فصل  
وقد يقال : إن  الأخذ بالعزيمة ليس بأولى   من أوجه : أحدها : إن أصل العزيمة ، وإن كان قطعيا ; فأصل الترخص قطعي      [ ص: 519 ] أيضا ; فإذا وجدنا المظنة اعتبرناها كانت قطعية أو ظنية ; فإن الشارع قد أجرى الظن في ترتب الأحكام مجرى القطع ، فمتى ظن وجود سبب الحكم استحق السبب للاعتبار ، فقد قام الدليل القطعي على أن الدلائل الظنية تجري في فروع الشريعة مجرى الدلائل القطعية .  
ولا يقال : إن القاطع إذا عارض الظن سقط اعتبار الظن ; لأنا نقول : إنما ذلك في باب تعارض الأدلة بحيث يكون أحدهما رافعا لحكم الآخر جملة ، أما إذا كانا جاريين مجرى العام مع الخاص أو المطلق مع المقيد فلا ، ومسألتنا من هذا الثاني لا من الأول ; لأن العزائم واقعة على المكلف بشرط أن لا حرج ، فإن كان الحرج صح اعتباره ، واقتضى العمل بالرخصة .  
وأيضا ; فإن غلبة الظن قد تنسخ حكم القطع السابق ، كما إذا كان الأصل التحريم في الشيء ، ثم طرأ سبب محلل ظني ، فإذا غلب على ظن الصائد أن موت الصيد بسبب ضرب الصائد ، وإن أمكن أن يكون بغيره أو يعين على موته غيره ; فالعمل على مقتضى الظن صحيح ، وإنما كان هذا ; لأن الأصل وإن كان قطعيا ، فاستصحابه مع هذا المعارض الظني لا يمكن ; إذ لا يصح بقاء القطع بالتحريم مع ، وجود الظن هنا ، بل مع الشك ; فكذلك ما نحن فيه ، وحقيقة الأمر أن غلبة الظن لا تبقي للقطع المتقدم حكما ، وغلبات الظنون معتبرة فلتكن معتبرة في الترخص .  
والثاني : إن أصل الرخصة وإن كان جزئيا بالإضافة إلى عزيمتها ;      [ ص: 520 ] فذلك غير مؤثر ، وإلا لزم أن تقدح فيما أمر به بالترخص ، بل الجزئي إذا كان مستثنى من كلي ، فهو معتبر في نفسه ; لأنه من باب التخصيص للعموم أو من باب التقييد للإطلاق ، وقد مر في الأصول الفقهية صحة تخصيص القطعي بالظني ; فهذا أولى ، وأيضا ;إذا كان الحكم الرجوع إلى التخصيص وهو بظني ، دون أصل العموم وهو قطعي ; فكذلك هنا ، وكما لا ينخرم الكلي بانخرام بعض جزئياته كما هو مقرر في موضعه من هذا الكتاب ، فكذلك هنا ، وإلا لزم أن ينخرم بالرخص المأمور بها ، وذلك فاسد ; فكذلك ما أدى إليه .  
والثالث : إن  الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع   كقوله تعالى :  وما جعل عليكم في الدين من حرج      [ الحج : 78 ] .  
وسائر ما يدل على هذا المعنى ; كقوله :  يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر      [ البقرة : 185 ] .  
يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا      [ النساء : 28 ] .  
ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له      [ الأحزاب : 38 ] .  
 [ ص: 521 ] ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم      [ الأعراف : 157 ] .  
وقد سمي هذا الدين " الحنيفية السمحة " لما فيها من التسهيل والتيسير ، وأيضا ; قد تقدم في المسائل قبل هذا أدلة إباحة الرخص ، وكلها وأمثالها جارية هنا ، والتخصيص ببعض الرخص دون بعض تحكم من غير دليل .  
ولا يقال : إن المشقة إذا كانت قطعية فهي المعتبرة دون الظنية .  
فإن القطع مع الظن مستويان في الحكم ، وإنما يقع الفرق في التعارض ، ولا تعارض في اعتبارهما معا هاهنا ، وإذ ذاك لا يكون الأخذ بالعزيمة دون الرخصة أولى ، بل قد يقال : الأولى الأخذ بالرخصة لأنها تضمنت حق الله وحق العبد معا ; فإن العبادة المأمور بها واقعة ، لكن على مقتضى الرخصة لا أنها ساقطة رأسا ، بخلاف العزيمة ; فإنها تضمنت حق الله مجردا ، والله تعالى غني عن العالمين ، وإنما العبادة راجعة إلى حظ العبد في الدنيا والآخرة ، فالرخصة أحرى لاجتماع الأمرين فيها .  
والرابع : إن  مقصود الشارع من مشروعية الرخصة الرفق بالمكلف عن تحمل المشاق   ، فالأخذ بها مطلقا موافقة لقصده بخلاف الطرف الآخر ; فإنه      [ ص: 522 ] مظنة التشديد ، والتكلف والتعمق المنهي عنه في الآيات [ والأحاديث ] ; كقوله تعالى :  قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين      [ ص : 86 ] .  
وقوله :  ولا يريد بكم العسر      [ البقرة : 185 ] .  
وفي التزام المشاق تكليف وعسر ، وفيها روي  عن   ابن عباس  في قصة بقرة  بني إسرائيل      : " لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم ، ولكن شددوا فشدد الله عليهم "  ، وفي الحديث :  هلك المتنطعون     .  
ونهى - صلى الله عليه وسلم ـ عن التبتل ، وقال :  من رغب عن سنتي فليس مني  بسبب من عزم على صيام النهار ، وقيام الليل ، واعتزال النساء إلى أنواع الشدة التي كانت في الأمم ، فخففها الله عليهم بقوله :  ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم      [ الأعراف : 157 ] .  
 [ ص: 523 ] وقد ترخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ بأنواع من الترخص خاليا وبمرأى من الناس كالقصر ، والفطر في السفر ، والصلاة جالسا حين جحش شقه ، وكان ـ حين بدن ـ يصلي بالليل في بيته قاعدا حتى إذا أراد أن يركع ; قام فقرأ شيئا ثم ركع ، وجرى أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ ذلك المجرى من غير عتب ولا لوم ،      [ ص: 524 ] كما قال : " ولا يعيب بعضنا على بعض " ، والأدلة في هذا المعنى كثيرة .  
والخامس : أن ترك الترخص مع ظن سببه قد يؤدي إلى الانقطاع عن الاستباق إلى الخير ، والسآمة والملل ، والتنفير عن الدخول في العبادة ، وكراهية العمل ، وترك الدوام ، وذلك مدلول عليه في الشريعة بأدلة كثيرة ; فإن الإنسان إذا توهم التشديد أو طلب [ به ] أو قيل له فيه كره ذلك ومله ، وربما عجز عنه في بعض الأوقات ; فإنه قد يصبر أحيانا وفي بعض الأحوال ، ولا يصبر في بعض ، والتكليف دائم ، فإذا لم ينفتح له من باب الترخص إلا ما يرجع إلى مسألة تكليف ما لا يطاق ، وسد عنه ما سوى ذلك ; عد الشريعة شاقة ، وربما ساء ظنه بما تدل عليه دلائل رفع الحرج أو انقطع أو عرض له بعض ما يكره شرعا ، وقد قال تعالى  واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم      [ الحجرات : 7 ] .  
وقال :  يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا      [ المائدة : 87 ] .  
قيل : إنها نزلت بسبب تحريم ما أحل الله تشديدا على النفس فسمي      [ ص: 525 ] اعتداء لذلك .  
وفي الحديث :  خذوا من العمل ما تطيقون      ; فإن الله لن يمل حتى      [ ص: 526 ] تملوا  ،  وما خير عليه [ الصلاة و ] السلام بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما  الحديث .  
ونهى عن الوصال   ، فلما لم ينتهوا ; واصل بهم يوما ثم يوما ، ثم رأوا الهلال ، فقال :  لو تأخر الشهر لزدتكم  كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا ،      [ ص: 527 ] وقال :  لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم  ، وقد  قال   عبد الله بن عمرو بن العاص  حين كبر : يا ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ  ، وفي الحديث :  هذه  الحولاء بنت تويت  زعموا أنها لا تنام الليل ; فقال عليه الصلاة والسلام : لا تنام الليل ؟ خذوا من العمل ما تطيقون الحديث     ;      [ ص: 528 ] فأنكر فعلها كما ترى .  
وحديث إمامة  معاذ  حين قال له النبي - صلى الله عليه وسلم ـ  أفتان أنت يا  معاذ  ،  وقال رجل : والله يا رسول الله ; إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان ، مما يطيل بنا . قال : فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ في موعظة أشد غضبا منه يومئذ ، ثم قال : إن منكم منفرين  الحديث .  
وحديث  الحبل المربوط بين ساريتين ، سأل عنه عليه [ الصلاة و ] السلام قالوا : حبل  لزينب  تصلي فإذا كسلت أو فترت ; أمسكت به ، فقال : حلوه ، ليصل أحدكم نشاطه ، فإذا كسل أو فتر ; قعد     .  
 [ ص: 529 ] وأشباه هذا كثير ; فترك الرخصة من هذا القبيل ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :  ليس من البر الصيام في السفر   فإذا كان كذلك ; ثبت أن الأخذ بالرخصة أولى ، وإن سلم أنه ليس بأولى فالعزيمة ليست بأولى .  
والسادس : إن مراسم الشريعة إن كانت مخالفة للهوى كما تبين في موضعه من هذا الكتاب ; فإنها أيضا إنما أتت لمصالح العباد في دنياهم ودينهم ، والهوى ليس بمذموم إلا إذا كان مخالفا لمراسم الشريعة ، وليس كلامنا فيه ، فإن كان موافقا فليس بمذموم ، ومسألتنا من هذا ; فإنه إذا نصب لنا الشرع سببا لرخصة ، وغلب على الظن ذلك فأعملنا مقتضاه وعملنا بالرخصة ، فأين اتباع الهوى في هذا ؟ وكما أن اتباع الرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي ، كذلك اتباع التشديدات وترك الأخذ بالرخص يحدث بسببه الخروج عن مقتضى الأمر والنهي ، وليس أحدهما بأولى من الآخر ، والمتبع للأسباب المشروعة في الرخص والعزائم سواء ، فإن كانت غلبة الظن في العزائم      [ ص: 530 ] معتبرة ; كذلك في الرخص ، وليس أحدهما أحرى من الآخر ، ومن فرق بينهما فقد خالف الإجماع ، هذا تقرير هذا الطرف .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					