة فقال معاوية : لو أنا نظرنا إلى هذا الذي يدخل بيت مال المسلمين فجعله وضعا عن المسلمين ، وعونا لهم . قال : فمن هنالك وضع عليهم إلى خمسمائة . وروى عبد الرزاق في مصنفه ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، عن ابن مسعود : دية المعاهد مثل دية المسلم . وروى أيضا عن معمر ، عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رجلا قتل رجلا من أهل الذمة فرفع إلى عثمان فلم يقتله ، وجعل عليه ألف دينار ، وروى الدارقطني في سننه ، عن الحسين بن صفوان ، عن عبد الله بن أحمد ، عن رحمويه ، عن إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يجعلان دية اليهودي والنصراني المعاهدين دية الحر المسلم . وأخرج ابن أبي شيبة نحوه عن علقمة ومجاهد وعطاء والشعبي والنخعي والزهري ، وروى عبد الرزاق عن أبي حنيفة عن الحاكم عن ابن عيينة ، عن علي أنه قال : دية كل ذمي مثل دية المسلم . قال أبو حنيفة : وهو قولي ولأنه حر معصوم الدم ، فتكمل ديته كالمسلم ، ( لا جلب ولا جنب ) بفتحتين فيهما . وقد سبق [ ص: 2288 ] معناهما في باب الزكاة ، ويتصوران في السباق أيضا ( ولا يؤخذ ) : بالتذكير والتأنيث ( صدقاتهم إلا في دورهم ) : بضم دال وسكون واو جمع دار أي في منازلهم . قال الطيبي رحمه الله : لو جعلت الواو كما في قولك : جاء زيد وذهب عمرو ، ينبغي أن يفسر لا جلب ولا جنب بما يغايره من السباق في الخيل ، فإن الجلب حينئذ بمعنى الصوت والزجر ليزيد في شأنه والجلب يعني جلب فرس آخر في جنب فرسه ، ولو جعلت كما في قولك : جاء زيد وذهب عمرو ينبغي أن يفسر بما يقع مبينا له فالجلب هو أن ينزل الساعي موضعا ويبعث إلى أرباب المواشي ليجلبوا إليه مواشيهم فيأخذ صدقاتهم . والجلب هو أن يبعد أرباب المواشي عن مواضعهم فيشق على المصدق طلبهم ولو جعل الواو كما في قوله تعالى : ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله لم يبعد فيجعل قوله : ( ولا يؤخذ صدقاتهم ) مبينا عن قوله ( لا جلب ولا جنب ) بأن يخبر عن الأمرين ويفوض الترتيب إلى الذهن ، والله أعلم .

( وفي رواية قال : ( دية المعاهد ) : بكسر الهاء وقيل بفتحها أي : الذمي ( نصف دية الحر ) : أي : المسلم ( رواه أبو داود ) : وكذا الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه . قال الشمني : مذهب مالك أن دية اليهودي والنصراني نصف دية المسلم لما أخرجه أصحاب السنن الأربعة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده واللفظ لأبي داود : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( دية المعاهد نصف دية الحر ) ولفظ الترمذي : ( دية عقل الكافر نصف عقل المسلم ) . وقال : حديث حسن ، ولفظ النسائي : ( عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى ) ولفظ ابن ماجه : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى ) وما أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن دية المعاهد نصف دية المسلم ) وفي كتاب الرحمة : وأجمعوا على أن دية الحرة المسلمة في نفسها على النصف من دية الرجل الحر المسلم . وأما في الجراح ، فعلى النصف عند أبي حنيفة ، والشافعي في الجديد ، وعند غيرهما على التساوي وفيه تفصيل . وقال الشمني : والدية للمرأة نصف ما للرجل في النفس أو ما دونهما وهو ظاهر مذهب الشافعي ومختار بن المنذر وبه قال الثوري والليث وابن أبي ليلى وابن شبرمة وابن سيرين لما أخرجه البيهقي عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دية المرأة على النصف من دية الرجل ) . وما أخرجه عن إبراهيم ، عن علي بن أبي طالب أنه قال : عقل المرأة على النصف من عقل الرجل في النفس وفيما دونها . وقال الشافعي : ما دون الثلث لا يتنصف وكذا الثلث . قال في القديم وبه قال مالك وأحمد ، وهو قول الفقهاء السبعة ، وابن المسيب ، وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير ، والزهري وقتادة ، والأعرج ، وربيعة ومروي عن عمر وابنه ، وزيد بن ثابت لما روى النسائي في سننه ، عن عيسى بن يونس الرملي ، عن ضمرة عن إسماعيل بن عياش ، عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ العقل الثلث من ديتها ) وأخرج البيهقي عن الشعبي عن زيد بن ثابت قال : جراحات الرجال والنساء إلى الثلث فما زاد على النصف . وأخرج أيضا عن ربيعة أنه سأل ابن المسيب : كم في أصبع المرأة ؟ قال : عشرون . قال : كم في الاثنين . قال : عشرون . قال : كم في ثلاث ؟ قال : ثلاثون . قال : كم في أربع ؟ قال : عشرون . فقال ربيعة : حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها . قال : أعراقي أنت ؟ قال ربيعة : عالم تثبت أو جاهل متعلم . قال : يا ابن أخي ! إنها السنة . وأجيب عن الأول بأن إسماعيل بن عياش عن الحجازيين ضعيف ، وابن جريج حجازي ، وعن الثاني بأنه منقطع ، وعن الثالث بأن الشافعي قال في آخره : كنا نقول به ثم رجعت عنه ، وأنا أسأل الله الخير وإنا لا نجد من يقول السنة ، ثم لا نجد نفاذا بها عن النبي صلى الله عليه وسلم والقياس أولى بنافيها .

[ ص: 2289 ]



الخدمات العلمية