أولها : القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسناد نظيف غير ضعيف ، وذلك من أجل أنواع العلو ، وقد روينا عن محمد بن أسلم الطوسي [ ص: 257 ] الزاهد العالم رضي الله عنه أنه قال : " قرب الإسناد قرب أو قربة إلى الله عز وجل " .
وهذا كما قال ; لأن قرب الإسناد قرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والقرب إليه قرب إلى الله عز وجل .
الثاني : وهو الذي ذكره الحاكم أبو عبد الله الحافظ ، القرب من إمام من أئمة الحديث ، وإن كثر العدد من ذلك الإمام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا وجد ذلك في إسناد وصف بالعلو ، نظرا إلى قربه من ذلك الإمام وإن لم يكن عاليا بالنسبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وكلام الحاكم يوهم أن القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعد من العلو المطلوب أصلا .
وهذا غلط من قائله ; لأن القرب منه - صلى الله عليه وسلم - بإسناد نظيف غير ضعيف أولى بذلك .
ولا ينازع في هذا من له مسكة من معرفة ، وكأن الحاكم أراد بكلامه ذلك إثبات العلو للإسناد بقربه من إمام ، وإن لم يكن قريبا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والإنكار على من يراعي في [ ص: 258 ] ذلك مجرد قرب الإسناد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان إسنادا ضعيفا ، ولهذا مثل ذلك بحديث أبي هدبة ، ودينار ، والأشج ، وأشباههم ، والله أعلم .
الثالث : العلو بالنسبة إلى رواية الصحيحين ، أو أحدهما ، أو غيرهما من الكتب المعروفة المعتمدة ، وذلك ما اشتهر آخرا من الموافقات ، والأبدال ، والمساواة ، والمصافحة ، وقد كثر اعتناء المحدثين المتأخرين بهذا النوع ، وممن وجدت هذا النوع في كلامه أبو بكر الخطيب الحافظ وبعض شيوخه ، وأبو نصر بن ماكولا ، وأبو عبد الله الحميدي ، وغيرهم من طبقتهم ، وممن جاء بعدهم ، ( والله أعلم ) .
أما الموافقة : فهي أن يقع لك الحديث عن شيخ مسلم فيه - مثلا - عاليا ، بعدد أقل من العدد الذي يقع لك به ذلك الحديث عن ذلك الشيخ إذا رويته عن مسلم عنه .
وأما البدل : فمثل أن يقع لك هذا العلو عن شيخ غير شيخ مسلم ، [ ص: 259 ] هو مثل شيخ مسلم في ذلك الحديث .
وقد يرد البدل إلى الموافقة ، فيقال فيما ذكرناه إنه موافقة عالية في شيخ شيخ مسلم ، ولو لم يكن ذلك عاليا فهو أيضا موافقة ، وبدل ، لكن لا يطلق عليه اسم الموافقة ، والبدل لعدم الالتفات إليه .
وأما المساواة : فهي - في أعصارنا - أن يقل العدد في إسنادك لا إلى شيخ مسلم ، وأمثاله ، ولا إلى شيخ شيخه ، بل إلى من هو أبعد من ذلك كالصحابي ، أو من قاربه ، وربما كان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيث يقع بينك وبين الصحابي - مثلا - من العدد مثل ما وقع من العدد بين مسلم ، وبين ذلك الصحابي ، فتكون بذلك مساويا لمسلم مثلا في قرب الإسناد وعدد رجاله .
وأما المصافحة : فهي أن تقع هذه المساواة التي وصفناها لشيخك لا لك ، فيقع ذلك لك مصافحة ، إذ تكون كأنك لقيت مسلما في ذلك الحديث وصافحته به لكونك قد لقيت شيخك المساوي لمسلم .
فإن كانت المساواة لشيخ شيخك كانت المصافحة لشيخك ، فتقول : كأن شيخي سمع مسلما وصافحه .
وإن كانت المساواة لشيخ شيخ شيخك ، فالمصافحة لشيخ شيخك ، فتقول فيها : كأن شيخ شيخي سمع مسلما ، وصافحه . ولك أن لا تذكر لك في ذلك نسبة ، بل تقول : كأن فلانا سمعه من مسلم ، من غير أن تقول فيه ( شيخي ) ، أو ( شيخ شيخي ) .
ثم لا يخفى على المتأمل : أن في المساواة ، والمصافحة الواقعتين لك [ ص: 260 ] لا يلتقي إسنادك ، وإسناد مسلم - أو نحوه - إلا بعيدا عن شيخ مسلم ، فيلتقيان في الصحابي ، أو قريبا منه ، فإن كانت المصافحة التي تذكرها ليست لك ، بل لمن فوقك من رجال إسنادك ، أمكن التقاء الإسنادين فيها في شيخ مسلم ، أو أشباهه ، وداخلت المصافحة حينئذ الموافقة ، فإن معنى الموافقة راجع إلى مساواة ومصافحة مخصوصة ، إذ حاصلها : أن بعض من تقدم من رواة إسنادك العالي ساوى أو صافح مسلما ، أو البخاري ، لكونه سمع ممن سمع من شيخهما ، مع تأخر طبقته عن طبقتهما .
ويوجد في كثير من العوالي المخرجة لمن تكلم أولا في هذا النوع ، وطبقتهم المصافحات مع الموافقات ، والأبدال لما ذكرناه .
ثم اعلم أن هذا النوع من العلو علو تابع لنزول ، إذ لولا نزول ذلك الإمام في إسناده لم تعل أنت في إسنادك .
وكنت قد قرأت بمرو على شيخنا المكثر أبي المظفر عبد الرحيم بن الحافظ المصنف أبي سعد السمعاني رحمهما الله ، في أربعي أبي البركات الفراوي حديثا ادعى فيه أنه كأنه سمعه هو أو شيخه من البخاري ، فقال الشيخ أبو المظفر : " ليس لك بعال ، ولكنه للبخاري نازل " . وهذا حسن لطيف ، يخدش وجه هذا النوع من العلو ، والله أعلم .
[ ص: 261 ] الرابع : من أنواع العلو : العلو المستفاد من تقدم وفاة الراوي : مثاله ما أرويه عن شيخ ، أخبرني به عن واحد ، عن البيهقي الحافظ ، عن الحاكم أبي عبد الله الحافظ أعلى من روايتي لذلك عن شيخ ، أخبرني به عن واحد ، عن أبي بكر بن خلف ، عن الحاكم ، وإن تساوى الإسنادان في العدد ، لتقدم وفاة البيهقي على وفاة ابن خلف ; لأن البيهقي مات سنة ثمان وخمسين وأربعمائة ، ومات ابن خلف سنة سبع وثمانين وأربعمائة .
روينا عن أبي يعلى الخليل بن عبد الله الخليلي الحافظ رحمه الله ، قال : " قد يكون الإسناد يعلو على غيره بتقدم موت راويه ، وإن كانا متساويين في العدد " . ومثل ذلك من حديث نفسه بمثل ما ذكرناه .
ثم إن هذا كلام في العلو المنبني على تقدم الوفاة ، المستفاد من نسبة شيخ إلى شيخ ، وقياس راو براو .
أما العلو المستفاد من مجرد تقدم وفاة شيخك من غير نظر إلى قياسه براو آخر ، فقد حده بعض أهل هذا الشأن بخمسين سنة . [ ص: 262 ] وذلك ما رويناه عن أبي علي الحافظ النيسابوري قال : سمعت أحمد بن عمير الدمشقي - وكان من أركان الحديث - يقول : إسناد خمسين سنة من موت الشيخ إسناد علو ، وفيما نروي عن أبي عبد الله بن منده الحافظ ، قال : " إذا مر على الإسناد ثلاثون سنة فهو عال " . وهذا أوسع من الأول ، والله أعلم .
الخامس : العلو المستفاد من تقدم السماع .
أنبئنا عن محمد بن ناصر الحافظ ، عن محمد بن طاهر الحافظ ، قال : " من العلو تقدم السماع " .
قلت : وكثير من هذا يدخل في النوع المذكور قبله ، وفيه ما لا يدخل في ذلك ، بل يمتاز عنه . مثل أن يسمع شخصان من شيخ واحد ، وسماع أحدهما من ستين سنة مثلا ، وسماع الآخر من أربعين سنة . فإذا تساوى السند إليهما في العدد ، فالإسناد إلى الأول الذي تقدم سماعه أعلى .
فهذه أنواع العلو على الاستقصاء والإيضاح الشافي ، ولله سبحانه وتعالى الحمد كله .
[ ص: 263 ] وأما ما رويناه عن الحافظ أبي الطاهر السلفي - رحمه الله - من قوله في أبيات له :
بل علو الحديث بين أولي الحفـ ـظ والإتقان صحة الإسناد
وما رويناه عن الوزير نظام الملك من قوله : " عندي أن الحديث العالي ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن بلغت رواته مائة " ، فهذا ونحوه ليس من قبيل العلو المتعارف إطلاقه بين أهل الحديث ، وإنما هو علو من حيث المعنى فحسب ، والله أعلم .


