الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4915 - وعن المغيرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ، ووأد البنات ، ومنع وهات . وكره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال " . متفق عليه .

التالي السابق


4915 - ( وعن المغيرة ) أي : ابن شعبة الثقفي ، أسلم عام الخندق وقدم مهاجرا مات بالكوفة وهو أميرها لمعاوية . ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ) أي : مخالفتهم من العق ، وهو القطع والشق المراد صدور ما يتأذى به أحد الوالدين من ولده عرفا بقول أو فعل ، وخص الأمهات بالذكر للاهتمام بشأنهن وضعفهن ، ويمكن أن يكون من قبيل الاكتفاء بذكر أحد الشيئين من الآخر كقوله تعالى : سرابيل تقيكم الحر أي : والبرد . وقال الخطابي : لم يخص الأمهات بالعقوق ، فإن عقوق الآباء محرم أيضا ، ولكن نبه بأحدهما عن الآخر ، فإن بر الأم مقدم على بر الأب إلا أن لعقوق الأمهات مزية في القبح ، وحق الأب مقدم في الطاعة وحسن المتابعة لرأيه والنفوذ لأمره ، وقبول الأدب منه . ( ووأد البنات ) : بسكون الهمز ويبدل ، أي : دفنهن حيات قيل : قدم حقوق الأمهات ; لأنهن الأصول وعقبه بوأد البنات ; لأنهن الفروع ، فكان ذلك تنبيها على أن أكبر الكبائر قطع النسل الذي هو موجب لخراب العالم . ( ومنع ) : بسكون النون ويفتح وبفتح العين على أنه مصدر أو ماض ، وفي رواية الجامع الصغير : ( ومنعا ) بالتنوين ( وهات ) : بكسر التاء هو اسم فعل بمعنى أعط ، وعبر بهما عن البخل والسؤال أي : كره أن يمنع الرجل ما عنده ويسأل ما عند غيره ، قيل : و لم ينون على رواية

[ ص: 3082 ] المصدر ; لأن المضاف إليه محذوف منه مرادا ، أي : كره منع ما عنده وقول هات . وفي النهاية أي : حرم عليكم منع ما عليكم عطاؤه وطلب ما ليس لكم أخذه . اهـ . وقيل : نهى عن منع الواجب من أمواله وأقواله وأفعاله وأخلاقه من الحقوق اللازمة فيها ، ونهى عن استدعاء ما لا يجب عليهم من الحقوق ، وتكليفه إياهم بالقيام بما لا يجب عليهم ، فكأنه ينصف ولا ينتصف ، وهذا من أسمج الخلال ( وكره ) : بكسر الراء ، وفي نسخة بتشديدها مع فتحها ، في القاموس : كرهه كسمعه وكرهه إليه تكريها صيره كريها ( لكم ) أي : لأجلكم ( قيل وقال ) : بصيغة المجهول والمعلوم للماضي . في الفائق : نهى عن فضول ما يتحدث به المجالسون من قولهم قيل كذا وقال كذا ، وبناؤهما على كونهما فعلين محكيين متضمنين للضمير ، والإعراب على إجرائهما مجرى الأسماء خاليين من الضمير ، ومنه قوله : إنما الدنيا قال وقيل ، وإدخال حرف التعريف عليهما لذلك في قولهم : يعرف القال من القيل ، وفي النهاية : وهذا النهي إنما يصح في قول لا يصح ولا يعلم حقيقته ، فأما من حكى ما يصح ويعرف حقيقته ، وأسنده إلى ثقة صادق ، فلا وجه للنهي عنه ، ولا ذم ; وقال أبو عبيد : فيه تجوز عربية ، وذلك أنه يجعل كلا من القيل والقال مصدرا كأنه نهى عن قيل وقول . يقال : قلت قولا وقالا وقيلا ، وهذا التأويل على أنهما اسمان ، وقيل : أراد النهي عن كثرة الكلام مبتدئا ومجيبا . وقيل : هذا الكلام يتضمن بعمومه حرمة النميمة والغيبة ، فإن تبليغ الكلام من أقبح الخصال ، والإصغاء إليها من أفحش الفعال . وقال شارح : قوله : " قيل وقال " إما مصدران أتي بهما للتأكيد وحذف التنوين لإرادة المضاف إليه المحذوف ، أي : كره لكم قيل وقال ما لا فائدة فيه ، أو ماضيان ، وفيه تنبيه على ترك الخوض في أخبار الناس وتتبع أحوالهم وحكاية أقوالهم وأفعالهم . وقال السيوطي : المراد بها كثرة الكلام ; لأنها تؤول إلى الخطأ في المرام ، وقيل حكاية أقاويل الناس ، والبحث عنها ليخبر بها ويقول : قال فلان كذا وقيل له كذا ، والنهي إما للزجر عن الاستكثار منه ، أو لشيء مخصوص ، وهو أن يكرهه المحكي عنه ، ثم هما فعلان ذكرا على الحكاية ، وقيل : اسمان مصدران بمعنى القول ، وللكشميهني ( قيل وقال ) بالتنوين . ( وكثرة السؤال ) : بالهمز ويبدل وفيه وجوه ، أحدها : ما في الفائق : السؤال عن أمور الناس وكثرة البحث عنها . وثانيها : مسألة الناس أموالهم . قال التوربشتي : ولا أرى حمله على هذا ، فإن ذلك مكروه ، وإن لم يبلغ حد الكثرة . وثالثها : كثرة السؤال في العلم للامتحان وإظهار المراء ، وقيل بلا حاجة أو مطلقا ، فإنه قد يفضي به إلى ما لا يعنيه . ورابعها : كثرة سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى : لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ، ( وإضاعة المال ) في الفائق : هو إنفاقه في غير طاعة الله والسرف .

قال الطيبي ، قيل : والتقسيم الحاصر فيه الحاوي بجميع أقسامه أن تقول : إن الذي يصرف إليه المال إما أن يكون واجبا كالنفقة والزكاة ونحوهما ، فهذا لا ضياع فيه ، وهكذا إن كان مندوبا إليه ، وإما أن يكون مباحا ولا إشكال إلا في هذا القسم ، إذ كثير من الأمور يعده بعض الناس من المباحات ، وعند التحقيق ليس كذلك كتشييد الأبنية وتزيينها والإسراف في النفقة ، والتوسع في لبس الثياب الناعمة والأطعمة الشهية اللذيذة ، وأنت تعلم أن قساوة القلب وغلظ الطبع يتولد من لبس الرقاق ، وأكل الرقاق ، وسائر أنواع الارتفاق ، ويدخل فيه تمويه الأواني والسقوف بالذهب والفضة ، وسوء القيام على ما يملكه من الرقيق والدواب ، حتى تضيع وتهلك ، وقسمة ما لا ينتفع الشريك به كاللؤلؤة والسيف يكسران ، وكذا احتمال الغبن الفاحش في البياعات ، وإيتاء المال صاحبه وهو سفيه حقيق بالحجر ، وهذا الحديث أصل في معرفة حسن الخلق الذي هو منبع الأخلاق الحميدة والخلال الجميلة . قلت : وهو من جوامع الكلم ، وبدائع الحكم ، ومما يدل على جواز السجع حيث لا تكلف . ( متفق عليه ) .

[ ص: 3083 ]



الخدمات العلمية