الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
482 - وعن كبشة بنت كعب بن مالك رضي الله عنه - وكانت تحت ابن أبي قتادة - أن أبا قتادة دخل عليها ، فسكبت له وضوءا ، فجاءت هرة تشرب منه ، فأصغى لها الإناء حتى شربت ، قالت كبشة : فرآني أنظر إليه ، فقال : أتعجبين يا ابنة أخي ؟ قالت : فقلت : نعم . فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنها ليست بنجس ، إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات " .

رواه مالك ، وأحمد والترمذي وأبو داود ، والنسائي وابن ماجه ، والدارمي .

التالي السابق


482 - ( وعن كبشة بنت كعب بن مالك ) : أنصاري خزرجي ، قال المصنف : هي زوجة عبد الله بن أبي قتادة رضي الله عنه ، حديثها في سؤر الهرة ، روت عن أبي قتادة ، وعنها حميدة بنت عبيد بن رفاعة ( وكانت تحت ابن أبي قتادة ) : وهو الحارث بن ربعي الأنصاري ، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واسم ابنه : عبد الله ، والمعنى : كانت زوجة ولده ( أن أبا قتادة دخل عليها ) : أي : على كبشة ( فسكبت ) أي : كبشة ، يعني : صبت ، وقال الأبهري : بضم التاء على المتكلم ، ويجوز السكون على التأنيث اهـ . لكن أكثر النسخ الحاضرة المصححة بالتأنيث ، ويؤيد المتكلم ما في المصابيح قالت : فسكبت ( له ) : أي : لأبي قتادة ( وضوءا ) بفتح الواو أي : ماء الوضوء في إناء ( فجاءت هرة تشرب منه ) : حال أو صلة ( فأصغى لها الإناء ) : أي : أماله إليها ( حتى شربت ) : أي : سهلا ( قالت كبشة : فرآني ) : أي : أبو قتادة ( أنظر إليه ) : أي : إلى فعله متعجبة ( فقال : أتعجبين ) : أي : بشربها من وضوئي ( يا ابنة أخي ؟ ) : هذا على عادة العرب ; أن بعضهم يقول لبعض : يا ابن أخي ، وإن كانا ابنا عمين ، ويا أخا فلان ، وإن لم يكن أخا له في الحقيقة ، ويجوز في تعارف الشرع ; لأن المؤمنين إخوة ، وقول ابن حجر - مراده أخوة الإسلام لما تقرر أنها زوجة ابنه - تعليل غير صحيح ; لعدم المنافاة ، بل لكونها بنت كعب بن مالك ، وأبو قتادة بن ربعي بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر العين المهملة ( قالت : فقلت : نعم . قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنها " ) : أي : الهرة أو سؤرها ( " ليست بنجس " ) : مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث ، ولو قيل بكسر الجيم لقيل بنجسة ; لأنها صفة الهرة كذا قاله بعض الشراح ، وذكر الكازروني أن بعض الأئمة قال : هو بفتح الجيم ، والنجس النجاسة ، فالتقدير أنها ليست بذات نجس ، وفيما سمعنا وقرأنا على مشايخنا هو بكسر الجيم ، وهو القياس أي : ليست بنجسة ، ولم يلحق التاء نظرا إلى أنها في معنى السؤر اهـ . وأكثر النسخ المصححة على الأول ، فعليه المعول ; لأن النجس بالفتح في اصطلاح الفقهاء عين النجاسة ، وبالكسر المتنجس ( " إنها " ) : استئناف فيه معنى التعليل أي : لأنها ( " من الطوافين " ) : الطائف الذي يخدمك برفق شبهها بالمماليك وخدمة البيت الذين يطوفون للخدمة . قال الله تعالى : طوافون عليكم بعضكم على بعض وألحقها بهم ; لأنها خادمة أيضا حيث تقتل المؤذيات ، أو لأن الأجر في مواساتها كما في مواساتهم ، وهذا يدل على أن سؤرها طاهر ، وبه قال الشافعي . وعن أبي حنيفة أنه مكروه ، كذا ذكره ابن الملك . وقال الطيبي : قوله : " إنها من الطوافين " من ترتيب الحكم على الوصف المناسب إشعارا بالعلية ، فعلى هذا ينبغي أن [ ص: 455 ] يكون سؤر الهرة على تقدير نجاسة فمها معفوا عنه للضرورة ، كطين الشارع ، ويؤيده قول عمر رضي الله عنه في الفصل الثالث كما سنقرره ، هذا هو المختار عند أبي حامد الغزالي فإنه قال : الأحسن تعميم العفو . وقال النووي في الروضة : سؤر الهرة طاهر لطهارة عينها ، ولا يكره ، ولو تنجس فمها ثم ولغت في ماء قليل ففيه ثلاثة أوجه : التفصيل ، وهو الأصح ، فإنها إن غابت بمقدار يحتمل ولوغها في ماء مطهر كان طاهرا وإلا نجسا اهـ .

قال ابن حجر : هو من باب عطف المغاير ; علل إصغاءه لها الإناء بأمرين متغايرين ، وفيه أنه غير صحيح لفظا ومعنى . ومن الغرائب أنه جعل قول الطيبي مقابلا لقوله ، وضعفه بقوله : قيل : ويصح . . . إلخ . فتأمل يظهر لك طرق الزلل . قال ابن الهمام : الأصح أنه يكره كراهة تنزيه ، وكفى فيها أنها لا تتحامى النجاسة ، فيكره كما لو غمس الصغير يده فيه ، وأما النجاسة فالاتفاق على سقوطها بعلة الطواف المنصوص في قوله : " إنها من الطوافين " يعني أنها تدخل المضايق ، ولملازمة شدة المخالطة بحيث يتعذر معه صون الأواني منها ، بل التنفس والضرورة اللازمة من ذلك أسقطت النجاسة ، كما أنه سبحانه وتعالى أوجب الاستئذان ، وأسقطه عن المملوكين بقوله : والذين لم يبلغوا الحلم أي : عن أهلهم في تمكينهم من الدخول في غير الأوقات الثلاثة بغير إذن للطواف المفاد بقوله عقيبه : طوافون عليكم بعضكم على بعض اهـ .

وعن أبي يوسف : أن سؤر الهرة غير مكروه ، وإن أكلت الهرة الفأرة ثم شربت الماء على الفور يتنجس ، وإن مكثت ساعة ولحست فمها فمكروه . وليس بنجس عندهما ، خلافا لمحمد ; بناء على أن التطهير بغير الماء ، كذا في شرح المنية . ( " عليكم " ) : فيتمسحون بأيديكم وثيابكم ، فلو كانت نجسة لأمرتكم بالمجانبة عنها ، فهذا بيان لقوله : " إنها ليست بنجس " ، كذا قاله بعض الشراح ، والتحقيق ما تقدم ( " أو الطوافات " ) : شك من الراوي كذا قاله ابن الملك . وقال في الأزهار : شبه ذكورها بالطوافين ، وإناثها بالطوافات . وقال ابن حجر : وليست للشك ; لوروده بالواو في روايات أخر ، بل للتنويع ، وكون ذكر الصنفين من الذكور والإناث ( رواه مالك ، وأحمد ، والترمذي ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والدارمي ) : وقال الترمذي : حديث حسن صحيح ، نقله السيد ، وروى الدارقطني أنها كانت تمر به عليه الصلاة والسلام ، فيصغي لها الإناء ، فتشرب منه ، ثم يتوضأ بفضلها ، وضعفه عبد ربه ، ولكن قلنا : هذا دليل أبي يوسف ، وهو رواه عن عبد ربه ، عن سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تمر به الهرة ، فيصغي لها الإناء ، فتشرب منه ، ثم يتوضأ بفضلها . وأبو يوسف أدرى بعبد ربه من الدارقطني ; لعلمه بحال شيخه ، ويشهد لصحته ما رواه هو وابن ماجه والطحاوي من حديث حارث بن محمد ، عن عروة عن عائشة قالت : كنت أتوضأ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في إناء واحد ، وقد أصابت منه الهرة قبل ذلك ، وما في السنن المتقدمة ، وما في معجم الطبراني سئل أنس بن مالك عن الهرة ؟ قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض بالمدينة يقال لها : بطحان ، فقال : ( " يا أنيس ، اسكب لي وضوءا " ) فسكبت له ، فلما قضى حاجته أقبل إلى الإناء ، وقد أتى هر فولغ في الإناء ، فوقف له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفة حتى شرب الهر ، ثم سألته فقال : ( " يا أنس ، إن الهر من سباع البيت ، لن يقذر شيئا ولن ينجسه " ) . وما في صحيح ابن خزيمة عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( " إنها ليست بنجسة هي كبعض أهل البيت " ) . وفي سنن الدارمي : " هي كبعض أهل البيت " ، وأما خبر : " يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا ، ومن ولوغ الهرة مرة " مدرج من قول أبي هريرة كما بينه البيهقي وغيره ، وإن خفي على الطحاوي ، ولذا قال : سؤر الهرة مكروه كراهة تحريم . والله أعلم . وأما ما اشتهر بين الناس من أنه عليه الصلاة والسلام قطع ذيل ثوبه الذي رقدت عليه هرة ، فلا أصل له .

[ ص: 456 ]



الخدمات العلمية