[ ] : وأما حكمه : فقال حكم التدليس : جماعة من المحدثين لا يرون بالتدليس بأسا ، يعني وهم الفاعلون له أو معظمهم ، ( وذمه ) - أي : أصل التدليس لا خصوص هذا القسم - ( يعقوب بن شيبة ( ذو الرسوخ ) في الحفظ والإتقان ; بحيث لقب أمير المؤمنين في الحديث ، فروى شعبة ) بن الحجاج عنه أنه قال : التدليس أخو الكذب ، وقال الشافعي عنه : إنه أشد من الزنا ; ولأن أسقط من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أدلس . غندر
وقال عنه : لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أقول : زعم فلان ، ولم أسمع ذلك الحديث منه . أبو الوليد الطيالسي
[ ص: 235 ] ولم ينفرد شعبة بذمه ، بل شاركه في الجملة الأخيرة ، وزاد : أن الله لا يقبل التدليس . ابن المبارك
وممن أطلق على فاعله الكذب أبو أسامة ، وكذا قرنه به بعضهم ، وقرنه آخر بقذف المحصنات ، وقال : التدليس والغش والغرور والخداع والكذب تحشر يوم تبلى السرائر في نفاذ واحد بالمعجمة ، أي : طريق . سليمان بن داود المنقري
وقال : إنه ذل ، يعني لسؤاله أسمع أم لا ؟ عبد الوارث بن سعيد
وقال : " إني لأزين الحديث بالكلمة ، فأعرف مذلة ذلك في وجهي فأدعه " . ابن معين
وقال : " هو متشبع بما لم يعط " ، ونحوه قول حماد بن زيد : أقل حالاته عندي أنه يدخل في حديث : " المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور " . أبي عاصم النبيل
وقال : الثوب لا يحل تدليسه فكيف الحديث ؟ وقال بعضهم : أدنى ما فيه التزين . وقال وكيع : وكرهه جماعة من المحدثين ، ونحن [ ص: 236 ] نكرهه ، زاد غيره وتشتد الكراهة إذا كان المتروك ضعيفا فهو حرام ، ولكن اختص يعقوب بن شيبة شعبة منه مع تقدمه بالمزيد كما ترى ، على أن شعبة قد عيب بقوله : لأن أزني أحب إلي من أن أحدث عن يزيد بن أبان الرقاشي . فقال راوي ذلك عنه : ما كان أهون عليه الزنا ! . يزيد بن هارون
قال الذهبي : وهو - أي : التدليس - داخل في قوله عليه السلام : ; لأنه يوهم السامعين أن حديثه متصل ، وفيه انقطاع ، هذا إن دلس عن ثقة ، فإن كان ضعيفا فقد خان الله ورسوله ، بل هو - كما قال بعض الأئمة - حرام إجماعا . من غشنا فليس منا
وأما ما نقله ابن دقيق العيد عن الحافظ أبي بكر أنه قال : التدليس اسم ثقيل شنيع الظاهر ، لكنه خفيف الباطن ، سهل المعنى ، فهو محمول على غير المحرم منه .
( ودونه ) أي : دون الأول من قسمي تدليس الإسناد ، وفصل عنه لعدم الحذف فيه ( ) ثاني قسميه ، لتصريح التدليس للشيوخ بأن أمره أخف ، وهو ( أن يصف ) المدلس ( الشيخ ) الذي سمع ذاك منه ( بما لا يعرف ) أي : يشتهر ( به ) من اسم أو كنية ، أو نسبة إلى قبيلة ، أو بلدة أو صنعة ، أو نحو ذلك ، كي يوعر معرفة الطريق على السامع . ابن الصلاح
ويجوز أن تكون " أن " وما بعدها في موضع رفع على البيان لقوله : " التدليس " .
ومن أمثلة ذلك قول : ثنا أبي بكر بن مجاهد المقرئ عبد الله بن أبي عبد الله ، يريد به الحافظ أبا بكر ابن صاحب السنن الحافظ أبي داود .
وقوله أيضا : ثنا محمد بن سند ، يريد به أبا بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد النقاش ، نسبة لجد له .
[ ص: 237 ] ( وذا ) الفعل ( بـ ) اختلاف ( مقصد ) بكسر المهملة ، حامل لفاعله عليه ( يختلف ) في الكراهة ، ( فشره ) ما كانت تغطيته ( للضعف ) في الراوي كما فعل في الضعيف ; حيث قيل : فيه محمد بن السائب الكلبي حماد ; لتضمنه الخيانة والغش والغرور ، وذلك حرام هنا وفي الذي قبله ، كما تقدم إجماعا ، إلا أن يكون ثقة عند فاعله ، فهو أسهل إن لم يكن قد انفرد هو بتوثيقه مع علمه بتضعيف الناس له ، ومع ذلك فهو أسهل من الأول أيضا كما أشرت إليه في المرسل .
( و ) يكون ( استصغارا ) لسن الذي حدثه به ، إما بأن يكون أصغر منه أو أكبر ، لكن بيسير أو بكثير ، لكن تأخرت وفاته حتى شاركه في الأخذ عنه من هو دونه .
وقد روى عن الحارث بن أبي أسامة ، الحافظ الشهير صاحب التصانيف ، فلكون أبي بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن أبي الدنيا الحارث أكبر منه قال فيه مرة : عبد الله بن عبيد ، ومرة : عبد الله بن سفيان ، ومرة : أبو بكر بن سفيان ، ومرة : أبو بكر الأموي ، قال الخطيب : ( وذلك خلاف موجب العدالة ومقتضى الديانة من التواضع في طلب العلم ، وترك الحمية في الأخبار بأخذ العلم عمن أخذه ) .
قلت : وقد ، أو لكون المدلس عنه حيا ، وعدم التصريح به أبعد عن المحذور الذي نهى الشافعي عنه لأجله . يكون للخوف من عدم أخذه عنه ، وانتشاره مع الاحتياج إليه
ومنه قول شيخنا : أنا أبو العباس بن أبي الفرج بن أبي عبد الله الصحراوي بقراءتي عليه بالصالحية ، وعنى بذلك الولي أبا زرعة ابن شيخه الزين أبي الفضل العراقي ، ولم يتنبه له إلا أفراد ، مع تحديثه بذلك حتى لجماعة من خواص [ ص: 238 ] الولي وملازميه ، وما علموه .
( و ) يكون ( كـ ) فعل ( الخطيب ) الحافظ المكثر من الشيوخ والمسموع في ; حيث قال مرة : أخبرنا تنويع الشيخ الواحد ، ومرة : أخبرنا الحسن بن محمد الخلال ، ومرة : أنا الحسن بن أبي طالب ، والجميع واحد . أبو محمد الخلال
وقال مرة : عن ، ومرة : عن أبي القاسم الأزهري عبيد الله بن أبي القاسم الفارسي ، ومرة : عن عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي ، والجميع واحد .
وقال مرة : أنا علي بن أبي علي البصري ، ومرة : أنا ، ومرة : أنا علي بن الحسن أبو القاسم التنوخي ، ومرة : أنا ، ويصفه مرة بالقاضي ، ومرة : بالمعدل إلى غيرها . علي بن الحسن
ومراده بهذا كله الأصل القاضي ، وهو مكثر في تصانيفه من ذلك جدا ، ويقرب منه ما يقع أبو القاسم علي بن أبي علي المحسن بن علي التنوخي البصري في شيخه للبخاري الذهلي ; فإنه تارة يقول : ثنا محمد ولا ينسبه ، وتارة : محمد بن عبد الله فينسبه إلى جده ، وتارة : محمد بن خالد ، فينسبه إلى والد جده ، ولم يقل في موضع : ، في نظائر لذلك كثيرة ستأتي جملة منها فيمن ذكر بنعوت متعددة . محمد بن يحيى
( يوهم ) الفاعل بذلك ( استكثارا ) من الشيوخ ; حيث يظن الواحد ببادي الرأي جماعة ، وإلى ذلك أشار الخطيب بقوله : ( أو تكون أحاديثه التي عنده عنه كثيرة ، فلا يحب تكرار الرواية عنه ، فيغير حاله لذلك ) .
قلت : ولكن لا يلزم من كون الناظر قد يتوهم الإكثار أن يكون مقصودا لفاعله ، بل الظن بالأئمة - خصوصا من اشتهر إكثاره مع ورعه - خلافه ; لما يتضمن من التشبع والتزين الذي يراعي تجنبه أرباب الصلاح والقلوب ، كما نبه عليه ياقوتة العلماء [ ص: 239 ] . المعافى بن عمران
وكان من أكابر العلماء والصلحاء ، ولا مانع من قصدهم الاختبار لليقظة ، والإلفات إلى حسن النظر في الرواة وأحوالهم وأنسابهم إلى قبائلهم وبلدانهم وحرفهم وألقابهم وكناهم ، وكذا الحال في آبائهم ، فتدليس الشيوخ دائر بين ما وصفنا .
وقد ذكر الذهبي في فوائد رحلته أنه لما اجتمع بابن دقيق العيد سأله التقي : من أبو محمد الهلالي ؟ فقال : ، فأعجبه استحضاره . سفيان بن عيينة
وألطف منه قوله له : من أبو العباس الذهبي ؟ فقال : . أبو طاهر المخلص
وكذا مر في صحيح - وأنا بين يدي شيخنا - قوله : ثنا ابن حبان أبو العباس الدمشقي ، فقال : من هذا ؟ فبادرته مع أنه لم يقصدني بذلك ، وقلت : هو أبو الحسن أحمد بن عمير بن جوصاء ، فأعجبه الجواب دون المبادرة لتفويتها غرضا له ، ولذا قال ابن دقيق العيد : إن في تدليس الشيخ الثقة مصلحة ، وهي امتحان الأذهان ، واستخراج ذلك وإلقاؤه إلى من يراد اختبار حفظه ومعرفته بالرجال .
على أنه قد قيل في فعل في البخاري الذهلي : إنه لما كان بينهما ما عرف في محله ; بحيث منع الذهلي أصحابه من الحضور عند ، ولم يكن ذلك بمانع البخاري من التخريج عنه ; لوفور ديانته وأمانته وكونه عذره في نفسه بالتأويل ، غير أنه خشي من التصريح به ، أن يكون كأنه بتعديله له صدقه على نفسه فأخفى اسمه ، والله أعلم بمراده . للبخاري
والأكثر في هذا القسم وقوعه من الراوي ، وقد يقع من الطالب بقصد التغطية على شيخه ; ليتوفر عليه ما جرت عادته بأخذه في حديث ذاك المدلس ; كما سيأتي في الفصل الحادي عشر من معرفة من تقبل روايته ، وهو أخفها وأظرفها ، ويجمع الكل مفسدة تضييع المروي عنه ، كما قال ; وذلك حيث جهل إلا [ ص: 240 ] أنه نادر فالحذاق لا يخفى ذلك عنهم غالبا ، فإن جهل كان من لازمه تضييع المروي أيضا ، بل قد يتفق أن يوافق ما دلس به شهرة راو ضعيف من أهل طبقته ، ويكون المدلس ثقة ، وكذا بالعكس ، وهو فيه أشد . ابن الصلاح
وبهذا وكذا بأول المقاصد بهذا القسم قد ينازع في كونه دون الذي قبله ، ولكن الحق أن هذا قل أن يخفى على النقاد بخلاف الأول ، ويعرف كل من التدليس واللقاء بإخباره أو بجزم بعض النقاد ، كما سيأتي في خفي الإرسال ( والشافعي ) بالإسكان - رحمه الله - ( أثبته ) أي : أصل التدليس لا خصوص هذا القسم للراوي .
( بمرة ) ، وعبارته : " ومن عرفناه دلس مرة ، فقد أبان لنا عورته في روايته ، وليست تلك العورة بكذب فيرد بها حديثه " إلى آخر كلامه .
وحكاه البيهقي أيضا : فقال : " ، حتى يقول : حدثني أو سمعت ، كذلك ذكره من عرف بالتدليس مرة ، لا يقبل منه ما يقبل من أهل النصيحة في الصدق " . انتهى . الشافعي
وبيان ذلك أنه بثبوت تدليسه مرة ، صار ذلك هو الظاهر من حاله في معنعناته ، كما أنه بثبوت اللقاء مرة صار الظاهر من حاله السماع .
وكذا من عرف بالكذب في حديث واحد صار الكذب هو الظاهر من حاله ، وسقط العمل بجميع حديثه مع جواز كونه صادقا في بعضه .
( قلت : وشرها ) أي : أنواع التدليس ، حتى ما ذكر أنه شره ( أخو ) أي : صاحب ( التسوية ) الذي أشار إليه ابن الصلاح الخطيب بقوله : " وربما لم يسقط المدلس اسم شيخه الذي حدثه ، [ ص: 241 ] لكنه يسقط ممن بعده في الإسناد رجلا يكون ضعيفا في الرواية أو صغير السن ، ويحسن الحديث بذلك " وتبعه النووي في ذلك القسم الأول من تقريبه ، وجماعة ليس فيهم ، منهم ابن الصلاح العلائي وتلميذه الناظم ، لكن جعله قسما ثالثا للتدليس .
وحقق تلميذه شيخنا أنه نوع من الأول ، وصنيع النووي في شرح مسلم و ( تقريبه ) يقتضيه . وبالتسوية سماه فمن بعده ، فقال : سواه فلان . أبو الحسن بن القطان
وأما القدماء فسموه تجويدا ; حيث قالوا : جوده فلان ، وصورته أن يروي المدلس حديثا عن شيخ ثقة بسند فيه راو ضعيف ، فيحذفه المدلس من بين الثقتين اللذين لقي أحدهما الآخر ، ولم يذكر أولهما بالتدليس ، ويأتي بلفظ محتمل فيستوي الإسناد كله ثقات .
ويصرح المدلس بالاتصال عن شيخه ; لأنه قد سمعه منه ، فلا يظهر في الإسناد ما يقتضي رده إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل ، ويصير الإسناد عاليا ، وهو في الحقيقة نازل ، وهو مذموم جدا ; لما فيه من مزيد الغش والتغطية ، وربما يلحق الثقة الذي هو دون الضعيف الضرر من ذلك بعد تبين الساقط بإلصاق ذلك به مع براءته .
[ ص: 242 ] قال : صح عن قوم إسقاط المجروح وضم القوي إلى القوي ; تلبيسا على من يحدث ، وغرورا لمن يأخذ عنه ، فهذا مجروح وفسقه ظاهر ، وخبره مردود ; لأنه ساقط العدالة . انتهى . ابن حزم
وممن كان يفعله ، بقية بن الوليد ، وبالتقييد باللقاء خرج الإرسال ، فقد ذكر والوليد بن مسلم وغيره أن ابن عبد البر مالكا سمع من ثور بن زيد أحاديث عن عكرمة ، عن ، ثم حدث بها بحذف ابن عباس عكرمة ; لأنه كان يكره الرواية عنه ، ولا يرى الاحتجاج بحديثه . انتهى .
في أمثلة لذلك عن مالك بخصوصه ، فلو كانت التسوية بالإرسال تدليسا ، لعد مالك في المدلسين ، وقد أنكروا على من عده فيهم ، فقال : ولقد ظن ابن القطان بمالك على بعده عنه عمله .
وقال : إن الدارقطني مالكا ممن عمل به وليس عيبا ، عندهم .
قلت : وهو محمول على أن مالكا ثبت عنده الحديث عن ، وإلا فقد قال ابن عباس الخطيب : إنه لا يجوز هذا الصنيع وإن احتج بالمرسل ; لأنه قد علم أن الحديث عمن ليس بحجة عنده وكذا بالتقييد بالضعيف - كان أخص من المنقطع ، على أن بعضهم قد أدرج في ما كان المحذوف ثقة . تدليس التسوية
ومن أمثلته ما رواه هشيم عن عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن الزهري عبد الله بن الحنفية عن أبيه ، هو ، عن محمد بن الحنفية علي في تحريم لحوم الحمر الأهلية قالوا : ويحيى لم يسمعه من ، وإن سمع منه غيره إنما [ ص: 243 ] أخذه عن الزهري مالك عنه ، ولكن هشيم قد سوى الإسناد ، كما جزم به وغيره ، ويتأيد بقول ابن عبد البر الخطيب الذي أسلفته في أول هذا القسم : " أو صغير السن " .
ويلتحق بتدليس التسوية في مزيد الذم ما حكيناه في القسم الأول عن فطر .
تتمة : ، بينها شيخنا - رحمه الله - في تصنيفه المختص بهم ، المستمد فيه من جامع التحصيل المدلسون مطلقا على خمس مراتب للعلائي وغيره : من لم يوصف به إلا نادرا ، كالقطان ، من كان تدليسه قليلا بالنسبة لما روى مع إمامته ، وجلالته ، وتحريه كالسفيانين ، من أكثر منه غير متقيد بالثقات ، من كان أكثر تدليسه عن الضعفاء والمجاهيل ، من انضم إليه ضعف بأمر آخر . ويزيد بن هارون