[ ص: 89 ] العلم الذي هو العلم المعتبر شرعا      - أعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق هو العلم الباعث على العمل ، الذي لا يخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان ، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه ، الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها ، ومعنى هذه الجملة أن  أهل العلم في طلبه وتحصيله على ثلاث مراتب      : المرتبة الأولى : الطالبون له ولما يحصلوا على كماله بعد ، وإنما هم في طلبه في رتبة التقليد ، فهؤلاء إذا دخلوا في العمل به ; فبمقتضى الحمل التكليفي ، والحث الترغيبي ، والترهيبي ، وعلى مقدار شدة التصديق يخف ثقل التكليف ، فلا يكتفي العلم هاهنا بالحمل دون أمر آخر خارج مقوله ; من زجر أو قصاص أو حد أو تعزير أو ما جرى هذا المجرى ، ولا احتياج هاهنا إلى إقامة برهان على ذلك ; إذ التجربة الجارية في الخلق قد أعطت في هذه المرتبة برهانا لا يحتمل متعلقه النقيض بوجه .  
والمرتبة الثانية : الواقفون منه على براهينه ، ارتفاعا عن حضيض التقليد      [ ص: 90 ] المجرد ، واستبصارا فيه حسبما أعطاه شاهد النقل الذي يصدقه العقل تصديقا يطمئن إليه ، ويعتمد عليه ; إلا أنه بعد منسوب إلى العقل لا إلى النفس ، بمعنى أنه لم يصر كالوصف الثابت للإنسان ، وإنما هو كالأشياء المكتسبة ، والعلوم المحفوظة التي يتحكم عليها العقل ، وعليه يعتمد في استجلابها ، حتى تصير من جملة مودعاته ، فهؤلاء إذا دخلوا في العمل ، خف عليهم خفة أخرى زائدة على مجرد التصديق في المرتبة الأولى ، بل لا نسبة بينهما ; إذ هؤلاء يأبى لهم البرهان المصدق أن يكذبوا ، ومن جملة التكذيب الخفي العمل على مخالفة العلم الحاصل لهم ، ولكنهم حين لم يصر لهم كالوصف ربما كانت أوصافهم الثابتة من الهوى والشهوة الباعثة الغالبة - أقوى الباعثين ; فلا بد من الافتقار إلى أمر زائد من خارج ، غير أنه يتسع في حقهم ، فلا يقتصر فيه على مجرد الحدود والتعزيرات ، بل ثم أمور أخر كمحاسن العادات ، ومطالبة المراتب التي بلغوها بما يليق بها ، وأشباه ذلك .  
وهذه المرتبة أيضا يقوم البرهان عليها من التجربة ، إلا أنها أخفى مما قبلها ، فيحتاج إلى فضل نظر موكول إلى ذوي النباهة في العلوم الشرعية ، والأخذ في الاتصافات السلوكية .  
والمرتبة الثالثة : الذين صار لهم العلم وصفا من الأوصاف الثابتة بمثابة الأمور البديهية في المعقولات الأول ، أو تقاربها ، ولا ينظر إلى طريق حصولها ;      [ ص: 91 ] فإن ذلك لا يحتاج إليه ، فهؤلاء لا يخليهم العلم وأهواءهم إذا تبين لهم الحق ، بل يرجعون إليه رجوعهم إلى دواعيهم البشرية ، وأوصافهم الخلقية ، وهذه المرتبة هي المترجم لها .  
والدليل على صحتها من الشريعة كثير ; كقوله تعالى :  من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه      [ الزمر : 9 ] .  
ثم قال :  قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون   الآية [ الزمر : 9 ] .  
فنسب هذه المحاسن إلى أولي العلم من أجل العلم ، لا من أجل غيره .  
وقال تعالى :  الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم      [ الزمر : 23 ] .  
والذين يخشون ربهم هم العلماء لقوله :  إنما يخشى الله من عباده العلماء      [ فاطر : 28 ] .  
وقال تعالى :  وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق   الآية [ المائدة : 83 ] .  
ولما كان السحرة قد بلغوا في علم السحر مبلغ الرسوخ فيه ، وهو معنى هذه المرتبة ، بادروا إلى الانقياد والإيمان حين عرفوا من علمهم أن ما جاء به موسى عليه السلام حق ليس بالسحر ، ولا الشعوذة ، ولم يمنعهم من ذلك التخويف ولا التعذيب الذي توعدهم به فرعون .  
 [ ص: 92 ] وقال تعالى :  وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون      [ العنكبوت : 43 ] .  
فحصر تعقلها في العالمين ، وهو قصد الشارع من ضرب الأمثال .  
وقال :  أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى      [ الرعد : 19 ] .  
ثم وصف أهل العلم بقوله :  الذين يوفون بعهد الله      [ الرعد : 20 ] إلى آخر الأوصاف ، وحاصلها يرجع إلى أن العلماء هم العاملون .  
وقال في أهل الإيمان - والإيمان من فوائد العلم -  إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم   إلى أن قال :  أولئك هم المؤمنون حقا      [ الأنفال : 2 - 4 ] .  
ومن هنا قرن العلماء في العمل بمقتضى العلم بالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون فقال تعالى :  من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه      [ آل عمران : 18 ] .  
فشهادة الله تعالى وفق علمه ظاهرة التوافق ; إذ التخالف محال ، وشهادة الملائكة على وفق ما علموا صحيحة ؛ لأنهم محفوظون من المعاصي ، وأولو العلم أيضا كذلك ; من حيث حفظوا بالعلم ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا نزلت عليهم آية فيها تخويف أحزنهم ذلك وأقلقهم ، حتى يسألوا      [ ص: 93 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - كنزول آية البقرة :  وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه   الآية [ البقرة : 284 ] .  
وقوله :  الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم   الآية [ الأنعام : 82 ] .  
وإنما القلق والخوف من آثار العلم بالمنزل .  
 [ ص: 94 ] والأدلة أكثر من إحصائها هنا ، وجميعها يدل على أن  العلم المعتبر هو الملجئ إلى العمل به      .  
فإن قيل : هذا غير ظاهر من وجهين :  
أحدهما : أن الرسوخ في العلم ; إما أن يكون صاحبه محفوظا به من المخالفة أولا .  
فإن لم يكن كذلك ; فقد استوى أهل هذه المرتبة مع من قبلهم ، ومعناه أن العلم بمجرده غير كاف في العمل به ، ولا ملجئ إليه .  
وإن كان محفوظا به من المخالفة ; لزم أن لا يعصي العالم إذا كان من الراسخين فيه ، لكن العلماء تقع منهم المعاصي ، ما عدا الأنبياء عليهم السلام ، ويشهد لهذا في أعلى الأمور قوله تعالى في الكفار :  وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا      [ النمل : 14 ] .  
وقال :  الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون      [ البقرة : 146 ] .  
وقال :  وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك      [ المائدة : 43 ] .  
وقال :  ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق   ، ثم قال :  ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون      [ البقرة : 102 ] .  
 [ ص: 95 ] وسائر ما في هذا المعنى ; فأثبت لهم المعاصي والمخالفات مع العلم ، فلو كان العلم صادا عن ذلك لم يقع .  
والثاني : ما جاء من  ذم العلماء السوء   ، وهو كثير ، ومن أشد ما فيه قوله عليه السلام :  إن أشد الناس عذابا يوم القيامة ، عالم لم ينفعه الله بعلمه     .  
وفي القرآن :  أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب      [ البقرة : 44 ] .  
وقال :  إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى   الآية [ البقرة : 159 ] .  
وقال :  إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا   الآية [ البقرة : 174 ] .  
وحديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ، والأدلة فيه كثيرة ، وهو ظاهر في أن أهل العلم غير معصومين بعلمهم ، ولا هو مما يمنعهم عن إتيان الذنوب ; فكيف يقال : إن العلم مانع من العصيان ؟ .  
فالجواب عن الأول : أن الرسوخ في العلم يأبى للعالم أن يخالفه بالأدلة المتقدمة ، وبدليل التجربة العادية ، لأن ما صار كالوصف الثابت لا يتصرف صاحبه إلا على وفقه اعتيادا ; فإن تخلف فعلى أحد ثلاثة [ ص: 96 ] أوجه :  
الأول : مجرد العناد ، فقد يخالف فيه مقتضى الطبع الجبلي ، فغيره أولى ، وعلى ذلك دل قوله تعالى :  وجحدوا بها   الآية [ النمل : 14 ] ، وقوله تعالى :  ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره      [ البقرة : 109 ] ، وأشباه ذلك .  
والغالب على هذا الوجه أن لا يقع إلا لغلبة هوى ، من حب دنيا أو جاه أو غير ذلك ، بحيث يكون وصف الهوى قد غمر القلب حتى لا يعرف معروفا ، ولا ينكر منكرا .  
والثاني : الفلتات الناشئة عن الغفلات التي لا ينجو منها البشر ; فقد يصير العالم بدخول الغفلة غير عالم ، وعليه يدل عند جماعة قوله تعالى :  إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب   الآية [ النساء : 17 ] .  
 [ ص: 97 ] وقال تعالى :  إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون      [ الأعراف : 102 ] .  
ومثل هذا الوجه لا يعترض على أصل المسألة كما لا يعترض نحوه على سائر الأوصاف الجبلية ; فقد لا تبصر العين ، ولا تسمع الأذن ; لغلبة فكر أو غفلة أو غيرهما ; فترتفع في الحال منفعة العين والأذن حتى يصاب ، ومع ذلك لا يقال : إنه غير مجبول على السمع والإبصار ، فما نحن فيه كذلك .  
والثالث : كونه ليس من أهل هذه المرتبة ; فلم يصر العلم له وصفا أو كالوصف مع عده من أهلها ، وهذا يرجع إلى غلط في اعتقاد العالم في نفسه أو اعتقاد غيره فيه ، ويدل عليه قوله تعالى : ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله [ القصص : 50 ] .  
وفي الحديث :  إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس - إلى أن قال - اتخذ الناس رؤساء جهالا ، [ فسئلوا ، فأفتوا بغير علم ] ; فضلوا وأضلوا     .  
 [ ص: 98 ] وقوله :  ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، أشدها فتنة على أمتي الذين يقيسون الأمور بآرائهم  الحديث ، فهؤلاء وقعوا في المخالفة بسبب ظن      [ ص: 99 ] الجهل علما ; فليسوا من الراسخين في العلم ، ولا ممن صار لهم كالوصف ، وعند ذلك لا حفظ لهم في العلم ; فلا اعتراض بهم .  
 [ ص: 100 ] فأما من خلا عن هذه الأوجه الثلاثة ; فهو الداخل تحت حفظ العلم حسبما نصته الأدلة ، وفي هذا المعنى من كلام السلف كثير .  
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :  إن لكل شيء إقبالا وإدبارا ، وإن لهذا الدين إقبالا وإدبارا ، وإن من إقبال هذا الدين ما بعثني الله به حتى إن القبيلة لتتفقه من عند أسرها ، [ أو قال : آخرها ] حتى لا يكون فيها إلا الفاسق أو الفاسقان ; فهما مقموعان ذليلان ، إن تكلما أو نطقا قمعا وقهرا واضطهدا  الحديث .  
وفي الحديث :  سيأتي على أمتي زمان يكثر القراء ، ويقل الفقهاء ، ويقبض العلم ، ويكثر الهرج - إلى أن قال - ، ثم يأتي من بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال من أمتي لا يجاوز تراقيهم ، ثم يأتي من بعد ذلك زمان يجادل المنافق المشرك بمثل ما يقول     .  
 [ ص: 101 ] وعن  علي     : " يا حملة العلم اعملوا به ; فإن العالم من علم ثم عمل ، ووافق علمه عمله ، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم ، تخالف سريرتهم علانيتهم ، ويخالف علمهم عملهم ، يقعدون حلقا يباهي بعضهم بعضا ، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه ، أولئك لا تصعد أعمالهم تلك إلى الله عز وجل "     .  
وعن   ابن مسعود     : " كونوا للعلم رعاة ، ولا تكونوا له رواة ; فإنه قد يرعوي ولا يروي ، وقد يروي ولا يرعوي "     .  
وعن   أبي الدرداء     : " لا تكون تقيا حتى تكون عالما ، ولا تكون بالعلم جميلا حتى تكون به عاملا "     .  
وعن  الحسن     : " العالم الذي وافق علمه عمله ، ومن خالف علمه عمله فذلك راوية حديث سمع شيئا فقاله "     .  
 [ ص: 102 ] وقال   الثوري     : " العلماء إذا علموا عملوا ، فإذا عملوا شغلوا ، فإذا شغلوا فقدوا ، فإذا فقدوا طلبوا ، فإذا طلبوا هربوا "     .  
وعن  الحسن  قال : " الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل     " .  
وعنه في قول الله تعالى :  وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم   قال : " علمتم فعلمتم ولم تعملوا ، فوالله ما ذلكم بعلم " .  
وقال   الثوري     : " العلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه وإلا ارتحل "     . وهذا تفسير معنى كون العلم هو الذي يلجئ إلى العمل .  
وقال   الشعبي     : " كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به "  ، ومثله عن   وكيع بن الجراح     .  
وعن   ابن مسعود     : " ليس العلم عن كثرة الحديث ، إنما العلم خشية      [ ص: 103 ] الله     .  
والآثار في هذا النحو كثيرة .  
وبما ذكر يتبين الجواب عن الإشكال الثاني ; فإن علماء السوء هم الذين لا يعملون بما يعلمون ، وإذا لم يكونوا كذلك ; فليسوا في الحقيقة من الراسخين في العلم ، وإنما هم رواة - والفقه فيما رووا أمر آخر - أو ممن غلب عليهم هوى غطى على القلوب ، والعياذ بالله .  
على أن المثابرة على طلب العلم والتفقه فيه ، وعدم الاجتزاء باليسير منه - يجر إلى العمل به ، ويلجئ إليه ، كما تقدم بيانه ، وهو معنى  قول  الحسن     : " كنا نطلب العلم للدنيا ; فجرنا إلى الآخرة "     .  
وعن  معمر     ; أنه قال : " كان يقال : من طلب العلم لغير الله يأبى عليه العلم حتى يصيره إلى الله "     .  
وعن   حبيب بن أبي ثابت     : " طلبنا هذا الأمر وليس لنا فيه نية ، ثم جاءت      [ ص: 104 ] النية بعد     .  
وعن   الثوري  قال : " كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخرة "  ، وهو معنى قوله في كلام آخر : " كنت أغبط الرجل يجتمع حوله ، ويكتب عنه ، فلما ابتليت به ، وددت أني نجوت منه كفافا لا علي ولا لي " .  
وعن   أبي الوليد الطيالسي      ; قال : " سمعت   ابن عيينة  منذ أكثر من ستين سنة يقول : " طلبنا هذا الحديث لغير الله فأعقبنا الله ما ترون "     .  
وقال  الحسن     : " لقد طلب أقوام العلم ما أرادوا به الله وما عنده ، فما زال بهم حتى أرادوا به الله وما عنده "  فهذا أيضا مما يدل على صحة ما تقدم .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					