الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني

4046 - عن المسور رضي الله عنه ، ومروان : أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة ، وأنه لا إسلال ولا إغلال . رواه أبو داود .

التالي السابق


الفصل الثاني

4046 - ( عن المسور ، ومروان رضي الله عنهما : أنهم ) أي : أهل مكة ( اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس ) أي : بعضهم من بعض أي : صالحوا مع الرسول على ترك الحرب هذه المدة فلما مضى بعد هذا الصلح ثلاث سنين نقضوا عهدهم بإعانتهم بني بكر على حرب خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومحارب حليف الشخص محارب ذلك الشخص كذا ذكره بعضهم وقال شارح من علمائنا صالحوا هذه المدة ، لكن المشركون نقضوه في السنة الرابعة ، فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقال ابن الهمام : يستدل بنبذ الموادعة التي كانت بينه وبين أهل مكة على أن المعاهدين إذا بدءوا بخيانة نقاتلهم ولم ننبذ إليهم إذا كان باتفاقهم ; لأنهم صاروا ناقضين للعهد فلا حاجة إلى نقضه ، وكذا إذا دخل على جماعة منهم لهم منعة وقاتلوا المسلمين علانية يكون نقضا في حقهم خاصة ، فيقتلون ويسترقون هم ومن معهم من الذراري إلا أن يكون بإذن ملكهم ، فيكون نقضا في حق الكل ، ولو لم يكن لهم منعة لم يكن نقضا لا في حقهم ولا في حق غيرهم ، وإنما قلنا هذا ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبدأ أهل [ ص: 2624 ] مكة ، بل هم بدءوا بالغدر قبل مضي المدة فقاتلهم ولم ينبذ إليهم ، بل سأل الله أن يعمي عليهم حتى يبغتهم ، وهذا هو المذكور لجميع أصحاب السير والمغازي ، ومن تلقى القصة ورواها كما في حديث ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة قالا : وكانا في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت بنو بكر في عقد قريش ، فمكثوا في الهدنة نحو السبعة ، أو الثمانية عشر شهرا ، ثم إن بني بكر الذين دخلوا في عقد قريش وثبوا على خزاعة الذين دخلوا في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا بماء لهم يقال له : الوثير قريب من مكة ، وقالت قريش : هذا ليل ولا يعلم بنا محمد ، ولا يرانا أحد ، فأعانوا بني بكر بالسلاح والكراع ، وقاتلوا خزاعة معهم ، وركب عمرو بن سالم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره الخبر ، فلما قدم عليه أنشده : لاهم إنـي ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا هم بيتونا بالوثير هجدا فقتلونا ركعا وسجدا فانصر رسول الله نصرا عتدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نصرت يا عمرو بن سالم ) . ثم أمر الناس فتجهزوا ، وسأل الله أن يعمي على قريش خبرهم حتى يبغتهم في بلادهم ، وذكر موسى بن عقبة نحو هذا ، وأن أبا بكر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم يكن بينك وبينهم مدة ؟ قال : ( ألم يبلغك ما صنعوا ببني كعب ) ؟ ورواه الطبراني من حديث ميمونة ، ورواه ابن أبي شيبة مرسلا عن عروة ، ورواه مرسلا عن جماعة عن كثير في كتاب المغازي ، وفيه فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله أولم يكن بيننا وبينهم مدة ؟ فقال : ( إنهم غدروا ونقضوا العهد فأنا غازيهم ) اهـ . كلام ابن الهمام .

وفي المواهب : كان الصلح بينهم عشر سنين كما في السير ، وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر ، ولأبي نعيم في مسند عبد الله بن دينار : كانت أربع سنين ، وكذا أخرجه الحاكم في البيوع من المستدرك ، والأول أشهر . قال ابن الهمام : وأما حديث موادعته صلى الله عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية عشر سنين ، فنظر فيه بعض الشارحين بأن الصحيح عند أصحاب المغازي أنها سنتان ، كذا ذكره معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، وليس بلازم ; لأن الحاصل أن أهل النقل مختلفون في ذلك ، فوقع في سيرة موسى بن عقبة ; لأنها كانت سنتين أخرجه البيهقي عنه عن عروة بن الزبير مرسلا ، ثم قال البيهقي ، وقوله : سنتين يريد أن بقاءه كان سنتين إلى أن نقض المشركون عهدهم ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم بفتح مكة ، وأما المدة التي وقع عليها عقد الصلح فيشبه أن يكون المحفوظ ما رواه محمد بن إسحاق وهي عشر سنين اهـ .

وما ذكره عن ابن إسحاق هو المذكور في سيرته وسيرة ابن هشام من غير أن يتعقبه ، ورواه أبو داود من حديث ابن إسحاق عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور ومروان ، الحديث . على ما في الأصل . ورواه أحمد في مسنده مطولا بقصة الفتح ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا إسحاق فساقه إلى أن قال : على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكفي بعضهم عن بعض ، وكذا رواه الواقدي في المغازي حدثني ابن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، عن واقد بن عمرو ، وذكر قصة الحديبية إلى أن قال : وضع الحرب عشر سنين إلى آخره ، فالوجه الذي ذكره البيهقي وجه حسن به تنتفي المعارضة فيجب اعتباره ، فإن الكل اتفقوا على أن سبب الفتح كان نقض قريش بعض العهد ، حيث أعانوا على خزاعة ، وكانوا دخلوا في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واختلفوا في مدة الصلح ، فرفع الخلاف ظاهر بأن مراد من قال سنتين أن بقاءه سنتين ، ومن قال عشرا قال : إنه عقده عشرا ، كما رواه كذلك ، فإنه لا تنافي بينهما حينئذ والله سبحانه أعلم .

أقول : بقي رواية بعضهم ; لأنها كانت أربع سنين ، ولعله حاسب سنتي العهد والنقض والله أعلم .

قال القاضي : إنما هادنهم عشر سنين لضعف المسلمين وهي أقصى مدة المهادنة عند الشافعي ، فلا يجوز الزيادة عليها ; لأنه تعالى أمر بقتال الكفار في عموم الأوقات والأحوال ، فلا يستثنى منه إلا القدر الذي استثناه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقيل : لا يجوز أكثر من ثلاث سنين إذ الصلح لم يبق منهم أكثر من ذلك ، فإن المشركين نقضوا العهد في السنة الرابعة ، فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الفتح ضعفه ظاهر ، وقيل : لا حد لها وأن تقدير مدتها موكول إلى رأي الإمام واقتضاء الحال .

[ ص: 2625 ] قال ابن الهمام : لا يقتصر جواز مدة الموادعة على المدة المذكورة وهي عشر سنين ; لأن ما علل جوازها به هو حاجة المسلمين ، أو ثبوت مصلحتهم ، فإنه قد يكون بأكثر ، بخلاف ما إذا لم تكن الموادعة ، أو المدة خيرا للمسلمين ، فإنه لا يجوز ; لأنه ترك للجهاد صورة ومعنى وما أبيح إلا باعتبار أنه جهاد ، وذلك إنما يتحقق إذا كان خيرا للمسلمين ، وإلا فهو ترك للمأمور به ، وبهذا يندفع ما نقل عن بعض العلماء من منعه أكثر من عشر سنين ، وإذا كان الإمام غيره مستظهر وهو قول الشافعي ، ولقد كان في صلح الحديبية مصالح عظيمة ، فإن الناس لما تقاربوا انكشفت محاسن الإسلام للذين كانوا متباعدين لا يعقلونها من المسلمين لما قاربوهم وخالطوهم ، والله أعلم . قوله : ( وعلى أن بيننا عيبة ) : بفتح العين المهملة وسكون التحتية وبالموحدة ما يجعل فيه الثياب ( مكفوفة ) أي : مشدودة وممنوعة ، قيل أي : صدرا نقيا عن الغل والخداع ، مطويا على حسن العهد والوفاء بالصلح ، والعرب تكني عن الصدر بالعيبة ; لأنه مستودع الأسرار ، كما أن العيبة مستودع الأمتعة والثياب ، وأنت تعلم أن نقاوة الصدر من الغل بين المسلمين والكفار لا يكاد يحصل ، فالوجه أن يقال : أنهم أرادوا بذلك ترك ما كان بين الفئتين من الأضغان والدماء والانتهاب ، أو المعنى نحفظ العهد والشرط ولا ننقضه ، كما نحفظ ما في العيبة بشد رأسها ، وقيل : معناه موادعة مصادقة تكون بين المتصادقين المتشاورين في الأمور ، فيكون كل صاحب مشاورة للآخر وعيبة سره ، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم : ( الأنصار كرشي وعيبتي ) . وقيل : معناه على أن يكون ما سلف منا في عيبة مكفوفة أي : مشروجة مشددة لا يظهر أحد ما ولا يذكره . قال تعالى : ( عفا الله عما سلف ) . ( وأنه ) أي : وعلى أن الشأن ( لا إسلال ) : بكسر الهمزة وفتح اللام أي : سرقة خفية ( ولا إغلال ) أي : خيانة ، والمعنى لا يأخذ بعضنا مال بعض لا في السر ولا في العلانية ، وقيل : الإسلال سل السيف ، والإغلال لبس الدرع أي : لا يحارب بعضنا بعضا . وفي شرح السنة : معناه أن بعضنا يأمن بعضا فلا يتعرض لدمه ولا ماله سرا ولا جهرا .

قال الطيبي : فإن قلت : لم خص الإسلال والإغلال بالذكر من بين سائر الفساد وأتى بضمير الشأن ؟ قلت : لما نفى الدخول التي كانت بينهم بأن لا ينشروها ، بل يتكافون عنها ما أتبعه ما يتعلق بالظاهر ، وإنما خصهما بالذكر للاستيعاب ، ومن ثمة كرر ( لا ) التي لنفي الجنس وحذف الخبر نسيا منسيا ، ونحو قوله تعالى : ( ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ) كأنه قيل : ينبغي أن تكون بواطننا خالية عن جميع المفاسد وظواهرنا كذلك . ( رواه أبو داود ) .




الخدمات العلمية