الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثالثة : التعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصحيح المشهور ؛ لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها ، فإن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول : " لم يفعل كذا ، لم يرتكب كذا ، فعل كذا وكذا " فيعدد جميع ما يفسق بفعله أو بتركه ، وذلك شاق جدا .

وأما الجرح فإنه لا يقبل إلا مفسرا مبين السبب ؛ لأن الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح ، فيطلق أحدهم الجرح بناء على أمر اعتقده جرحا وليس بجرح في نفس الأمر ، فلا بد من بيان [ ص: 107 ] سببه ، لينظر فيه أهو جرح أم لا ، وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله .

وذكر الخطيب الحافظ أنه مذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده مثل البخاري ، ومسلم ، وغيرهما .

ولذلك احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم ، كعكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما ، وكإسماعيل بن أبي أويس ، وعاصم بن علي ، وعمرو بن مرزوق ، وغيرهم .

واحتج مسلم بسويد بن سعيد ، وجماعة اشتهر الطعن فيهم ، وهكذا فعل أبو داود السجستاني ، وذلك دال على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فسر سببه ، ومذاهب النقاد للرجال غامضة مختلفة .

وعقد الخطيب بابا في بعض أخبار من استفسر في جرحه ، فذكر ما لا يصلح جارحا ، منها عن شعبة أنه قيل له : " لم تركت حديث فلان ؟ " فقال : " رأيته يركض على برذون ، فتركت حديثه " .

[ ص: 108 ] ومنها : عن مسلم بن إبراهيم أنه سئل عن حديث لصالح المري ، فقال : ما تصنع بصالح ؟ ذكروه يوما عند حماد بن سلمة فامتخط حماد ، والله أعلم .

قلت : ولقائل أن يقول : إنما يعتمد الناس في جرح الرواة ورد حديثهم على الكتب التي صنفها أئمة الحديث في الجرح أو في الجرح والتعديل ، وقل ما يتعرضون فيها لبيان السبب ، بل يقتصرون على مجرد قولهم : " فلان ضعيف ، وفلان ليس بشيء " ونحو ذلك ، أو " هذا حديث ضعيف ، وهذا حديث غير ثابت " ونحو ذلك ، فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر .

وجوابه : أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به ، فقد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك ، بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها التوقف .

[ ص: 109 ] ثم من انزاحت عنه الريبة منهم ببحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه ولم نتوقف ، كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين وغيرهما ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم ، فافهم ذلك ، فإنه مخلص حسن ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية