الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4788 - وعن جندب - رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في بعض المشاهد وقد دميت أصبعه فقال : " هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت " متفق عليه .

التالي السابق


4788 - ( وعن جندب ) : بضم الجيم وسكون النون وضم الدال المهملة وفتحها أيضا ، وهو ابن عبد الله بن سفيان البجلي ، روى عنه جماعة ، مات في فتنة ابن الزبير ، ذكره المؤلف في فصل الصحابة .

[ ص: 3014 ] ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في بعض المشاهد ) أي : المغازي ، وهو غزوة أحد على ما قاله العلامة الكرماني في شرح البخاري ، ووقع في صحيح مسلم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار فدميت أصبعه ، قال القاضي عياض : قال أبو الوليد الباجي : لعله غازيا فتصحف . قلت : الأظهر في التصحيف أن يقال في غاز بالزاي ، والتقدير في فريق غاز أي معهم ، ثم قال الباجي : لما قال في الرواية الأخرى في بعض المشاهد ، ولما جاء في رواية للبخاري يعني في كتاب الأدب : بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يمشي إذ أصابه حجر فدميت أصبعه . قال القاضي عياض : وقد يراد بالغار الجيش والجمع لا الغار الذي هو الكهف ليوافق رواية بعض المشاهد ، ومنه قول علي كرم الله وجهه : ما ظنك بامرئ جمع بين هذين الغارين ؟ ! . أي : العسكرين ، وقال العسقلاني : وقع في رواية شعبة ، عن الأسود خرج إلى الصلاة أخرجه الطيالسي وأحمد . قلت : يمكن الجمع بأنه كان في غزوة ، وخرج إلى الصلاة فآجره مرتين أو في سبيل الله كرتين .

( وقد دميت ) : بفتح الدال ( إصبعه ) : بكسر الهمزة وفتح الموحدة على ما في الأصول ، وفي القاموس أنه مثلث الهمزة والباء ، ففيه تسع لغات . عاشرها : أصبوع ، وفي الشمائل أصاب حجر أصبع النبي - صلى الله عليه وسلم - فدميت ( فقال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - اتفاقا على مقتضى الطبع السليم السليقي من غير قصد إلى وزنه ، كما يقع لكثير من الناس ( هل أنت إلا أصبع دميت ) : الاستفهام في معنى النفي ، ودميت صفة أصبع ، والمستثنى منه أعم عام الصفة أي : ما أنت يا أصبع موصوفة بشيء من الأشياء إلا بأن دميت كأنها لما تجرحت وتوجعت فخاطبها على سبيل الاستعارة أو الحقيقة مسليا لها ، والمعنى : هوني على نفسك ، فإنك ما ابتليت بشيء من الهلاك والقطع ، سوى أنك دميت ، و لم يكن ذلك هدرا ، بل كان في سبيل الله ورضاه كما أفاده بقوله : ( وفي سبيل الله ما لقيت ) : " ما " موصولة أي : الذي لقيته هو في سبيل الله لا في سبيل غيره ، فلا يكون ضائعا فافرحي به . قيل : ويجوز أن يكون " ما " نافية أي : ما لقيت شيئا تحقيرا لما لقيه فيه . قلت : هذا تحصيل للحاصل ؛ لأنه استفيد من المصراع الأول مع ما يوهم إطلاقه من الخلل فتأمل . قال السيوطي : الرواية بكسر التاء فيهما ، ومن قال إنهما بالسكون فرارا من الوزن يعارضه فإنه مع السكون أيضا موزون من الكامل ، واختلفوا هل قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - منشئا أو متمثلا ؟ وبالثاني جزم الطبري وغيره ، فقيل : هو للوليد بن الوليد بن المغيرة ، وقيل : لعبد الله بن رواحة قاله في غزوة مؤتة وقد أصيبت أصبعه . وبعده :

يا نفس إن لا تقتلي تموتي هذي حياض الموت قد صليت وما تمنيت فقد لقيت
إن تفعلي فعلهما هديت



أي : فعل زيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب اهـ . وقد جزم بعض شراح المصابيح بأن الرجز الذي في الحديث قول ابن رواحة ، وقد تلفظ به النبي - صلى الله عليه وسلم - . قلت : الظاهر أن ابن رواحة ضمن كلامه - صلى الله عليه وسلم - تبركا ، وصدر به شعرا صدر من صدره تيمنا ؛ لأن قضية مؤتة متأخرة عن غزوة أحد مع احتمال التوارد والله أعلم .

قال الخطابي : اختلف الناس في هذا ، وما أشبهه من الرجز الذي جرى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره وأوقاته ، وفي تأويل ذلك مع شهادة الله تعالى بأنه لم يعلمه الشعر وما ينبغي له ، فذهب بعضهم إلى أن الرجز ليس بشعر ، وذهب بعضهم إلى أن هذا وما أشبهه ، وإن استوى على وزن الشعر ، فإنه لم يقصد به الشعر إذ لم يكن صدوره عن نية له وروية فيه ، وإنما هو اتفاق كلام يقع أحيانا ، فيخرج منه الشيء بعد الشيء على أعاريض الشعر ، وقد وجد في كتاب الله العزيز من هذا القبيل ، وهذا مما لا يشك فيه أنه ليس بشعر ، وقال بعضهم : معنى قول الله تعالى : وما علمناه الشعر وما ينبغي له ، الرد على المشركين في قولهم : بل افتراه بل هو شاعر . والبيت الواحد من الشعر لا يلزمه هذا الاسم ، فلا يخالف معنى الآية . هذا مع قوله : إن من الشعر لحكمة ، وإنما الشاعر هو الذي قصد الشعر ونشيه ويصفه ويمدحه ويتصرف تصرف الشعراء في هذه الأفانين ، وقد برأ الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك وصان قدره ، وأخبر أن الشعر لا ينبغي له ، وإذا كان مراد الآية هذا المعنى لم يضر أن يجري على لسانه الشيء اليسير منه ، فلا يلزمه الاسم المنفي عنه .

قال القاضي عياض : وقد غفل بعض الناس وقال رواية : أنا النبي لا كذب بفتح الباء ، وأنا ابن عبد المطلب بالخفض ، وكذا قوله : دميت من غير مد حرصا منه على أنه يغير الرواية ليستغني عن الاعتذار ، وإنما

[ ص: 3015 ] الرواية بإسكان الباء والمد اهـ . وسبق أن القصر ما يضر بالوزن ، وأما ما في بعض النسخ من ضبط قوله : دميت ولقيت على صيغة الغائبة ، وإن كان يخرجه عن حيز الوزن لكن لا أصل له أصلا . ( متفق عليه ) .




الخدمات العلمية