المسألة الرابعة
إذا قيل في - وذلك في أحد الإطلاقين المذكورين - ; فليس بداخل تحت التخيير بين الفعل والترك ; لوجوه : أحدها : أنا إنما فرقنا بينهما بعد فهمنا من الشريعة القصد إلى التفرقة ؛ فالقسم المطلوب الفعل بالكل هو الذي جاء فيه التخيير بين الفعل والترك ; كقوله تعالى : المباح : إنه لا حرج فيه نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم [ البقرة : 223 ] .
وقوله : وكلا منها رغدا حيث شئتما [ البقرة : 35 ] .
[ ص: 228 ] وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا [ البقرة : 58 ] .
والآية الأخرى في معناها ; فهذا تخيير حقيقة .
وأيضا ; فالأمر في المطلقات - إذا كان الأمر للإباحة - يقتضي التخيير حقيقة كقوله تعالى : وإذا حللتم فاصطادوا [ المائدة : 2 ] .
فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] .
كلوا من طيبات ما رزقناكم [ الأعراف : 160 ] .
وما أشبه ذلك ; فإن إطلاقه - مع أنه يكون على وجوه - واضح في التخيير في تلك الوجوه إلا ما قام الدليل على خروجه عن ذلك .
وأما القسم المطلوب الترك بالكل فلا نعلم في الشريعة ما يدل على حقيقة التخيير فيه نصا ، بل هو مسكوت عنه أو مشار إلى بعضه بعبارة تخرجه عن حكم التخيير الصريح ; كتسمية الدنيا لعبا ولهوا في معرض الذم لمن ركن إليها ; فإنها مشعرة بأن اللهو غير مخير فيه ، وجاء : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها [ الجمعة : 11 ] ، وهو الطبل أو ما في معناه ، وقال تعالى : ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 6 ] .
وما تقدم من قول بعض الصحابة : حدثنا يا رسول الله - حين ملوا ملة - ; فأنزل الله عز وجل : الله نزل أحسن الحديث [ الزمر : 23 ] .
وفي الحديث : كل لهو باطل .
[ ص: 229 ] وما أشبه ذلك من العبارات التي لا تجتمع مع التخيير في الغالب فإذا ورد في الشرع بعض هذه الأمور مقدرة ، أو كان فيها بعض الفسحة في بعض الأوقات أو بعض الأحوال ، فمعنى نفي الحرج على معنى الحديث الآخر ، أي مما عفي عنه ، وهذا إنما يعبر به في العادة ، [ ص: 230 ] إشعارا بأن فيه ما يعفى عنه ، أو ما هو مظنة عنه ، أو هو مظنة لذلك فيما تجري به العادات . وما سكت عنه فهو عفو
وحاصل الفرق أن الواحد صريح في رفع الإثم والجناح ، وإن كان قد يلزمه الإذن في الفعل والترك إن قيل به ، إلا أن قصد اللفظ فيه نفي الإثم خاصة ، وأما الإذن فمن باب " ما لا يتم الواجب إلا به " أو من باب " الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أم لا " ، " والنهي عن الشيء هل هو أمر بأحد أضداده أم لا " ، والآخر صريح في نفس التخيير ، وإن كان قد يلزمه نفي الحرج عن الفعل ; فقصد اللفظ فيه التخيير خاصة ، وأما رفع الحرج ; فمن تلك الأبواب .
والدليل عليه أن رفع الجناح قد يكون مع الواجب ; كقوله تعالى : [ ص: 231 ] فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] .
وقد يكون مع مخالفة المندوب كقوله : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] .
فلو كان رفع للجناح يستلزم التخيير في الفعل والترك ؛ لم يصح مع الواجب ، ولا مع مخالفة المندوب ، وليس كذلك التخيير المصرح به ; فإنه لا يصح مع كون الفعل واجبا دون الترك ، ولا مندوبا ، [ وبالعكس ] .
والثاني : أن لفظ التخيير مفهوم منه قصد الشارع إلى تقرير الإذن في طرفي الفعل والترك ، وأنهما على سواء في قصده ، ورفع الحرج مسكوت عنه ، وأما لفظ رفع الجناح ; فمفهومه قصد الشارع إلى رفع الحرج في الفعل إن وقع من المكلف ، وبقي الإذن في ذلك الفعل مسكوتا عنه ، فيمكن أن يكون مقصودا له ، لكن بالقصد الثاني كما في الرخص ; فإنها راجعة إلى رفع الحرج كما سيأتي بيانه إن شاء الله ، فالمصرح به في أحدهما مسكوت عنه في الآخر ، وبالعكس ، فلذلك إذا قال الشارع في أمر واقع لا حرج فيه ، فلا يؤخذ منه حكم الإباحة ; إذ قد يكون كذلك ; وقد يكون مكروها ; فإن المكروه بعد الوقوع لا حرج فيه ; فليتفقد هذا في الأدلة .
والوجه الثالث : مما يدل على أن ما لا حرج فيه غير مخير فيه على [ ص: 232 ] الإطلاق ، أن المخير فيه لما كان هو الخادم للمطلوب الفعل ، صار خارجا عن محض اتباع الهوى ، بل اتباع الهوى فيه مقيد ، وتابع بالقصد الثاني ، فصار الداخل فيه داخلا تحت الطلب بالكل ، فلم يقع التخيير فيه إلا من حيث الجزء ، ولما كان مطلوبا بالكل وقع تحت الخارج عن اتباع الهوى من هذا الوجه ، وقد عرفنا اعتناء الشارع بالكليات ، والقصد إليها في التكاليف ; فالجزئي الذي لا يخرمه ليس بقادح في مقتضاه ، ولا هو مضاد له ، بل هو مؤكد له ; فاتباع الهوى في المخير فيه تأكيد لاتباع مقصود الشارع من جهة الكلي ، فلا ضرر في اتباع الهوى هنا ؛ لأنه اتباع لقصد الشارع ابتداء ، وإنما اتباع الهوى فيه خادم له .
وأما قسم ما لا حرج فيه ; فيكاد يكون شبيها باتباع الهوى المذموم ، ألا ترى أنه كالمضاد لقصد الشارع في طلب النهي الكلي على الجملة ، لكنه لقلته وعدم دوامه ، ومشاركته للخادم المطلوب الفعل بالعرض حسبما هو مذكور في موضعه ; لم يحفل به ، فدخل تحت المرفوع الحرج ; إذ الجزئي منه لا يخرم أصلا مطلوبا ، وإن كان فتحا لبابه في الجملة ، فهو غير مؤثر من حيث هو جزئي ، حتى يجتمع مع غيره من جنسه ، والاجتماع مقو ، ومن هنالك يلتئم الكلي المنهي عنه ، وهو المضاد للمطلوب فعله ، وإذا ثبت أنه كاتباع الهوى من غير دخول تحت كلي أمر ، اقتضت الضوابط الشرعية أن لا يكون [ ص: 233 ] مخيرا فيه ; فتصريح بما تقدم في قاعدة اتباع الهوى ، وأنه مضاد للشريعة ، [ والله أعلم وبه التوفيق ] .