الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
394 - وفي المتفق عليه : قيل لعبد الله بن زيد بن عاصم : توضأ لنا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا بإناء ، فأكفأ منه على يديه فغسلهما ثلاثا ، " ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض واستنشق من كف واحدة . ففعل ذلك ثلاثا ثم أدخل يده فاستخرجها ، فغسل وجهه ثلاثا ثم أدخل يده فاستخرجها ، فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين ، ثم أدخل يده فاستخرجها ، فمسح برأسه ، فأقبل بيديه وأدبر ، ثم غسل رجليه إلى الكعبين ، ثم قال : هكذا كان وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وفي رواية : فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه ، ثم ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ، ثم غسل رجليه .

وفي رواية : فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات من ماء .

وفي رواية أخرى : فمضمض واستنشق من كفة واحدة ، ففعل ذلك ثلاثا .

وفي رواية للبخاري : فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة ، ثم غسل رجليه إلى الكعبين . وفي أخرى له : فمضمض واستنثر ثلاث مرات من غرفة واحدة .

التالي السابق


394 - ( وفي المتفق عليه ) : قال الأبهري : وفيه تأمل فإن ما ذكره من المتفق عليه لم يوجد بلفظه في صحيح البخاري ، وفيه أن المتفق عليه أعم من أن يكون بلفظهما أو بلفظ أحدهما وإذا كان مس أحدهما يصلح أن يكون اعتذارا عن محيي السنة في الجملة . فكيف إذا وجد لفظ أحدهما ؟ ( قيل لعبد الله بن زيد بن عاصم : توضأ ) : بصيغة الأمر لنا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) : أي : نحو وضوئه ( فدعا بإناء ) فيه ماء ( فأكفأ ) : في النهاية يقال : كفأت الإناء إذا كببته وإذا أملته نقلهالطيبي ، وقال الأبهري : قال الشيخ كفأ وأكفأ بمعنى أمال ، وقال الكسائي : كفأه كبه وأكفأه أماله ( منه ) ضمن أكفأ معنى أفرغ وصب فعداه بمن قاله الأبهري ( على يديه ، فغسلهما ) : أي : إلى رسغيهما ( ثلاثا ، ثم أدخل يده ) : أي : اليمنى في الإناء ( فاستخرجها ) : أي : اليد من الإناء مع الماء قال الطيبي : في الحديث دلالة على أن الماء في المرة الثالثة بقي على طهارته وطهوريته غير مستعمل ، اللهم إلا أن يقال : إنه نوى جعل اليد آلة له ، ومذهب مالك المستعمل في الحدث طهور ، وكرهه مع وجود غيره لأجل الخلاف ، وكذا الحال عنده في الماء القليل تحله نجاسة ولم يتغير . قال أبو حامد في الإحياء : وددت أن مذهب الشافعي كمذهب مالك في الماء القليل أنه لا بأس إلا بالتغير إذ الحاجة ماسة إليه ، ومثار الوسوسة من اشتراط القلتين ، ولأجله شق على الناس ذلك : ولعمري إن الحال على ما قاله ، ولو كان ما ذكر شرطا لكان أعسر البقاع في الطهارة مكة والمدينة ، إذ لا يكثر فيهما المياه الجارية ولا الراكدة الكثيرة ، ومن أول عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم ينقل واقعة في الطهارة وكيفية حفظ الماء من النجاسات ، وكانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان والإماء ، وتوضؤ عمر - رضي الله عنه - بماء في جرة نصرانية كالصريح في أنه لم يعول إلا على عدم تغير الماء ، وكان [ ص: 405 ] استغراقهم في تطهير القلوب وتساهلهم في الأمر الظاهر ( فمضمض واستنشق من كف ) : وفي نسخة صحيحة : بزيادة التاء مع فتح الكاف وضمها أيضا . قال الأبهري : الأكثر من كف بغير هاء ، وفي رواية أبي ذر كفة بالتاء وفي نسخة : من غرفة ، ثم قال : قال ابن بطال : المراد بالكفة الغرفة فاشتق لذلك من اسم الكف وجعل عبارة عن ذلك المعنى . قال : ولا نعرف في كلام العرب إلحاق هاء التأنيث بالكف . قال الشيخ : محصله أن المراد بقوله : كفة فعلة لا أنها تأنيث الكف ، وقال صاحب المشارق : قوله : من كفة هي بالضم والفتح كغرفة وغرفة أي : من ملء كفة ( واحدة ، ففعل ذلك ) : أي : ما ذكر من كل واحد من المضمضة والاستنشاق ( ثلاثا ) : وسيأتي بيانه ( ثم أدخل يده ) : أي : في الإناء ، والظاهر أن المراد بها الجنس ( فاستخرجها ، فغسل وجهه ثلاثا ) : قيد للأفعال الثلاثة لا للأخير فقط ( ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين ) : بالضبطين المتقدمين ( مرتين مرتين ) : قيدان للأفعال ( ثم أدخل يده فاستخرجها ، فمسح برأسه ، فأقبل بيديه وأدبر ) : يعني : استوعب المسح ( ثم غسل رجليه ) : ثم في المواضع مع المذكورة لمجرد العطف التعقيبي المفيد لسنية الترتيب لا للتراخي المنافي للتوالي الذي هو مستحب عندنا ، وفرض عند مالك ( إلى الكعبين ) : ظاهره الاكتفاء بمرة ، ويحتمل مرتين بقرينة ما قبله ويحتمل التثليث على ما هو المعروف من دأبه عليه الصلاة والسلام ، وإنما لم يقل ثلاثا لئلا يوهم قيد الفعلين معا ( ثم قال ) : أي : عبد الله ( هكذا كان وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) : أي : غالبا في زعمه أو في بعض الأوقات .

( " في رواية : فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردها أي : على أطراف الرأس ( حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ) وهذا أحسن أنواع المسح المستوعب ( ثم غسل رجليه ) : أي ثلاثا .

( وفي رواية : فمضمض واستنشق واستنثر ) الواو فيهما بمعنى الفاء ليفيد استحباب الترتيب بين غسل الأعضاء الغير المفروضة ، وأغرب ابن حجر : فقال الواو هنا معنى ثم السابقة ( ثلاثا ) قيد للثلاثة ( بثلاث غرفات ) : بفتح الغين والراء ، وقيل : بضمهما جمع غرفة بمعنى مرة واحدة من ماء . قيل : الغرفة بالفتح مصدر غرف أي أخذ الماء بالكف وبضم الغين الاسم وهو الماء المغروف ، وقيل هي ملء الكف من الماء يعني أخذ غرفة ومضمض واستنشق بها ، وكذا بالثانية والثالثة ، كذا قاله بعض الشراح من علمائنا وهو خلاف المذهب ، والأظهر أن الثلاث كل واحد منها وقع بثلاث غرفات .

( وفي أخرى فمضمض واستنشق من كفة واحدة ) بأن جعل ماء الكف بعضه في فمه وبعضه في أنفه ، ففعل ذلك أي المذكور من المضمضة والاستنشاق ثلاثا أي : ثلاث مرات من كفة واحدة ، وفيه حجة للشافعي ، كذا قاله ابن الملك وغيره من أئمتنا ، والأظهر أن من كفة تنازع فيه الفعلان ، والمعنى مضمض من كفة واستنشق من كفة وقيد الوحدة احتراز من التثنية ( ففعل ذلك ) : أي : كل واحد من المضمضة والاستنشاق على الوجه المذكور ( ثلاث مرات ) فيكون الحديث محمولا على أكمل الحالات المتفق عليها عند أرباب الكمالات ، ويجوز أن يكون فعل ما ذكروه لبيان الجواز ، والله أعلم .

( وفي رواية للبخاري : فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة ) : الجمهور على عدم تثليث مسح الرأس خلافا للشافعي ( ثم غسل رجليه إلى الكعبين ) : فيه وفي أمثاله من الأحاديث الواردة في وضوئه عليه الصلاة والسلام رد على الشيعة في تجويز مسح الرجلين .

[ ص: 406 ] ( وفي أخرى له ) : أي : للبخاري ( فمضمض واستنثر ) : كناية عن الاستنشاق أو من لوازمه ( ثلاث مرات من غرفة ) : بالفتح ويضم ( واحدة ) : أي : كل واحد من الثلاث من غرفة واحدة أو كل واحدة من المرات الثلاث من غرفة واحدة ، ويبعد تثليثهما معا من غرفة واحدة وإن كان هو وجها للشافعية . قال المؤلف : وإنما أطنبنا الكلام في الحديث لأن ما ذكر في المصابيح بلفظه لم يوجد إلا في رواية مالك والنسائي ، فأما معناه فما ذكرته في المتفق عليه عقبه ، وبقية الروايات إنما أوردتها تنبيها على أن ما في المصابيح منها ذكره الطيبي . قال السيد جمال الدين : كأنه اعتراض على الشيخ محيي السنة حيث أورد حديث عبد الله بن زيد بهذا اللفظ في الصحاح ، مع أنه غير مذكور في أحد الصحيحين ، والجواب أنه موجود في الصحيحين كما عزاه صاحب التخريج إليهما حيث قال : ورواه الجماعة في الصحاح بألفاظ متقاربة اهـ .

وأنت خبير بأن الجواب ليس على وجه الصواب لأن المصنف نفى وجود لفظ الحديث المذكور في أحد الصحيحين لا معناه ، وصاحب التخريج أثبت ذلك المعنى ، ولذا قال بألفاظ متقاربة ، بل المصنف بنفسه أورد تلك الألفاظ الدالة على ذلك المعنى ، واعتذر بالإطناب المتضمن لذلك الجواب ، وإن كان الاعتراض واردا في الجملة فإن الشرط أول الكتاب أن يكون لفظ الحديث من ذلك الباب ، والله أعلم بالصواب .




الخدمات العلمية