الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وإن شهدوا متفرقين قبلتهم إذا كان الزنا واحدا " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح ، لا فرق في الشهادة على الزنا بين أن يفرق الشهود في أدائها أو يجتمعوا عليها .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة ومالك : تسمع شهادتهم إن اجتمعوا عليها في مجلس واحد ، ويحد المشهود عليه ، ولا تقبل إن افترقوا في الأداء ، فشهد بعضهم في مجلس وشهد آخرون منهم في مجلس آخر ، ولا يجب بشهادتهم حد : استدلالا بأن الشهادة على الزنا تكون بلفظ القذف . فإن تكامل فيها العدد خرجت عن حكم القذف إلى الشهادة . وإن لم يتكامل العدد ، استقر فيها حكم القذف ولم تكن شهادة . فوجب أن يكون المجلس معتبرا في استقرار حكمها : لأن للمجلس تأثيرا في استقرار الأحكام كالقبول بعد البدل في العقود ، وكالقبض في عقد التصرف .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن الشهادة فيه معتبرة بكمال الأداء وكمال العدد ، فلما كان تفريق الأداء في مجلس ذكر في أحدهما أنه زنا ، ووصف في الآخر الزنا يمنع من صحة الشهادة وجب أن يكون تفريق العدد في مجلسين مانعا من صحة الشهادة .

                                                                                                                                            قالوا : ولأن حد الزنا ثبت بالإقرار تارة وبالشهادة أخرى ، ثم تغلظ الإقرار من وجهين : تصريح بصفة ، وعدد في تكراره ، وجب أن تتغلظ الشهادة فيه من وجهين : زيادة عدد ، واجتماع في مجلس .

                                                                                                                                            ودليلنا : قول الله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء الآية [ النور : 4 ]

                                                                                                                                            ولم يفرق فكان على عمومه ، ولأن كل شهادة يجب الحكم بها إذا تكامل عددها [ ص: 229 ] في مجلس ، وجب الحكم بها إذا تكامل عددها في مجلسين ، ووجب الحكم إذا تكامل عددها في مجالس قياسا على سائر الشهادات . ولأنه زمان لا يعتبر في شهادة غير الزنا ، فوجب أن لا يعتبر في غير الزنا كالموالاة : ولأن شهادة الحقوق نوعان : لله ، وللآدميين وليست يعتبر في واحد منهما اجتماع الشهود ، فوجب أن يكون الزنا ملحقا بأحدهما ، ولأن شهادة الواحد إذا تقدمت لم يخل من أن يكون فيها شاهدا ، أو قاذفا . فإن كان شاهدا لم يصر قاذفا بتأخر غيره ، وإن كان قاذفا لم يصر شاهدا بشهادة غيره ، ولأنه ليس في تفرق الشهادة في مجلسين أكثر من تباعد ما بين الزمانين ، وهذا لا يؤثر في الشهادة ، كما لو استدام المجلس في جميع اليوم فشهد بعضهم في أوله ، وبعضهم في آخره . ولأن قولهم يفضي إلى رد الشهادة إذا تفرقت في الزمان القصير ، وهو إذا قام الحاكم من مجلسه بين الشهادتين قدر الصلاة وإلى إمضائها إذا تفرقت في الزمان الطويل . وهو إذا استدام مجلسه في جميع النهار فشهد بعضهم في صباحه وشهد بعضهم في مسائه ، وما أفضى إلى هذا كان اعتباره مطرحا ، ولأن تفرق الشهود أنفى للريبة وأمنع من التواطؤ والمتابعة : لأن الاسترابة بالشهود تقتضي تفريقا ليختبر بالتفريق رتبتهم ، فكان افتراقهم أولى أن يعتبر من اجتماعهم .

                                                                                                                                            فأما استدلالهم بأنه في صورة القاذف وإن لم يكمل العدد : فهو أنه لو كان قاذفا لما جاز أن يكمل به العدد : لأن شهادة القاذف غير مقبولة ، وما ادعوه من تأثير المجلس في العقود فليس يصح : لأن التأثير فيها يكون بالتراخي ، وإن كان المجلس واحدا ، والقبض بالصرف هو المعتبر بالمجلس ، وليس القبض قولا فيعتبر به الشهادة .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بتفرق الأداء فالمعنى فيه : أنه لو تفرق في مجلس واحد لم يتم ، فكذلك في مجلسين . والعدد لو تفرق في مجلس واحد تم ، فكذلك في مجلسين .

                                                                                                                                            وأما اعتبارهم بتغليظ الإقرار من وجهين فغير مسلم : لأنه لا يتغلظ عندنا بالتكرار وإن تغلظ عندهم ، ثم لا يستويان على قولهم : لأنهم يعتبرون تكرار الإقرار في مجالس فإن تكرر في مجلس لم يتم ، ويعتبرون أعداد الشهادة في مجلس ، وإن كان في مجالس لم يتم . فلم يسلم لهم معنى الجمع فبطل .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية