الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3929 - وعن سلمان بن بريدة ، عن أبيه ، رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرا على جيش ، أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : " اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا فلا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - ، أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجرى عليهم حكم الله الذي يجرى على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فسلهم الجزية ، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك ، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله ، وإن حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ؟ " . رواه مسلم .

التالي السابق


3929 - ( وعن سليمان بن بريدة رضي الله تعالى عنه ) : بالتصغير ( عن أبيه ) : الظاهر أنه بريدة بن الحصيب ، وقد مر ذكره ، ( قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر ) : بتشديد الميم ; أي : جعل أحدا ( أميرا على جيش ، أو سرية أوصاه ) : أي : ذلك الأمير ( في خاصته ) : أي : في حق نفسه خصوصا وهو متعلق بقوله : ( بتقوى الله ) : وهو متعلق بأوصاه ، وقوله : ( ومن معه ) : معطوف على خاصته ; أي : وفيمن معه ( من المسلمين ) : وقوله : ( خيرا ) : نصب على انتزاع الخافض ; أي : بخير : قال الطيبي : ومن محل الجر ، وهو من باب العطف على عاملين مختلفين ، كأنه قيل : أوصى بتقوى الله في خاصة نفسه ، وأوصى بخير فيمن معه من المسلمين ، وفي اختصاص التقوى بخاصة نفسه ، والخير بمن معه من المسلمين إشارة إلى أن عليه أن يشدد على نفسه فيما يأتي ويذر ، وأن يسهل على من معه من المسلمين ويرفق بهم ، كما ورد : يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا . ( ثم قال : اغزوا بسم الله ) : أي : مستعينين بذكره ( في سبيل الله ) : أي : لأجل مرضاته وإعلاء دينه ( قاتلوا من كفر بالله ) : جملة موضحة لاغزوا ، وأعاد قوله : اغزوا ليعقبه بالمذكورات بعده ، ( فلا تغلوا ) : بالفاء وفي نسخة بالواو ، وهو بضم الغين المعجمة وتشديد اللام ; أي : لا تخونوا في الغنيمة ( ولا تغدروا ) : بكسر الدال ; أي : لا تنقضوا العهد ، وقيل : لا تحاربوهم قبل أن تدعوهم إلى الإسلام ( ولا تمثلوا ) : بضم المثلثة وفي نسخة من باب التفعيل ، ففي تهذيب النووي مثل به يمثل كقتل إذا قطع أطرافه ، وفي القاموس : مثل بفلان مثلة بالضم ، نكل كمثل تمثيلا ، وفي الفائق : إذا سودت وجهه ، أو قطعت أنفه ونحوه . قال صاحب الهداية : والمثلة المروية في قصة العرنيين منسوخة بالنهي المتأخر ، وقد روى البيهقي عن أنس رضي الله عنه قال : ما خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك خطبة إلا ونهى فيها عن المثلة ، وقد جاء في حديث صحيح مسلم : أنه إنما سمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعينهم ; لأنهم سملوا أعين الرعاة . وتحقيق هذا المبحث في شرح ابن الهمام . ( ولا تقتلوا وليدا ) : أي : طفلا صغيرا . قال ابن الهمام : والصبي والمجنون يقتلان في حال قتالهما ، وكذا الصبي الملك والمعتوه الملك ; لأن في قتل الملك كسر شوكتهم ، ( وإذا لقيت عدوك من المشركين ) : الخطاب لأمير الجيش ، وهو نظير : ياأيها النبي إذا طلقتم النساء قال الطيبي : وهو من باب تلوين الخطاب خاطب أولا عاما ، فدخل فيه الأمير دخولا أوليا ، ثم خص الخطاب به ، فدخلوا فيه على سبيل التبعية ، كقوله تعالى : ياأيها النبي إذا طلقتم خص النساء بالنداء . ( فادعهم إلى ثلاث خصال ) : أي : مرتبة ( - ، أو خلال - ) : شك من الراوي ، والخصال والخلال بكسرها جمع الخصلة والخلة بفتحهما في معنى واحد ، ( فأيتهن ) : بالرفع والضمير للخصال المدعوة ( مما أجابوك ) : أي : قبلوها منك ، وما : زائدة ( فاقبل منهم ) : جزاء الشرط ( وكف ) : بضم الكاف وفتح الفاء ، ويجوز ضمها وكسرها ; أي : امتنع ( عنهم ) : أي : في الأوليين ( ثم ادعهم ) : أي : إذا عرفت ما ذكر من الخصال على وجه الإجمال ، فاعلم حكمها على طريق التفصيل فادعهم ; أي : أولا ( إلى الإسلام ) : قال النووي : هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم ، ثم ادعهم . قال القاضي عياض : الصواب رواية ادعهم بإسقاط ، ثم ، وقد جاء بإسقاطها على الصواب في كتاب أبي عبيد ، وفي سنن أبي داود وغيرهما : لأنه تفسير للخصال الثلاث وليست غيرها . وقال المازري : ثم هنا زائدة وردت لافتتاح الكلام والأخذ فيه . ( فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى التحول ) : أي : الانتقال ( من دارهم ) : أي : من بلاد الكفر ( إلى دار المهاجرين ) : أي : إلى دار الإسلام ، وهذا من توابع الخصلة [ ص: 2529 ] الأولى ، بل قيل : إن الهجرة كانت من أركان الإسلام قبل فتح مكة ، ( وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك ) : أي : التحول ( فلهم ما للمهاجرين : أي : من الثواب واستحقاق مال الفيء ، وذلك الاستحقاق كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه كان ينفق على المهاجرين من حين الخروج إلى الجهاد في أي وقت أمرهم الإمام ، سواء كان من بإزاء العدو كافيا أو لا ، بخلاف غير المهاجرين ، فإنه لا يجب الخروج عليهم إلى الجهاد إن كان بإزاء العدو من به الكفاية وهذا معنى قوله : ( وعليهم ما على المهاجرين : أي : من الغزو ( فإن أبوا أن يتحولوا منها ) : أي : من دارهم ( فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ) : أي : الذين لازموا أوطانهم في البادية لا في دار الكفر ( يجرى ) : بصيغة المجهول ، وفي نسخة بصيغة المعلوم ; أي : يمضى ( عليهم حكم الله الذي يجرى على المؤمنين ) : أي : من وجوب الصلاة والزكاة وغيرهما والقصاص والدية ونحوهما ( ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا ) : من باب ما أضمر عامله على شريطة التفسير ، وهو يفيد المبالغة والتقدير لتكرير الإسناد في التعبير ; أي : فإن امتنعوا عن الإسلام ( فسلهم ) : بالهمز والنقل ; أي : فاطلب منهم ( الجزية ) : وهو إشارة إلى الخصلة الثانية .

قال النووي : في الحديث فوائد . منها : أنه لا يعطى الفيء والغنيمة لأهل الصدقات من هؤلاء الأعراب الذين لم يتحولوا وكانوا فقراء مساكين ، ولا تعطى الصدقات لأهل الفيء والغنيمة . وقال مالك وأبو حنيفة : المالان سواء يجوز صرف كل منهما إلى النوعين ، والحديث مما يستدل به مالك والأوزاعي ، ومن وافقهما على جواز أخذ الجزية من كل كافر عربيا كان أو عجميا ، كتابيا أو غير كتابي ، وقال أبو حنيفة : تؤخذ الجزية من جميع الكفار إلا من مشركي العرب ومجوسهم ، وقال الشافعي : لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس أعرابا كانوا أو أعاجم ، ويحتج بمفهوم الآية ، وبحديث : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، وتأول هذا الحديث على أن المراد بهؤلاء أهل الكتاب ; لأن اسم المشرك يطلق على أهل الكتاب وغيرهم ، وكان تخصيصه معلوما عند الصحابة . قال ابن الهمام : وهذا إن لم يكونوا مرتدين ولا مشركي العرب ، فإن هؤلاء لا يقبل منهم إلا الإسلام ، أو السيف على ما سيتضح ، ( فإن هم أجابوك ) : أي : قبلوا بذل الجزية ، وكذا هو المراد بالإعطاء المذكور في القرآن بالإجماع ( فاقبل منهم وكف عنهم ) : في الهداية ، قال ابن الهمام علي رضي الله عنه : إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا .

قال : والأحاديث في هذا كثيرة ، بل هو من الضروريات ، ومعنى حديث علي كرم الله وجهه رواه الشافعي في مسنده ، أخبرنا محمد بن الحسن الشيباني ، أنبأنا قيس بن الربيع الأسدي ، عن أبان بن تغلب ، عن الحسين بن ميمون ، عن أبي الجنوب قال : قال علي : من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا ، وضعف الطبراني أبا الجنوب ، ( فإن هم أبوا ) : أي : عن قبول الجزية ( فاستعن بالله وقاتلهم ) : إشارة إلى الخصلة الثالثة ( وإذا حاصرت أهل حصن ) : أي : من الكفار ( فأرادوك ) ; أي طلبوا منك ( أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ) ; أي : عهدهما وأيمانهما ( فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ) : أي : بالاجتماع ولا بالانفراد ( ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم ) : وهو بالخطاب على ما في صحيح مسلم ، وكتاب الحميدي ، وجامع الأصول ، ووقع في نسخ المصابيح : فإنهم بالغيبة ( أن تخفروا ) : من الإخفار ; أي : تنقضوا ( ذممكم وذمم أصحابكم ) : والظاهر أن " أن " بفتح الهمزة كما في نسخ المصابيح ، وأن مع صلتها في تأويل المصدر بدل من ضمير المخاطب وخبر إن قوله : ( أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله ) : وقد وقع في نسخة " إن " بكسر الهمزة على الشرط وهو مشكل ، كذا في الخلاصة ، ولعل وجه الإشكال أنه حينئذ أهون بتقدير هو جزاء الشرط والفاء لازمه ، ويمكن دفعه بأن يحمل على الشذوذ كقوله : من يفعل الحسنات الله يشكرها .

[ ص: 2530 ] ثم المعنى أنهم لو نقضوا عهد الله ورسوله لم تدر ما تصنع بهم ، حتى يؤذن لكم بوحي ونحوه فيهم ، وقد يتعذر ذلك عليك لسبب غيبتك وبعدك من مهبط الوحي ، بخلاف ما إذا نقضوا عهدك ، فإنك إذا نزلت عليهم فعلت بهم من قتلهم ، أو ضرب الجزية ، أو استرقاقهم ، أو المن ، أو الفداء بحسب ما ترى من المصلحة في حقهم . ( وإن حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ) : أي : ولا على حكم رسوله لما سبق ولقوله : ( ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري : أتصيب حكم الله فيهم أم لا ؟ ) : زاد ابن الهمام وفي رواية : ثم اقضوا فيهم بعد ما شئتم . قال النووي قوله : فلا تجعل لهم ذمة الله نهي تنزيه ، فإنه قد ينقضها من لا يعرف حقها وينتهك حرمتها بعض الأعراب وسواد الجيش ، وكذا قوله : فلا تنزلهم على حكم الله نهي تنزيه ، وفيه حجة لمن يقول : ليس كل مجتهد مصيبا بل المصيب واحد ، وهو الموافق لحكم الله في نفس الأمر ومن يقول : إن كل مجتهد مصيب يقول : معنى قوله : فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم . أنك لا تأمن أن ينزل على وحي بخلاف ما حكمت ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد من تحكيم سعد بن معاذ في بني قريظة : " لقد حكمت لهم بحكم الله " وهذا المعنى منتف بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون كل مجتهد مصيبا اهـ . وهو مذهب المعتزلة وبعض أهل السنة ( رواه مسلم ) : وكذا الأربعة ، وألفاظ بعضهم تزيد على بعض وتختلف .




الخدمات العلمية