الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        377 - الحديث الخامس : عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ - ثلاثا - قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس ، [ ص: 657 ] وقال : ألا وقول الزور ، وشهادة الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت . }

                                        التالي السابق


                                        فيه مسائل : الأولى : قد يدل الحديث على انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر وعليه أيضا يدل قوله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } وفي الاستدلال بهذا الحديث على ذلك نظر ; لأن من قال " كل ذنب كبيرة " فالكبائر والذنوب عنده متواردان على شيء واحد فيصير كأنه قيل : ألا أنبئكم بأكبر الذنوب . وعن بعض السلف : أن كل ما نهى الله عز وجل عنه فهو كبيرة . وظاهر القرآن والحديث : على خلافه ولعله أخذ " الكبيرة " باعتبار الوضع اللغوي ونظر إلى عظم المخالفة للأمر والنهي وسمى كل ذنب كبيرة .



                                        الثانية : يدل على انقسام الكبائر في عظمها إلى كبير وأكبر ، لقوله عليه السلام " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ " وذلك بحسب تفاوت مفاسدها ولا يلزم من كون هذه أكبر الكبائر : استواء رتبها أيضا في نفسها فإن الإشراك بالله : أعظم كبيرة من كل ما عداه من الذنوب المذكورة في الأحاديث التي ذكر فيها الكبائر .



                                        الثالثة : اختلف الناس في الكبائر فمنهم من قصد تعريفها بتعدادها وذكروا في ذلك أعدادا من الذنوب ، ومن سلك هذه الطريقة فليجمع ما ورد في ذلك في الأحاديث ، إلا أنه لا يستفيد بذلك الحصر ومن هذا قيل : إن بعض السلف قيل له " إنها سبع " فقال " إنها إلى السبعين أقرب منها إلى السبع " . ومنهم من سلك طريق الحصر بالضوابط فقيل عن بعضهم : إن كل ذنب قرن به وعيد أو لعن ، أو حد : فهو من الكبائر ، فتغيير منار الأرض : كبيرة لاقتران اللعن به وكذا قتل المؤمن ، لاقتران الوعيد به والمحاربة ، والزنا ، والسرقة والقذف ، كبائر ، لاقتران الحدود بها ، واللعنة ببعضها . وسلك بعض المتأخرين طريقا فقال : إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر : فأعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر ، فهي من الصغائر وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر ، أو أربت عليه فهي من الكبائر ، وعد [ ص: 658 ] من الكبائر : شتم الرب تبارك وتعالى ، أو الرسول ، والاستهانة بالرسل ، وتكذيب واحد منهم ، وتضميخ الكعبة بالعذرة وإلقاء المصحف في القاذورات فهذا من أكبر الكبائر ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة . وهذا الذي قاله داخل عندي فيما نص عليه الشرع بالكفر إن جعلنا المراد بالإشراك بالله : مطلق الكفر ، على ما سننبه عليه ، ولا بد مع هذا - من أمرين :

                                        أحدهما : أن المفسدة لا تؤخذ مجردة عما يقترن بها من أمر آخر فإنه قد يقع الغلط في ذلك . ألا ترى أن السابق إلى الذهن : أن مفسدة الخمر : السكر وتشويش العقل ؟ فإن أخذنا هذا بمجرده لزم منه أن لا يكون شرب القطرة الواحدة كبيرة ، لخلائها عن المفسدة المذكورة ، لكنها كبيرة فإنها - وإن خلت عن المفسدة المذكورة - إلا أنه يقترن بها مفسدة الإقدام والتجري على شرب الكثير الموقع في المفسدة فبهذا الاقتران تصير كبيرة .

                                        والثاني : أنا إذا سلكنا هذا المسلك فقد تكون مفسدة بعض الوسائل إلى بعض الكبائر مساويا لبعض الكبائر ، أو زائدا عليها ، فإن من أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها ، أو مسلما معصوما لمن يقتله فهو كبيرة أعظم مفسدة من أكل مال الربا ، أو أكل مال اليتيم وهما منصوص عليهما ، وكذلك لو دل على عورة من عورات المسلمين تفضي إلى قتلهم ، وسبي ذراريهم ، وأخذ أموالهم كان ذلك أعظم من فراره من الزحف ، والفرار من الزحف منصوص عليه دون هذه ، وكذلك تفعل - على هذا القول الذي حكيناه من أن الكبيرة ما رتب عليها اللعن ، أو الحد ، أو الوعيد - فتعتبر المفاسد بالنسبة إلى ما رتب عليه شيء من ذلك ، فما ساوى أقلها ، فهو كبيرة وما نقص عن ذلك فليس بكبيرة .



                                        الرابعة : قوله عليه السلام " الإشراك بالله " يحتمل أن يراد به : مطلق الكفر ، فيكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود ، لا سيما في بلاد العرب ، فذكر تنبيها على غيره . ويحتمل أن يراد به : خصوصه ، إلا أنه يرد على هذا الاحتمال : أنه قد يظهر أن بعض الكفر أعظم قبحا من الإشراك ، وهو كفر التعطيل . فبهذا يترجح الاحتمال الأول .



                                        الخامسة : عقوق الوالدين معدود من أكبر الكبائر في هذا الحديث ولا [ ص: 659 ] شك في عظم مفسدته ، لعظم حق الوالدين إلا أن ضبط الواجب من الطاعة لهما ، والمحرم من العقوق لهما : فيه عسر ، ورتب العقوق مختلفة قال شيخنا الإمام أبو محمد بن عبد السلام : ولم أقف في عقوق الوالدين ، ولا فيما يختصان به من الحقوق ، على ضابط أعتمد عليه . فإن ما يحرم في حق الأجانب : فهو حرام في حقهما ، وما يجب للأجانب : فهو واجب لهما فلا يجب على الولد طاعتهما في كل ما يأمران به ، ولا في كل ما ينهيان عنه باتفاق العلماء ، وقد حرم على الولد السفر إلى الجهاد بغير إذنهما ، لما يشق عليهما من توقع قتله ، أو قطع عضو من أعضائه ، ولشدة تفجعهما على ذلك وقد ألحق بذلك كل سفر يخافان فيه على نفسه ، أو على عضو من أعضائه وقد ساوى الوالدان الرقيق في النفقة والكسوة والسكنى . انتهى كلامه .

                                        والفقهاء قد ذكروا صورا جزئية ، وتكلموا فيها منثورة ، لا يحصل منها ضابط كلي فليس يبعد أن يسلك في ذلك ما أشرنا إليه في الكبائر ، وهو أن تقاس المصالح في طرف الثبوت بالمصالح التي وجبت لأجلها ، والمفاسد في طرف العدم بالمفاسد التي حرمت لأجلها .



                                        السادسة : اهتمامه عليه السلام بأمر شهادة الزور ، أو قول الزور : يحتمل أن تكون ; لأنها أسهل وقوعا على الناس ، والتهاون بها أكثر ، فمفسدتها أيسر وقوعا ، ألا ترى أن المذكور معها : هو الإشراك بالله ولا يقع فيه مسلم ، وعقوق الوالدين والطبع صارف عنه ؟ وأما قوله : " الزور " فإن الحوامل عليه كثيرة ، كالعداوة وغيرها فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمها وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها ، وهو الإشراك قطعا . " وقول الزور ، وشهادة الزور " ينبغي أن يحمل قوله : " الزور " على شهادة الزور ، فإنا لو حملناه على : الإطلاق : لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقا كبيرة ، وليس كذلك ، وقد نص الفقهاء على أن الكذبة الواحدة وما [ ص: 660 ] يقاربها لا تسقط العدالة ولو كانت كبيرة لأسقطت ، وقد نص الله تعالى على عظم بعض الكذب فقال : { ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا } وعظم الكذب ومراتبه تتفاوت بحسب تفاوت مفاسده ، وقد نص في الحديث الصحيح على أن الغيبة والنميمة كبيرة ، والغيبة عندي : تختلف بحسب المقول والمغتاب به ، فالغيبة بالقذف كبيرة ، لإيجابها الحد ، ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة مثلا ، أو قبح بعض الهيئة في اللباس مثلا والله أعلم .




                                        الخدمات العلمية