[ ص: 374 ] المسألة الثانية
nindex.php?page=treesubj&link=21055_21097الأمر بالمطلقات يستلزم قصد الشارع إلى إيقاعها كما أن النهي يستلزم قصده لترك إيقاعها .
وذلك أن معنى الأمر والنهي اقتضاء الفعل واقتضاء الترك ، ومعنى الاقتضاء الطلب والطلب يستلزم مطلوبا والقصد لإيقاع ذلك المطلوب ولا معنى للطلب إلا هذا .
ووجه ثان أنه لو تصور طلب لا يستلزم القصد لإيقاع المطلوب لأمكن أن يرد أمر مع القصد لعدم إيقاع المأمور به ، وأن يرد نهي مع القصد لإيقاع المنهي عنه ، وبذلك لا يكون الأمر أمرا ولا النهي نهيا ، هذا خلف ، ولصح انقلاب الأمر نهيا ، وبالعكس ولأمكن أن يوجد أمر أو نهي من غير قصد إلى إيقاع فعل ، أو عدمه فيكون المأمور به ، أو المنهي عنه مباحا ، أو مسكوتا عن
[ ص: 375 ] حكمه ، وهذا كله محال .
والثالث أن الأمر والنهي من غير قصد إلى إيقاع المأمور به ، وترك المنهي عنه هو كلام الساهي والنائم والمجنون ، وذلك ليس بأمر ولا نهي باتفاق والأمر في هذا أوضح من أن يستدل عليه .
فإن قيل : هذا مشكل من أوجه .
أحدها : أنه يلزم على هذا أن يكون التكليف بما لا يطاق مقصودا إلى إيقاعه ، فإن المحققين اتفقوا على جواز ذلك ، وإن لم يقع ، فإن جوازه يستلزم صحة القصد إلى إيقاعه ، والقصد إلى إيقاع ما لا يمكن إيقاعه عبث ؛ فيلزم أن يكون القصد إلى الأمر بما لا يطاق عبثا ، وتجويز العبث على الله محال ؛ فكل ما يلزم عنه محال ، وذلك استلزام القصد إلى الإيقاع بخلاف ما إذا قلنا إن الأمر لا يستلزم القصد إلى الإيقاع ، فإنه لا يلزم منه محظور عقلي فوجب القول به .
[ ص: 376 ] والثاني : أن مثل هذا يلزم في السيد إذا أمر عبده بحضرة ملك قد توعد السيد على ضرب عبده زاعما أنه لا يطيعه ، وطلب تمهيد عذره بمشاهدة الملك ، فإنه يأمر العبد ، وهو غير قاصد لإيقاع المأمور به ; لأن القصد هنا يستلزم قصده لإهلاك نفسه ، وذلك لا يصدر من العقلاء فلم يصح أن يكون قاصدا وهو آمر ، وإذا لم يصح لم يلزم أن يكون كل آمر قاصدا للمأمور به ، وكذلك النهي حرفا بحرف ، وهو المطلوب .
والثالث : أن هذا لازم في أمر التعجيز نحو
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=15فليمدد بسبب إلى السماء [ الحج : 15 ] ، وفي أمر التهديد نحو
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=40اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] ، وما أشبه ذلك ; إذ معلوم أن المعجز والمهدد غير قاصد لإيقاع المأمور به في تلك الصيغة .
فالجواب عن الأول أن القصد إلى إيقاع ما لا يطاق لا بد منه ولا يلزم من القصد إلى ذلك حصوله ; إذ القصد إلى الأمر بالشيء لا يستلزم إرادة الشيء إلا على قول من يقول : إن الأمر إرادة الفعل ، وهو رأي
المعتزلة .
[ ص: 377 ] وأما
الأشاعرة فالأمر عندهم غير مستلزم للإرادة ، وإلا وقعت المأمورات كلها ، وأيضا لو فرض في تكليف ما لا يطاق عدم القصد إلى إيقاعه لم يكن تكليف ما لا يطاق ; لأن حقيقته إلزام فعل ما لا يقدر على فعله ، وإلزام الفعل هو القصد إلى أن يفعل ، أو لازم القصد إلى أن يفعل ، فإذا علم ذلك ، فلا تكليف به فهو طلب للتحصيل لا طلب للحصول ، وبينهما فرق واضح .
وهكذا القول في جميع الأسئلة ، فإن السيد إذا أمر عبده ، فقد طلب منه أن يحصل ما أمر به ولم يطلب حصول ما أمره به ، وفرق بين طلب التحصيل وطلب الحصول .
[ ص: 378 ] وأما أمر التعجيز والتهديد فليس في الحقيقة بأمر ، وإن قيل : أنه أمر بالمجاز فعلى ما تقدم ; إذ الأمر ، وإن كان مجازيا فيستلزم قصدا به يكون أمرا فيتصور وجه المجاز ، وإلا فلا يكون أمرا دون قصد إلى إيقاع المأمور به بوجه .
[ ص: 374 ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=21055_21097الْأَمْرُ بِالْمُطْلَقَاتِ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الشَّارِعِ إِلَى إِيقَاعِهَا كَمَا أَنَّ النَّهْيَ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَهُ لِتَرْكِ إِيقَاعِهَا .
وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ وَاقْتِضَاءُ التَّرْكِ ، وَمَعْنَى الِاقْتِضَاءِ الطَّلَبُ وَالطَّلَبُ يَسْتَلْزِمُ مَطْلُوبًا وَالْقَصْدُ لِإِيقَاعِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ وَلَا مَعْنَى لِلطَّلَبِ إِلَّا هَذَا .
وَوَجْهٌ ثَانٍ أَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ طَلَبٌ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَصْدَ لِإِيقَاعِ الْمَطْلُوبِ لَأَمْكَنَ أَنْ يَرِدَ أَمْرٌ مَعَ الْقَصْدِ لِعَدَمِ إِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، وَأَنْ يَرِدَ نَهْيٌ مَعَ الْقَصْدِ لِإِيقَاعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ الْأَمْرُ أَمْرًا وَلَا النَّهْيُ نَهْيًا ، هَذَا خُلْفٌ ، وَلَصَحَّ انْقِلَابُ الْأَمْرِ نَهْيًا ، وَبِالْعَكْسِ وَلَأَمْكَنَ أَنْ يُوجَدَ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى إِيقَاعِ فِعْلٍ ، أَوْ عَدِمَهُ فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ ، أَوِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُبَاحًا ، أَوْ مَسْكُوتًا عَنْ
[ ص: 375 ] حُكْمِهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُحَالٌ .
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى إِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، وَتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ هُوَ كَلَامُ السَّاهِي وَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ بِاتِّفَاقٍ وَالْأَمْرُ فِي هَذَا أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مُشْكِلٌ مِنْ أَوْجُهٍ .
أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ مَقْصُودًا إِلَى إِيقَاعِهِ ، فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ ، فَإِنَّ جَوَازَهُ يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الْقَصْدِ إِلَى إِيقَاعِهِ ، وَالْقَصْدُ إِلَى إِيقَاعِ مَا لَا يُمْكِنُ إِيقَاعُهُ عَبَثٌ ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ إِلَى الْأَمْرِ بِمَا لَا يُطَاقُ عَبَثًا ، وَتَجْوِيزُ الْعَبَثِ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ ؛ فَكُلُّ مَا يَلْزَمُ عَنْهُ مُحَالٌ ، وَذَلِكَ اسْتِلْزَامُ الْقَصْدِ إِلَى الْإِيقَاعِ بِخِلَافِ مَا إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْأَمْرَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَصْدَ إِلَى الْإِيقَاعِ ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَحْظُورٌ عَقْلِيٌّ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ .
[ ص: 376 ] وَالثَّانِي : أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَلْزَمُ فِي السَّيِّدِ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهَ بِحَضْرَةِ مَلِكٍ قَدْ تَوَعَّدَ السَّيِّدَ عَلَى ضَرْبِ عَبْدِهِ زَاعِمًا أَنَّهُ لَا يُطِيعُهُ ، وَطَلَبَ تَمْهِيدَ عُذْرِهِ بِمُشَاهَدَةِ الْمَلِكِ ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ الْعَبْدَ ، وَهُوَ غَيْرُ قَاصِدٍ لِإِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ ; لِأَنَّ الْقَصْدَ هُنَا يَسْتَلْزِمُ قَصْدَهُ لِإِهْلَاكِ نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَصْدُرُ مِنَ الْعُقَلَاءِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا وَهُوَ آمِرٌ ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ آمِرٍ قَاصِدًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ حَرْفًا بِحَرْفٍ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا لَازِمٌ فِي أَمْرِ التَّعْجِيزِ نَحْوَ
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=15فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ [ الْحَجِّ : 15 ] ، وَفِي أَمْرِ التَّهْدِيدِ نَحْوَ
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=40اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [ فُصِّلَتْ : 40 ] ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ; إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُعْجِزَ وَالْمُهَدِّدَ غَيْرُ قَاصِدٍ لِإِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي تِلْكَ الصِّيغَةِ .
فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَصْدَ إِلَى إِيقَاعِ مَا لَا يُطَاقُ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْقَصْدِ إِلَى ذَلِكَ حُصُولُهُ ; إِذِ الْقَصْدُ إِلَى الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ إِرَادَةَ الشَّيْءِ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إِنَّ الْأَمْرَ إِرَادَةُ الْفِعْلِ ، وَهُوَ رَأْيُ
الْمُعْتَزِلَةِ .
[ ص: 377 ] وَأَمَّا
الْأَشَاعِرَةُ فَالْأَمْرُ عِنْدَهُمْ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْإِرَادَةِ ، وَإِلَّا وَقَعَتِ الْمَأْمُورَاتُ كُلُّهَا ، وَأَيْضًا لَوْ فُرِضَ فِي تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ عَدَمُ الْقَصْدِ إِلَى إِيقَاعِهِ لَمْ يَكُنْ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ ; لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ إِلْزَامُ فِعْلِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ ، وَإِلْزَامُ الْفِعْلِ هُوَ الْقَصْدُ إِلَى أَنْ يَفْعَلَ ، أَوْ لَازَمَ الْقَصْدَ إِلَى أَنْ يَفْعَلَ ، فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ ، فَلَا تَكْلِيفَ بِهِ فَهُوَ طَلَبٌ لِلتَّحْصِيلِ لَا طَلَبٌ لِلْحُصُولِ ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَاضِحٌ .
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْأَسْئِلَةِ ، فَإِنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ ، فَقَدْ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُحَصِّلَ مَا أَمَرَ بِهِ وَلَمْ يَطْلُبْ حُصُولَ مَا أَمَرَهُ بِهِ ، وَفَرْقٌ بَيْنَ طَلَبِ التَّحْصِيلِ وَطَلَبِ الْحُصُولِ .
[ ص: 378 ] وَأَمَّا أَمْرُ التَّعْجِيزِ وَالتَّهْدِيدِ فَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِأَمْرٍ ، وَإِنْ قِيلَ : أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمَجَازِ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ ; إِذِ الْأَمْرُ ، وَإِنْ كَانَ مَجَازِيًّا فَيَسْتَلْزِمُ قَصْدًا بِهِ يَكُونُ أَمْرًا فَيُتَصَوَّرُ وَجْهُ الْمَجَازِ ، وَإِلَّا فَلَا يَكُونُ أَمْرًا دُونَ قَصْدٍ إِلَى إِيقَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِوَجْهٍ .