سب الدهر
قالوا : رويتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ، فوافقتم في هذه الرواية الدهرية . لا تسبوا الدهر ؛ فإن الله تعالى هو الدهر
قال أبو محمد : ونحن نقول : إن العرب في الجاهلية كانت تقول : أصابني الدهر في مالي بكذا ، ونالتني قوارع الدهر وبوائقه ومصايبه ، ويقول الهرم : حناني الدهر . فينسبون كل شيء تجري به أقدار الله - عز وجل - عليهم من موت أو سقم أو ثكل أو هرم إلى الدهر ، ويقولون : لعن الله هذا الدهر ، ويسمونه المنون لأنه جالب المنون عليهم عندهم ، والمنون المنية ، قال أبو ذؤيب :
أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
قال أبو محمد : هكذا أنشدنيه عن الرياشي عن الأصمعي ابن أبي [ ص: 325 ] طرفة الهذلي عن أبي ذؤيب والناس يروونه : وريبها تتوجع ، ويجعلون المنون المنية ، وهذا غلط ، ويدلك على ذلك قوله : والدهر ليس بمعتب من يجزع ، كأنه قال :
أمن الدهر وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
وقال الله - عز وجل - : نتربص به ريب المنون ، أي : ريب الدهر وحوادثه ، وكانت العرب تقول : لا ألقاك آخر المنون . أي : آخر الدهر .
وقد حكى الله - عز وجل - عن أهل الجاهلية ما كانوا عليه من نسب أقدار الله - عز وجل - وأفعاله إلى الدهر فقال : وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم المصايب ولا تنسبوها إليه ؛ فإن الله - عز وجل - هو الذي أصابكم بذلك لا الدهر ، فإذا سببتم الفاعل وقع السب بالله عز وجل .
ألا ترى أن الرجل منهم إذا أصابته نائبة أو جائحة في مال أو ولد أو بدن فسب فاعل ذلك به - وهو ينوي الدهر - أن المسبوب هو الله عز وجل ؟
وسأمثل لهذا الكلام مثالا أقرب به عليك ما تأولت ، وإن كان [ ص: 326 ] بحمد الله تعالى قريبا ، كأن رجلا يسمى زيدا أمر عبدا له يسمى فتحا أن يقتل رجلا ، فقتله فسب الناس فتحا ولعنوه ، فقال لهم قائل : لا تسبوا فتحا ، فإن زيدا هو فتح . يريد أن زيدا هو القاتل لأنه هو الذي أمره ، كأنه قال إن القاتل زيد لا فتح .
وكذلك الدهر تكون فيه المصايب والنوازل وهي بأقدار الله - عز وجل - ، فيسب الناس الدهر لكون تلك المصايب والنوازل فيه ، وليس له صنع فيقول قائل : لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر .