يوسف - عليه السلام - أعطي نصف الحسن
قالوا : رويتم أن يوسف - عليه السلام - أعطي نصف الحسن ، والله تعالى يقول : وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين ، ولا يجوز أن يباع من أعطي نصف الحسن بثمن بخس وبدراهم تعد من قلتها ، ولا أن يكون المشتري له مع قلة هذا الثمن أيضا زاهدا فيه ، ويقول في رجوع إخوته إليه مرة بعد مرة إنه عرفهم وهم له منكرون ، وكيف ينكر من أعطي نصف الحسن ولم يجعل له في العالم نظير وهم كانوا بأن يعرفوه وينكرهم هو أولى .
قال أبو محمد : ونحن نقول : إن الناس يذهبون في نصف الحسن الذي أعطيه يوسف - عليه السلام - إلى أن الله سبحانه أعطاه نصف الحسن وأعطى العباد أجمعين النصف الآخر وفرقه بينهم ، وهذا غلط بين لا يخفى على من تدبره إذا فهم ما قلناه ، والذي عندي في ذلك أن الله - تبارك وتعالى - جعل للحسن غاية وحدا وجعله لمن شاء من خلقه ، إما للملائكة أو للحور العين ، فجعل [ ص: 446 ] ليوسف - عليه السلام - نصف ذلك الحسن ونصف ذلك الكمال ، وقد يجوز أن يكون جعل لغيره ثلثه ولآخر ربعه ، ولآخر عشره ، ويجوز أن لا يجعل لآخر منه شيئا .
وكذلك لو قال قائل : إنه أعطي نصف الشجاعة . لم يجز أن يكون أعطي نصفها ، وجعل للخلق كلهم النصف الآخر ، ولو كان هذا هو المعنى لوجب أن يكون الذي أعطي نصف الشجاعة يقاوم العباد جميعا وحده ، ولكن معناه أن للشجاعة حدا يعلمه الله تعالى ويجعله لمن شاء من خلقه ، ويعطي غيره النصف من ذلك ، ويعطي لآخر الثلث ، أو الربع أو العشر وما أشبه ذلك .
وأما قولهم : كيف يشترونه بثمن بخس ويكونون أيضا فيه من الزاهدين وهو بهذه المنزلة من الحسن ؟ فإن الحسن إذا كان على ما ذهبنا إليه لا يتفاوت التفاوت الذي ظنوه ، ولكنه يكون مقاربا لما عليه الحسان الوجوه ، وقد ذكر أن وهب بن منبه يوسف - عليه السلام - كان نزع في الحسن إلى سارة ، وهذا شاهد لما تأولناه في نصف الحسن ، فإن احتجوا بقول الله تعالى : فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم .
وقالوا : لم يقطعن أيديهن حين رأينه ولم يقلن إنه ملك كريم إلا لتفاوت حسنه وبعده مما عليه حسن الناس .
قلنا في تأويل الآية إنها لما سمعت بقول النسوة أن امرأة العزيز [ ص: 447 ] تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين ، أرادت أن يرينه ليعذرنها في الفتنة به فأعتدت لهن متكأ ، أي طعاما ، وقد قرئ " متكا " وهو طعام يقطع بالسكين ، وقيل في بعض التفسير : إنه الأترج ، وفي بعضه الزماورد ، وأياما كان فإنه لا يأكل حتى يقطع .
وأصل المتك والبتك واحد وهو القطع ، والميم تبدل من الباء كثيرا وتبدل الباء منها لتقارب المخرجين .
ثم قالت ليوسف : اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه أي : أعظمن أمره وأجللنه ووقع في قلوبهن مثل الذي وقع في قلبها من محبته ، فبهتن وتحيرن وأدمن النظر إليه حتى حززن أيديهن بتلك السكاكين التي كن يقطعن بها طعامهن ، وقلن ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ، ولم يردن بهذا القول أنه ليس من البشر على الحقيقة ، وأنه من الملائكة على الحقيقة ، وإنما قلنه على التشبيه ، كما يقول القائل في رجل يصفه بالجمال : ما هو إلا الشمس ، وما هو إلا القمر ، وفي آخر يصفه بالشجاعة ما هو إلا الأسد .
وكيف يردن أنه ليس من الناس وأنه من الملائكة وهن يردن منه مثل الذي أرادت امرأة العزيز ويشرن بحبسه والملائكة لا تطأ النساء ، ولا تحبس في السجون ، وليس بعجيب أن يقطعن أيديهن إذا رأين وجها حسنا رائعا مع المحبة والشهوة ، وأن يتحيرن ويبهتن ، فقد يصيب الناس مثل ذلك وأكثر منه .
[ ص: 448 ] أمثلة عن أحوال العشاق :
قال عروة بن حزام :
وإني لتعروني لذكراك روعة لها بين جلدي والعظام دبيب وما هو ، إلا أن أراها فجاءة
فأبهت حتى ما أكاد أجيب وأصرف عن رأيي الذي كنت أرتئي
وأنسى الذي أعددت حين تغيب
وقد جن المعروف بالمجنون وذهب عقله ، وهام مع الوحش ، وكان لا يفهم شيئا ، إلا أن تذكر قيس بن الملوح ليلى ، وقال :
أيا ويح من أمسى تخلس عقله فأصبح مذهوبا به كل مذهب
إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت روائع عقلي من هوى متشعب
ولما خرج به أبوه إلى مكة ليعوذ بالبيت ويستشفي له به سمع بمنى قائلا يقول : يا ليلى ، فخر مغشيا عليه ، فلما أفاق قال :
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائرا كان في صدري
وقد مات بالوجد أقوام منهم عروة بن حزام والنهدي عبد الله بن عجلان .
قال أبو محمد : حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب قال : [ ص: 449 ] حدثني عمي قال : الأصمعي عبد الله بن عجلان من عشاق العرب المشهورين الذين ماتوا عشقا ، وقد ذكره بعض الشعراء فقال :
إن مت من الحب فقد مات ابن عجلان
ألا إن هندا أصبحت منك محرما وأصبحت من أدنى حموتها حما
وأصبحت كالمغمود جفن سلاحه يقلب بالكفين قوسا وأسهما
وفيما روى نقلة الأخبار أن الحارث بن حلزة اليشكري قام بقصيدته التي أولها :
آذنتنا ببينها أسماء
بين يدي عمرو بن هند ارتجالا وكانت كالخطبة ، فارتزت العنزة التي كان يتوكأ ويخطب عليها في صدره وهو لا يشعر ، وهذا أعجب من قطعهن أيديهن .
والسبب الذي قطعن له أيديهن أوكد من السبب الذي ارتزت له العنزة في صدر الحارث بن حلزة .
[ ص: 450 ] وأما شراء السيارة له بالثمن البخس وزهدهم فيه مع ذلك فإنهم اشتروه على الإباق وبالبراءة من العيوب واستخرجوه من جوف بئر قد ألقاه سادته فيها بذنوب كانت منه وجنايات عظام ادعوها ، وشرطوا عليهم مع ذلك أن يقيدوه ويغلوه إلى أن يأتوا به مصر ، وفي دون هذه الأمور ما يخسس الثمن ويزهد المشتري ، وهذه القصة مذكورة في التوراة .
وأما قولهم : كيف أنكره إخوته مع ما أعطي من الحسن ، فقد أعلمتك أن الذي أعطيه يوسف - عليه السلام - ، وإن كان فوق ما أعطيه أحد من الناس ، فليس ببعيد مما عليه الحسن منهم وأنه وإن كان أعطي نصف الحسن فقد أعطي غيره الثلث والربع ، وما قارب النصف ، وليس يقع في هذا تفاوت شديد ، وكانوا فارقوه طفلا ورأوه كهلا ودفعوه أسيرا ضريرا ، وألفوه ملكا كبيرا ، وفي أقل من هذه المدة واختلاف هذه الأحوال تتغير الحلى وتختلف المناظر .