الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3818 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي ، قال يوم الفتح : " لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا " . متفق عليه .

التالي السابق


3818 - ( وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الفتح ) : أي : فتح مكة لا هجرة بعد الفتح ) : يعني الهجرة المفروضة ; أي : بعد فتح مكة ، كما في رواية البخاري : عن مجاشع بن مسعود ; أي : من مكة إلى المدينة ، وبقيت المندوبة وهي الهجرة من أرض يهجر فيه المعروف ويشيع به المنكر ، أو من أرض أصاب فيها الذنب وارتكب الأمر الفظيع . قال الخطابي : كانت الهجرة على معنيين : أحدهما : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ، فأمر من أسلم منهم بالهجرة عنهم ليسلم دينهم وليزول أذى المشركين بهم ، ولئلا يفتتنوا ، والمعنى الثاني الهجرة من مكة إلى المدينة ، فإن أهل الدين بالمدينة كانوا قليلين ضعيفين يومئذ ، فوجبت الهجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على كل من أسلم يومئذ في أي موضع كان ليستعين النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم إن حدث حادث ، وليتفقهوا في الدين فيعلموا أقوامهم أمر الدين وأحكامه ، فلما فتحت مكة وأسلموا استغنى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن ذلك ، إذ كان معظم خوف المؤمنين من أهل مكة ، فلما أسلموا أمكن للمسلمين أن يقروا في قعر دارهم ، فقيل لهم : أقيموا في أوطانكم وقروا على نية الجهاد ، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولكن جهاد ونية ) : أي : قصد جهاد ، أو إخلاص عمل ( وإذا استنفرتم ) : بصيغة المجهول ( فانفروا ) : بكسر الفاء ; أي : إذا استخرجتم بالنفير العام فاخرجوا ، فالأمر على فرض العين ، أو إذا دعيتم إلى قتال العدو فانطلقوا ، فالأمر على فرض الكفاية ، وحاصله أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت إلا أن المفارقة بسبب الجهاد ، أو بسبب نية صالحة كالفرار من ديار الكفر ، أو البدعة ، أو الجهل ، أو من الفتن ، أو لطلب العلم باقية غير منسوخة .

قال الطيبي : لكن يقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها ، فالمعنى أم مفارقة الأوطان إلى الله ورسوله التي هي الهجرة المعتبرة الفاضلة المميزة لأهلها من سائر الناس امتيازا ظاهرا انقطعت ، لكن المفارقة من الأوطان بسبب نية خالصة لله تعالى كطلب العلم والفرار بدينه من دار الكفر ، ومما لا يقام فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزيارة البيت الحرام وحرم رسول الله والمسجد الأقصى وغيرها ، أو بسبب الجهاد في سبيل الله باقية مدى الدهر . وقال النووي : معناه أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة ، لكن حصلوه بالجهاد والنية الصالحة ، وفيه حث على نية الخير ، وأنه يثاب عليها ، وإذا استنفرتم معناه إذا طلبكم الإمام للخروج إلى الجهاد فاخرجوا ، وهذا دليل على أن الجهاد ليس بفرض عين ، بل هو فرض كفاية إذا فعله من يحصل بهم الكفاية سقط الحرج عن الباقين ، وإن تركوه كلهم أثموا أجمعين اه .

وفيه أن لا دلالة له على كون الجهاد فرض كفاية ، بل ظاهره يدل على أن الجهاد فرض عين حيث لم يقل فلينفر بعضكم ، مع أنه لو قال كذلك لما دل صريحا على نفي فرض العين إذ كان المراد أن لا يخرجوا كلهم معا ، فيصيع العباد وتخرب البلاد ويفوت علم المعاد ، كما قال تعالى : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ) الآية . وقد تقدم تحقيق هذا المبحث في كلام المحقق ابن الهمام .

قال الطيبي : وقد خص الاستنفار بالجهاد ، ويمكن أن يحمل على العموم أيضا ; أي إذا استنفرتم إلى الجهاد فانفروا ، وإذا استنفرتم إلى طلب العلم وشبهه فانفروا . قال تعالى : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ) ; أي : هلا نفروا حين استنفروا . قلت : وإنما خص الاستنفار بالجهاد لقوله : ( انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ) الآيات . وأما استدلاله بالآية المذكورة فغفلة عن صدرها ومعناها ; لأنه قال تعالى : بعد وصف المجاهدين : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) ; أي : جميعا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أرادوا ذلك ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) ; أي : للغزو ( ليتفقهوا ) ; أي : بقية الفرقة ، أو المراد الحث على خروج طائفة للغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتفقهوا في الدين : أي : ما يتعلق بالجهاد وغيره ( ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) ( متفق عليه ) .

[ ص: 2474 ]



الخدمات العلمية