[ ص: 53 ] المسألة الخامسة
والأدلة على صحتها ما تقدم ، والمسألة وإن كانت مختلفا فيها على وجه آخر ; فالصواب جريانها على ما جرت عليه العزائم مع الرخص ، ولنفرض المسألة في موضعين : أحدهما : فيما
nindex.php?page=treesubj&link=27987إذا وقع الخطأ من المكلف فتناول ما هو محرم ; ظهرت علة تحريمه بنص أو إجماع أو غيرهما ; كشارب المسكر يظنه حلالا ، وآكل مال
[ ص: 54 ] اليتيم أو غيره يظنه متاع نفسه ، أو قاتل المسلم يظنه كافرا ، أو واطئ الأجنبية يظنها زوجته أو أمته ، وما أشبه ذلك ; فإن المفاسد التي حرمت هذه الأشياء لأجلها واقعة أو متوقعة ، فإن شارب المسكر قد زال عقله وصده عن ذكر الله وعن الصلاة ، وآكل مال اليتيم قد أخذ ماله الذي حصل له به الضرر والفقر وقاتل المسلم قد أزهق دم نفس
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=32ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا [ المائدة : 32 ] وواطئ الأجنبية قد تسبب في اختلاط نسب المخلوق من مائه ; فهل يسوغ في هذه الأشياء أن يقال : إن الله أذن فيها وأمر بها ؟ كلا ، بل عذر الخاطئ ورفع الحرج والتأثيم بها ، وشرع مع ذلك فيها التلافي حتى تزول المفسدة فيما يمكن فيه الإزالة ; كالغرامة ، والضمان في المال ، وأداء الدية مع تحرير الرقبة في النفس ، وبذل المهر مع إلحاق الولد بالواطئ ، وما أشبه ذلك
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=28إن الله لا يأمر بالفحشاء [ الأعراف : 28 ]
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=90إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي [ النحل : 90 ] غير أن عذر الخطأ رفع حكم التأثيم المرتب على التحريم
[ ص: 55 ] والموضع الثاني :
nindex.php?page=treesubj&link=27987إذا أخطأ الحاكم في الحكم ; فسلم المال إلى غير أهله ، أو الزوجة إلى غير زوجها ، أو أدب من لم يستحق تأديبا وترك من كان مستحقا له ، أو قتل نفسا بريئة إما لخطأ في دليل أو في الشهود ، أو نحو ذلك ; فقد قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=49وأن احكم بينهم بما أنزل الله الآية [ المائدة : 49 ] وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] فإذا أخطأ فحكم بغير ما أنزل الله ; فكيف يقال إنه مأمور بذلك ؟ أو أشهد ذوي زور ; فهل يصح أن يقال : إنه مأمور بقبولهم وبإشهادهم ؟ هذا لا يسوغ
[ ص: 56 ] بناء على مراعاة المصالح في الأحكام ، تفضلا كما اخترناه ، أو لزوما كما يقوله
المعتزلة ، غير أنه معذور في عدم إصابته كما مر ، والأمثلة في ذلك كثيرة .
ولو كان هذا الفاعل وهذا الحاكم مأمورا بما أخطأ فيه ، أو مأذونا له فيه ; لكان الأمر بتلافيه إذا اطلع عليه على خلاف مقتضى الأدلة ; إذ لا فرق بين أمر وأمر ، وإذن وإذن ; إذ الجميع ابتدائي ; فالتلافي بعد أحدهما دون الآخر شيء لا يعقل له معنى ، وذلك خلاف ما دل عليه اعتبار المصالح .
فإن التزم أحد هذا الرأي وجرى على التعبد المحض ، ورشحه بأن الحرج موضوع في التكاليف وإصابة ما في نفس الأمر حرج أو تكليف بما لا يستطاع ، وإنما يكلف بما يظنه صوابا ، وقد ظنه كذلك ; فليكن مأمورا به أو مأذونا فيه ، والتلافي بعد ذلك أمر ثان بخطاب جديد ; فهذا الرأي جار على الظاهر لا على التفقه في الشريعة ، وقد مر له تقرير في فصل الأوامر والنواهي ، ولولا أنها مسألة عرضت لكان الأولى ترك الكلام فيها لأنها لا تكاد ينبني عليها فقه معتبر .
[ ص: 53 ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
وَالْأَدِلَّةُ عَلَى صِحَّتِهَا مَا تَقَدَّمَ ، وَالْمَسْأَلَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلَفًا فِيهَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ ; فَالصَّوَابُ جَرَيَانُهَا عَلَى مَا جَرَتْ عَلَيْهِ الْعَزَائِمُ مَعَ الرُّخَصِ ، وَلِنَفْرِضِ الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِيمَا
nindex.php?page=treesubj&link=27987إِذَا وَقَعَ الْخَطَأُ مِنَ الْمُكَلَّفِ فَتَنَاوَلَ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ ; ظَهَرَتْ عِلَّةُ تَحْرِيمِهِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ; كَشَارِبِ الْمُسْكِرِ يَظُنُّهُ حَلَالًا ، وَآكِلِ مَالِ
[ ص: 54 ] الْيَتِيمِ أَوْ غَيْرِهِ يَظُنُّهُ مَتَاعَ نَفْسِهِ ، أَوْ قَاتِلِ الْمُسْلِمِ يَظُنُّهُ كَافِرًا ، أَوْ وَاطِئِ الْأَجْنَبِيَّةِ يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ; فَإِنَّ الْمَفَاسِدَ الَّتِي حُرِّمَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لِأَجْلِهَا وَاقِعَةٌ أَوْ مُتَوَقَّعَةٌ ، فَإِنَّ شَارِبَ الْمُسْكِرِ قَدْ زَالَ عَقْلُهُ وَصَدَّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ، وَآكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ قَدْ أَخَذَ مَالَهُ الَّذِي حَصَلَ لَهُ بِهِ الضَّرَرُ وَالْفَقْرُ وَقَاتِلُ الْمُسْلِمِ قَدْ أَزْهَقَ دَمَ نَفْسٍ
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=32وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [ الْمَائِدَةِ : 32 ] وَوَاطِئُ الْأَجْنَبِيَّةِ قَدْ تَسَبَّبَ فِي اخْتِلَاطِ نَسَبِ الْمَخْلُوقِ مِنْ مَائِهِ ; فَهَلْ يُسَوَّغُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِيهَا وَأَمَرَ بِهَا ؟ كَلَّا ، بَلْ عَذَرَ الْخَاطِئَ وَرَفَعَ الْحَرَجَ وَالتَّأْثِيمَ بِهَا ، وَشَرَعَ مَعَ ذَلِكَ فِيهَا التَّلَافِي حَتَّى تَزُولَ الْمَفْسَدَةُ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْإِزَالَةُ ; كَالْغَرَامَةِ ، وَالضَّمَانِ فِي الْمَالِ ، وَأَدَاءِ الدِّيَةِ مَعَ تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ فِي النَّفْسِ ، وَبَذْلِ الْمَهْرِ مَعَ إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْوَاطِئِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=28إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [ الْأَعْرَافِ : 28 ]
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=90إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [ النَّحْلِ : 90 ] غَيْرَ أَنَّ عُذْرَ الْخَطَأِ رَفْعُ حُكْمِ التَّأْثِيمِ الْمُرَتَّبِ عَلَى التَّحْرِيمِ
[ ص: 55 ] وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي :
nindex.php?page=treesubj&link=27987إِذَا أَخْطَأَ الْحَاكِمُ فِي الْحُكْمِ ; فَسَلَّمَ الْمَالَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ ، أَوِ الزَّوْجَةَ إِلَى غَيْرِ زَوْجِهَا ، أَوْ أَدَّبَ مَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ تَأْدِيبًا وَتَرَكَ مَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بَرِيئَةً إِمَّا لِخَطَأٍ فِي دَلِيلٍ أَوْ فِي الشُّهُودِ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ; فَقَدْ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=49وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ [ الْمَائِدَةِ : 49 ] وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [ الطَّلَاقِ : 2 ] فَإِذَا أَخْطَأَ فَحَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ; فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ ؟ أَوْ أَشْهَدَ ذَوَيْ زُورٍ ; فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَبُولِهِمْ وَبِإِشْهَادِهِمْ ؟ هَذَا لَا يُسَوَّغُ
[ ص: 56 ] بِنَاءً عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ فِي الْأَحْكَامِ ، تَفَضُّلًا كَمَا اخْتَرْنَاهُ ، أَوْ لُزُومًا كَمَا يَقُولُهُ
الْمُعْتَزِلَةُ ، غَيْرَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي عَدَمِ إِصَابَتِهِ كَمَا مَرَّ ، وَالْأَمْثِلَةُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَلَوْ كَانَ هَذَا الْفَاعِلُ وَهَذَا الْحَاكِمُ مَأْمُورًا بِمَا أَخْطَأَ فِيهِ ، أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِيهِ ; لَكَانَ الْأَمْرُ بِتَلَافِيهِ إِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ ; إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَمْرٍ وَأَمْرٍ ، وَإِذْنٍ وَإِذْنٍ ; إِذِ الْجَمِيعُ ابْتِدَائِيٌّ ; فَالتَّلَافِي بَعْدَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ شَيْءٌ لَا يُعْقَلُ لَهُ مَعْنًى ، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ الْمَصَالِحِ .
فَإِنِ الْتَزَمَ أَحَدٌ هَذَا الرَّأْيَ وَجَرَى عَلَى التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ ، وَرَشَّحَهُ بِأَنَّ الْحَرَجَ مَوْضُوعٌ فِي التَّكَالِيفِ وَإِصَابَةِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَرَجٌ أَوْ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ ، وَإِنَّمَا يُكَلَّفُ بِمَا يَظُنُّهُ صَوَابًا ، وَقَدْ ظَنَّهُ كَذَلِكَ ; فَلْيَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَأْذُونًا فِيهِ ، وَالتَّلَافِي بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرٌ ثَانٍ بِخِطَابٍ جَدِيدٍ ; فَهَذَا الرَّأْيُ جَارٍ عَلَى الظَّاهِرِ لَا عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَقَدْ مَرَّ لَهُ تَقْرِيرٌ فِي فَصْلِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَلَوْلَا أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ عَرَضَتْ لَكَانَ الْأَوْلَى تَرَكُ الْكَلَامِ فِيهَا لِأَنَّهَا لَا تَكَادُ يَنْبَنِي عَلَيْهَا فِقْهٌ مُعْتَبَرٌ .