المسألة التاسعة
الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين - كانت من حقوق الله ; كالصلاة ، والصيام ، والحج ، أو من حقوق الآدميين كالديون ، والنفقات ، والنصيحة ، وإصلاح ذات البين ، وما أشبه ذلك - : أحدهما :
nindex.php?page=treesubj&link=20504حقوق محدودة شرعا .
[ ص: 247 ] والآخر
nindex.php?page=treesubj&link=20505حقوق غير محدودة .
فأما المحدودة المقدرة ; فلازمة لذمة المكلف مترتبة عليه دينا ، حتى يخرج عنها ، كأثمان المشتريات ، وقيم المتلفات ، ومقادير الزكوات ، وفرائض الصلوات ، وما أشبه ذلك ; فلا إشكال في أن مثل هذا مترتب في ذمته دينا عليه .
والدليل على ذلك التحديد والتقدير ; فإنه مشعر بالقصد إلى أداء ذلك المعين ، فإذا لم يؤده فالخطاب باق عليه ، ولا يسقط عنه إلا بدليل .
وأما غير المحدودة فلازمة له ، وهو مطلوب بها ، غير أنها لا تترتب في ذمته ؛ لأمور :
أحدها : أنها لو ترتبت في ذمته لكانت محدودة معلومة ; إذ المجهول لا يترتب في الذمة ، ولا يعقل نسبته إليها ، فلا يصح أن يترتب دينا ، وبهذا استدللنا على عدم الترتب ; لأن هذه الحقوق مجهولة المقدار ، والتكليف بأداء ما لا يعرف له مقدار - تكليف بمتعذر الوقوع ، وهو ممتنع سمعا .
ومثاله : الصدقات المطلقة ، وسد الخلات ، ودفع حاجات المحتاجين ، وإغاثة الملهوفين ، وإنقاذ الغرقى ، والجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ويدخل تحته سائر فروض الكفايات .
[ ص: 248 ] فإذا قال الشارع :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=36وأطعموا القانع والمعتر [ الحج : 36 ] أو قال : " اكسوا العاري " أو
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=195وأنفقوا في سبيل الله [ البقرة : 195 ] ; فمعنى ذلك طلب رفع الحاجة في كل واقعة بحسبها من غير تعيين مقدار ، فإذا تعينت حاجة تبين مقدار ما يحتاج إليه فيها بالنظر لا بالنص ، فإذا تعين جائع فهو مأمور بإطعامه ، وسد خلته ، بمقتضى ذلك الإطلاق ; فإن أطعمه ما لا يرفع عنه الجوع فالطلب باق عليه ما لم يفعل من ذلك ما هو كاف ورافع للحاجة التي من أجلها أمر ابتداء ، والذي هو كاف يختلف باختلاف الساعات والحالات في ذلك المعين ; فقد يكون في الوقت غير مفرط الجوع ، فيحتاج إلى مقدار من الطعام ، فإذا تركه حتى أفرط عليه ; احتاج إلى أكثر منه ، وقد يطعمه آخر فيرتفع عنه الطلب رأسا ، [ وقد يطعمه آخر ما لا يكفيه ، فيطلب هذا بأقل مما كان مطلوبا به ] .
فإذا كان المكلف به يختلف باختلاف الأحوال والأزمان ، لم يستقر للترتيب في الذمة أمر معلوم يطلب ألبتة ، وهذا معنى كونه مجهولا ، فلا يكون معلوما إلا في الوقت الحاضر بحسب النظر لا بمقتضى النص ، فإذا زال الوقت الحاضر صار في الثاني مكلفا بشيء آخر لا بالأول ، أو سقط عنه التكليف إذا فرض ارتفاع الحاجة العارضة .
والثاني : أنه لو ترتب في ذمته أمر ; لخرج إلى ما لا يعقل لأنه في كل وقت
[ ص: 249 ] من أوقات حاجة المحتاج مكلف بسدها ، فإذا مضى وقت يسع سدها بمقدار معلوم مثلا ، ثم لم يفعل فترتب في ذمته ، ثم جاء زمان ثان وهو على حاله أو أشد ، فإما أن يقال : إنه مكلف أيضا بسدها أولا ، والثاني باطل ; إذ ليس هذا الثاني بأولى بالسقوط من الأول ; لأنه إنما كلف لأجل سد الخلة فيرتفع التكليف ، والخلة باقية ، هذا محال ; فلا بد أن يترتب في الذمة ثانيا مقدار ما تسد به الحاجة ذلك الوقت ، وحينئذ يترتب في ذمته في حق واحد - قيم كثيرة بعدد الأزمان الماضية ، وهذا غير معقول في الشرع .
والثالث : أن هذا يكون عينا أو كفاية ، وعلى كل تقدير يلزم إذا لم يقم به أحد أن يترتب إما في ذمة واحد غير معين ، وهو باطل لا يعقل ، وإما في ذمم جميع الخلق مقسطا ، فكذلك للجهل بمقدار ذلك القسط لكل واحد ، أو غير مقسط ، فيلزم فيما قيمته درهم أن يترتب في ذمم مائة ألف رجل مائة ألف درهم ، وهو باطل كما تقدم .
والرابع : لو ترتب في ذمته لكان عبثا ، ولا عبث في التشريع ; فإنه إذا كان المقصود دفع الحاجة ; فعمران الذمة ينافي هذا المقصد ; إذ المقصود إزالة هذا العارض ، لا غرم قيمة العارض ، فإذا كان الحكم بشغل الذمة منافيا لسبب الوجوب ; كان عبثا غير صحيح .
لا يقال : إنه لازم في الزكاة المفروضة وأشباهها ; إذ المقصود بها سد
[ ص: 250 ] الخلات ، وهي تترتب في الذمة .
لأنا نقول : نسلم أن المقصود ما ذكرت ، ولكن الحاجة التي تسد بالزكاة غير متعينة على الجملة ; ألا ترى أنها تؤدى اتفاقا وإن لم تظهر عين الحاجة ؟ فصارت كالحقوق الثابتة بمعاوضة أو هبة ، فللشرع قصد في تضمين المثل أو القيمة فيها ، بخلاف ما نحن فيه ; فإن الحاجة فيه متعينة فلا بد من إزالتها ، ولذلك لا يتعين لها مال زكاة من غيره ، بل بأي مال ارتفعت حصل المطلوب ، فالمال غير مطلوب لنفسه فيها ، فلو ارتفع العارض بغير شيء لسقط الوجوب ، والزكاة ونحوها لا بد من بذلها ، وإن كان محلها غير مضطر إليها في الوقت ، ولذلك عينت ، وعلى هذا الترتيب في بذل المال للحاجة يجري حكم سائر أنواع هذا القسم .
فإن قيل : لو كان الجهل مانعا من الترتب في الذمة ، لكان مانعا من أصل التكليف أيضا ; لأن
nindex.php?page=treesubj&link=20715العلم بالمكلف به شرط في التكليف ; إذ التكليف بالمجهول تكليف بما لا يطاق فلو قيل لأحد : أنفق مقدارا لا تعرفه أو صل صلوات لا تدري كم هي أو انصح من لا تدريه ولا تميزه ، وما أشبه ذلك ، لكان تكليفا بما لا يطاق ; إذ لا يمكن العلم بالمكلف به أبدا إلا بوحي ، وإذا علم بالوحي ; صار معلوما لا مجهولا ، والتكليف بالمعلوم صحيح ، هذا خلف .
فالجواب : أن الجهل المانع من أصل التكليف هو المتعلق بمعين عند الشارع ; كما لو قال : أعتق رقبة ، وهو يريد الرقبة الفلانية من غير بيان ، فهذا
[ ص: 251 ] هو الممتنع ، أما ما لم يتعين عند الشارع بحسب التكليف ؛ فالتكليف به صحيح ، كما صح في التخيير بين الخصال في الكفارة ; إذ ليس للشارع قصد في إحدى الخصال دون ما بقي ، فكذلك هنا إنما مقصود الشارع سد الخلات على الجملة ، فما لم يتعين فيه خلة فلا طلب ، فإذا تعينت وقع الطلب ، هذا هو المراد هنا ، وهو ممكن للمكلف مع نفي التعيين في مقدار ولا في غيره .
وهنا ضرب ثالث آخذ بشبه من الطرفين الأولين ; فلم يتمحض لأحدهما ، هو محل اجتهاد كالنفقة على الأقارب ، والزوجات ، ولأجل ما فيه من الشبه بالضربين ، اختلف الناس فيه : هل له ترتب في الذمة أم لا ؟ فإذا ترتب فلا يسقط بالإعسار ، فالضرب الأول لاحق بضروريات الدين ، ولذلك محض بالتقدير ، والتعيين ، والثاني لاحق بقاعدة التحسين ، والتزيين ، ولذلك وكل إلى اجتهاد المكلفين ، والثالث آخذ من الطرفين بسبب متين ; فلا بد فيه من النظر في كل واقعة على التعيين ، والله أعلم .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ
الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ عَلَى ضَرْبَيْنِ - كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ ; كَالصَّلَاةِ ، وَالصِّيَامِ ، وَالْحَجِّ ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالدُّيُونِ ، وَالنَّفَقَاتِ ، وَالنَّصِيحَةِ ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ - : أَحَدُهُمَا :
nindex.php?page=treesubj&link=20504حُقُوقٌ مَحْدُودَةٌ شَرْعًا .
[ ص: 247 ] وَالْآخَرُ
nindex.php?page=treesubj&link=20505حُقُوقٌ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ .
فَأَمَّا الْمَحْدُودَةُ الْمُقَدَّرَةُ ; فَلَازِمَةٌ لِذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهِ دَيْنًا ، حَتَّى يَخْرُجَ عَنْهَا ، كَأَثْمَانِ الْمُشْتَرَيَاتِ ، وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ ، وَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ ، وَفَرَائِضِ الصَّلَوَاتِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ; فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا مُتَرَتِّبٌ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ التَّحْدِيدُ وَالتَّقْدِيرُ ; فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِالْقَصْدِ إِلَى أَدَاءِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ ، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّهِ فَالْخِطَابُ بَاقٍ عَلَيْهِ ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ .
وَأَمَّا غَيْرُ الْمَحْدُودَةِ فَلَازِمَةٌ لَهُ ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ بِهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَتَرَتَّبُ فِي ذِمَّتِهِ ؛ لِأُمُورٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهَا لَوْ تَرَتَّبَتْ فِي ذِمَّتِهِ لَكَانَتْ مَحْدُودَةً مَعْلُومَةً ; إِذِ الْمَجْهُولُ لَا يَتَرَتَّبُ فِي الذِّمَّةِ ، وَلَا يُعْقَلُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهَا ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَرَتَّبَ دَيْنًا ، وَبِهَذَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَى عَدَمِ التَّرَتُّبِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ مَجْهُولَةُ الْمِقْدَارِ ، وَالتَّكْلِيفُ بِأَدَاءِ مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ مِقْدَارٌ - تَكْلِيفٌ بِمُتَعَذِّرِ الْوُقُوعِ ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ سَمْعًا .
وَمِثَالُهُ : الصَّدَقَاتُ الْمُطْلَقَةُ ، وَسَدُّ الْخَلَّاتِ ، وَدَفْعُ حَاجَاتِ الْمُحْتَاجِينَ ، وَإِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِينَ ، وَإِنْقَاذُ الْغَرْقَى ، وَالْجِهَادُ ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ سَائِرُ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ .
[ ص: 248 ] فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=36وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [ الْحَجِّ : 36 ] أَوْ قَالَ : " اكْسُوَا الْعَارِيَ " أَوْ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=195وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ : 195 ] ; فَمَعْنَى ذَلِكَ طَلَبُ رَفْعِ الْحَاجَةِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ بِحَسَبِهَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مِقْدَارٍ ، فَإِذَا تَعَيَّنَتْ حَاجَةٌ تَبَيَّنَ مِقْدَارُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهَا بِالنَّظَرِ لَا بِالنَّصِّ ، فَإِذَا تَعَيَّنَ جَائِعٌ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِطْعَامِهِ ، وَسَدِّ خَلَّتِهِ ، بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ ; فَإِنْ أَطْعَمَهُ مَا لَا يَرْفَعُ عَنْهُ الْجُوعَ فَالطَّلَبُ بَاقٍ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ كَافٍ وَرَافِعٌ لِلْحَاجَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا أُمِرَ ابْتِدَاءً ، وَالَّذِي هُوَ كَافٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السَّاعَاتِ وَالْحَالَاتِ فِي ذَلِكَ الْمَعَيَّنِ ; فَقَدْ يَكُونُ فِي الْوَقْتِ غَيْرَ مُفْرِطِ الْجُوعِ ، فَيَحْتَاجُ إِلَى مِقْدَارٍ مِنَ الطَّعَامِ ، فَإِذَا تَرَكَهُ حَتَّى أَفْرَطَ عَلَيْهِ ; احْتَاجَ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ ، وَقَدْ يُطْعِمُهُ آخَرُ فَيَرْتَفِعُ عَنْهُ الطَّلَبُ رَأْسًا ، [ وَقَدْ يُطْعِمُهُ آخَرُ مَا لَا يَكْفِيهِ ، فَيُطْلَبُ هَذَا بِأَقَلَّ مِمَّا كَانَ مَطْلُوبًا بِهِ ] .
فَإِذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ بِهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ ، لَمْ يَسْتَقِرَّ لِلتَّرْتِيبِ فِي الذِّمَّةِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ يُطْلَبُ أَلْبَتَّةَ ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ مَجْهُولًا ، فَلَا يَكُونُ مَعْلُومًا إِلَّا فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ بِحَسَبِ النَّظَرِ لَا بِمُقْتَضَى النَّصِّ ، فَإِذَا زَالَ الْوَقْتُ الْحَاضِرُ صَارَ فِي الثَّانِي مُكَلَّفًا بِشَيْءٍ آخَرَ لَا بِالْأَوَّلِ ، أَوْ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ إِذَا فُرِضَ ارْتِفَاعُ الْحَاجَةِ الْعَارِضَةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ أَمْرٌ ; لَخَرَجَ إِلَى مَا لَا يُعْقَلُ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ
[ ص: 249 ] مِنْ أَوْقَاتِ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِ مُكَلَّفٌ بِسَدِّهَا ، فَإِذَا مَضَى وَقْتٌ يَسَعُ سَدَّهَا بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مَثَلًا ، ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْ فَتَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ ، ثُمَّ جَاءَ زَمَانٌ ثَانٍ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ أَوْ أَشَدُّ ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُ مُكَلَّفٌ أَيْضًا بِسَدِّهَا أَوَّلًا ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ ; إِذْ لَيْسَ هَذَا الثَّانِي بِأَوْلَى بِالسُّقُوطِ مِنَ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا كُلِّفَ لِأَجْلِ سَدِّ الْخَلَّةِ فَيَرْتَفِعُ التَّكْلِيفُ ، وَالْخَلَّةُ بَاقِيَةٌ ، هَذَا مُحَالٌ ; فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَرَتَّبَ فِي الذِّمَّةِ ثَانِيًا مِقْدَارُ مَا تُسَدُّ بِهِ الْحَاجَةُ ذَلِكَ الْوَقْتَ ، وَحِينَئِذٍ يَتَرَتَّبُ فِي ذِمَّتِهِ فِي حَقٍّ وَاحِدٍ - قِيَمٌ كَثِيرَةٌ بِعَدَدِ الْأَزْمَانِ الْمَاضِيَةِ ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ فِي الشَّرْعِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا يَكُونُ عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يَلْزَمُ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَنْ يَتَرَتَّبَ إِمَّا فِي ذِمَّةِ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ ، وَهُوَ بَاطِلٌ لَا يُعْقَلُ ، وَإِمَّا فِي ذِمَمِ جَمِيعِ الْخَلْقِ مُقَسَّطًا ، فَكَذَلِكَ لِلْجَهْلِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ الْقِسْطِ لِكُلِّ وَاحِدٍ ، أَوْ غَيْرَ مُقَسَّطٍ ، فَيَلْزَمُ فِيمَا قِيمَتُهُ دِرْهَمٌ أَنْ يَتَرَتَّبَ فِي ذِمَمِ مِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالرَّابِعُ : لَوْ تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ لَكَانَ عَبَثًا ، وَلَا عَبَثَ فِي التَّشْرِيعِ ; فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ دَفْعَ الْحَاجَةِ ; فَعُمْرَانُ الذِّمَّةِ يُنَافِي هَذَا الْمَقْصِدَ ; إِذِ الْمَقْصُودُ إِزَالَةُ هَذَا الْعَارِضِ ، لَا غُرْمُ قِيمَةِ الْعَارِضِ ، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ بِشَغْلِ الذِّمَّةِ مُنَافِيًا لِسَبَبِ الْوُجُوبِ ; كَانَ عَبَثًا غَيْرَ صَحِيحٍ .
لَا يُقَالُ : إِنَّهُ لَازِمٌ فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَأَشْبَاهِهَا ; إِذِ الْمَقْصُودُ بِهَا سَدُّ
[ ص: 250 ] الْخَلَّاتِ ، وَهِيَ تَتَرَتَّبُ فِي الذِّمَّةِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مَا ذَكَرْتَ ، وَلَكِنِ الْحَاجَةُ الَّتِي تُسَدُّ بِالزَّكَاةِ غَيْرُ مُتَعَيِّنَةٍ عَلَى الْجُمْلَةِ ; أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُؤَدَّى اتِّفَاقًا وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ عَيْنُ الْحَاجَةِ ؟ فَصَارَتْ كَالْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ بِمُعَاوَضَةٍ أَوْ هِبَةٍ ، فَلِلشَّرْعِ قَصْدٌ فِي تَضْمِينِ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ فِيهَا ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ; فَإِنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ مُتَعَيِّنَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ إِزَالَتِهَا ، وَلِذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ لَهَا مَالُ زَكَاةٍ مِنْ غَيْرِهِ ، بَلْ بِأَيِّ مَالٍ ارْتَفَعَتْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ ، فَالْمَالُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ لِنَفْسِهِ فِيهَا ، فَلَوِ ارْتَفَعَ الْعَارِضُ بِغَيْرِ شَيْءٍ لَسَقَطَ الْوُجُوبُ ، وَالزَّكَاةُ وَنَحْوُهَا لَا بُدَّ مِنْ بَذْلِهَا ، وَإِنْ كَانَ مَحَلُّهَا غَيْرَ مُضْطَرٍّ إِلَيْهَا فِي الْوَقْتِ ، وَلِذَلِكَ عُيِّنَتْ ، وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فِي بَذْلِ الْمَالِ لِلْحَاجَةِ يَجْرِي حُكْمُ سَائِرِ أَنْوَاعِ هَذَا الْقِسْمِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الْجَهْلُ مَانِعًا مِنَ التَّرَتُّبِ فِي الذِّمَّةِ ، لَكَانَ مَانِعًا مِنْ أَصْلِ التَّكْلِيفِ أَيْضًا ; لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20715الْعِلْمَ بِالْمُكَلَّفِ بِهِ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ ; إِذِ التَّكْلِيفُ بِالْمَجْهُولِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ فَلَوْ قِيلَ لِأَحَدٍ : أَنْفِقْ مِقْدَارًا لَا تَعْرِفُهُ أَوْ صَلِّ صَلَوَاتٍ لَا تَدْرِي كَمْ هِيَ أَوِ انْصَحْ مَنْ لَا تَدْرِيهِ وَلَا تُمَيِّزُهُ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، لَكَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ ; إِذْ لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِالْمُكَلَّفِ بِهِ أَبَدًا إِلَّا بِوَحْيٍ ، وَإِذَا عُلِمَ بِالْوَحْيِ ; صَارَ مَعْلُومًا لَا مَجْهُولًا ، وَالتَّكْلِيفُ بِالْمَعْلُومِ صَحِيحٌ ، هَذَا خُلْفٌ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْجَهْلَ الْمَانِعَ مِنْ أَصْلِ التَّكْلِيفِ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِمُعَيَّنٍ عِنْدَ الشَّارِعِ ; كَمَا لَوْ قَالَ : أَعْتِقْ رَقَبَةً ، وَهُوَ يُرِيدُ الرَّقَبَةَ الْفُلَانِيَّةَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ ، فَهَذَا
[ ص: 251 ] هُوَ الْمُمْتَنَعُ ، أَمَّا مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عِنْدَ الشَّارِعِ بِحَسَبِ التَّكْلِيفِ ؛ فَالتَّكْلِيفُ بِهِ صَحِيحٌ ، كَمَا صَحَّ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْخِصَالِ فِي الْكَفَّارَةِ ; إِذْ لَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي إِحْدَى الْخِصَالِ دُونَ مَا بَقِيَ ، فَكَذَلِكَ هُنَا إِنَّمَا مَقْصُودُ الشَّارِعِ سَدُّ الْخَلَّاتِ عَلَى الْجُمْلَةِ ، فَمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ خَلَّةٌ فَلَا طَلَبَ ، فَإِذَا تَعَيَّنَتْ وَقَعَ الطَّلَبُ ، هَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا ، وَهُوَ مُمْكِنٌ لِلْمُكَلَّفِ مَعَ نَفْيِ التَّعْيِينِ فِي مِقْدَارٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ .
وَهُنَا ضَرْبٌ ثَالِثٌ آخِذٌ بِشِبْهٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ الْأَوَّلِينَ ; فَلَمْ يَتَمَحَّضْ لِأَحَدِهِمَا ، هُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ كَالنَّفَقَةِ عَلَى الْأَقَارِبِ ، وَالزَّوْجَاتِ ، وَلِأَجَلِّ مَا فِيهِ مِنَ الشَّبَهِ بِالضَّرْبَيْنِ ، اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ : هَلْ لَهُ تَرَتُّبٌ فِي الذِّمَّةِ أَمْ لَا ؟ فَإِذَا تَرَتَّبَ فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ ، فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ لَاحِقٌ بِضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ ، وَلِذَلِكَ مُحِضَ بِالتَّقْدِيرِ ، وَالتَّعْيِينِ ، وَالثَّانِي لَاحِقٌ بِقَاعِدَةِ التَّحْسِينِ ، وَالتَّزْيِينِ ، وَلِذَلِكَ وُكِلَ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُكَلَّفِينَ ، وَالثَّالِثُ آخِذٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ بِسَبَبٍ مَتِينٍ ; فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ النَّظَرِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ عَلَى التَّعْيِينِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .