الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3994 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيما قرية أتيتموها وأقمتم بها ، فسهمكم فيها وأيما قرية عصت الله ورسوله ; فإن خمسها لله ولرسوله ، ثم هي لكم " . رواه مسلم .

التالي السابق


3994 - ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيما قرية أتيتموها " ) أي : بلا قتال بأن خلا أهلها ، أو صالحوا عليها ، ( " وأقمتم فيها ، فسهمكم فيها " ) أي : لا يختص بكم بل تكون مشتركة بينكم وبين من لم يخرج منكم من جيش المسلمين ; لأن مثل هذا المال يكون فيئا ، والفيء لا يختص بالخارجين للمحاربة . ( " وأيما قرية عصت الله ورسوله " ) أي : فأخذتم منهم مالا بإيجاف خيل وركاب ( " فإن خمسها لله ولرسوله ، ثم هي " ) أي : بقية أموالهم وأراضيها ( " لكم " ) : قال ابن الملك أي : ذلك المال يكون غنيمة ويؤخذ خمسها لله ورسوله ويقسم الباقي منها ، وفيه أن مال الفيء لا يخمس . وقال الشافعي : إنه يخمس كمال الغنيمة ، فالحديث حجة عليه . وقال بعض علمائنا من الشراح : المراد بالأولى ما فتحه العسكر من غير أن يكون فيهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فهي للعسكر ، وبالثانية أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فيأخذ الخمس والباقي لهم وفي شرح مسلم للنووي قال القاضي عياض : يحتمل أن يكون المراد بالأولى الفيء الذي يوجف المسلمون بخيل ولا ركاب ، بل خلا عنه أهله وصالحوا عليه ، فيكون سهمهم فيها أي : حقهم من العطاء كما يصرف الفيء ، ويكون المراد بالثانية ما أخذه عنوة فيكون غنيمة يخرج منها الخمس ، وقد أوجب الشافعي الخمس في الفيء كما أوجبوه كلهم في الغنيمة .

وقال جميع العلماء سواء : لا خمس في الفيء . قال الأشرف أي : كل قرية غزوتموها واستوليتم عليها ، أو لم أكن أنا فيكم وقسمتم الغنائم بأنفسكم ، فسهمكم في تلك الغنائم ، وأيما قرية عصت الله تعالى ورسوله أي : وأنا قد حضرت قتالها بنفسي ، فأنا أخمس الغنائم ، ثم أقسم عليكم بنفسي .

قال الطيبي : ثم في قوله : " ، ثم " هي لكم للتراخي في الإخبار ، والضمير في فإن خمسها للقرية ، والمراد هي وما فيها ، ولذلك هي راجعة إلى القرية أي : القرية مع ما فيها بعد إخراج الخمس لكم ، وكنى عن مقاتلتهم بقوله : عصت الله ورسوله تعظيما لشأن المخاطبين ، وأنهم إنما يقاتلون في الله ويجاهدون لله ، فمن قاتلهم فقد عصى الله ورسوله .

قال ابن الهمام : إذا فتح الإمام بلدة عنوة فهو بالخيار إن شاء قسمها بين الغانمين مع رءوس أهلها استرقاقا وأموالهم بعد إخراج الخمس لجهاته ، وإن شاء قتل مقاتلتهم وقسم ما سواهم من الأراضي والأموال والذراري ، ويضع على الأراضي المقسومة العشر ; لأنه ابتداء التوظيف على المسلم ، وإن شاء من عليهم برقابهم وأرضهم وأموالهم ، فوضع الجزية على الرءوس والخراج على أرضهم من غير نظر إلى الماء الذي يسقى به أهو ماء العشر ، كماء السماء والعيون والأودية والآبار ، أو ماء الخراج كالآبار التي شقتها الأعاجم ; لأنه ابتداء التوظيف على الكافر ، وأما المن عليهم برقابهم وأرضهم فقط فمكروه ، إلا أن يدفع إليهم من المال ما يتمكنون به من إقامة العمل والنفقة على أنفسهم وعلى الأراضي إلى أن يخرج العلاق ، وإلا فهو تكليف بما لا يطاق ، وأما المن عليهم برقابهم مع المال دون الأرض ، أو برقابهم فقط ، فلا يجوز ; لأنه إضرار بالمسلمين بردهم حربا علينا إلى دار الحرب ، نعم له أن يبقيهم أحرار ذمة بوضع الجزية عليهم بلا مال يدفعه إليهم ، فيكونون فقراء يكتسبون بالسعي والأعمال ، وله أن يسترقهم ، ثم استدل على جواز قسمة الأرض بقسمته عليه الصلاة والسلام خيبر مما في البخاري ، عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : قال عمر : لولا آخر المسلمين ما فتحت بلدة ولا قرية إلا قسمتها بين أهلها ، كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه مالك في الموطأ : أخبرنا زيد بن أسلم ، عن أبيه ، قال : سمعت عمر يقول : [ ص: 2580 ] لولا أن يترك آخر الناس لا شيء لهم ما فتح على المسلمين قرية إلا قسمتها سهمانا ، كما قسم صلى الله عليه وسلم سهمانا ، فظاهر هذا أنه قسمها كلها ، في أبي داود : بسند جيد أنه قسم خيبر نصفين لنوائبه ونصفا بين المسلمين قسما بينهم على ثمانية عشر سهما وأخرجه أيضا من طريق محمد بن فضيل ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن بشار ، عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قسمها على ستة وثلاثين سهما جمع كل سهم مائة . يعني أعطى لكل مائة رجل سهما ، وقد جاء مبينا كذلك ، وفي رواية البيهقي : وكان النصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وللمسلمين النصف من ذلك أي : لمن ينزل به من الوفود والأمور ونوائب المسلمين .

وحاصله : أنه نصف النصف لنوائب المسلمين ، وهو معنى مال بيت المال ، ثم ذكر من طريق آخر وبين أن ذلك النصف كان الوطيخ والكثيبة والسلالم وتوابعها ، فلما صارت الأموال بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، ولم يكن لهم عمال يكفونهم عملها ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود فعاملهم . زاد أبو عبيد في كتاب الأموال : فعاملهم بنصف ما يخرج منها ، فلم يزل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه حتى كان عمر ، فكثر العمال في المسلمين وقوفا على العمل ، فأجلى عمر اليهود إلى الشام وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم ، وقد اختلف أصحاب المغازي في أن خيبر فتحت كلها عنوة ، أو بعضها صلحا ، وصحح أبو عمر بن عبد البر الأول وروى موسى بن عقبة عن الزهري الثاني ، وغلطه ابن عبد البر قال : فإنما دخل له ذلك من جهة الحصنين اللذين أسلمهما أهلهما في حقن دمائهم ، وهما الوطيخ والسلالم كما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما حصرهم فيهما حتى أيقنوا بالهلاك سألوه أن يسيرهم ، وأن يحقن لهم دماءهم ، ففعل فحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال وجميع الحصون إلا ما كان من ذينك الحصنين إلى أن قال : فلما لم يكن أهل ذينك الحصنين مغنومين ظن أن ذلك صلح ، ولعمري أنه في الرجال والنساء والذرية لضرب من الصلح ، ولكنهم لم يتركوا أرضهم إلا بالحصار والقتال فكان حكمها كحكم سائر أموالهم ، فالحق في ذلك ما قاله ابن إسحاق عن الزهري من أنها فتحت عنوة دون ما قاله موسى بن عقبة عنه اهـ .

ولا شك في إقرار عمر أهل السواد ووضع الخراج على أراضيهم على كل جريب عامر ، أو غامر عمله صاحبه ، أو لم يعمله درهما وقفيزا ، وفرض على جريب الكرم عشرة ، وعلى الرطاب خمسة ، وفرض على رقاب الموسرين في العام ثمانية وأربعين ، وعلى من دونه أربعة وعشرين ، وعلى من لم يجد شيئا اثني عشر درهما ، فحمل في أول سنة إلى عمر ثمانون ألف ألف درهم . وفي السنة الثانية مائة وعشرون ألف ألف درهم ، إلا أن في المشهور عن أصحاب الشافعي : أنها فتحت عنوة وقسمت بين الغانمين ، فجعلت لأهل الخمس ، والمنقولات للغانمين ، والصحيح المشهور عندهم أنه لم يخصها بأهل الخمس ، لكنه استطاب قلوب الغانمين واستردها وردها على أهلها بخراج يؤدونه كل سنة . وقال ابن شريح : باعها من أهلها بثمن منجم ، والمشهور في كتب المغازي أن السواد فتح عنوة وأن عمر وظف ما ذكرنا ولم يقسمها بين الغانمين محتجا بقوله تعالى : ( ما أفاء الله على رسوله ) إلى قوله : ( والذين جاءوا من بعدهم ) أي : الغنيمة لله ولرسوله ولأصحابه ، وللذين جاءوا من بعدهم ، وإنما تكون لهم بالمن وبوضع الخراج والجزية ، وتلا عمر هذه الآية . ولم يخالفه أحد إلا نفر يسير كبلال وسلمان ، ونقل عن أبي هريرة رضي الله عنه فدعا عمر على المنبر وقال : اللهم اكفني بلالا وأصحابه . قال في المبسوط : فلم يحمدوا وندموا ورجعوا إلى رأيه ويدل على أن قسمة الأراضي ليس حتما أن مكة فتحت عنوة ، ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم أرضها ، ولذا ذهب مالك أن بمجرد الفتح تصير الأرض وقفا للمسلمين وهو أدعى بالأخبار والآثار اهـ . وتقدم أن دعوى الشافعية أن مكة فتحت صلحا لا دليل عليها ، بل على نقيضها ، والله سبحانه أعلم . ( رواه مسلم ) .




الخدمات العلمية