[ ص: 299 ] المسألة الرابعة
وذلك أن من اجتمعت فيه
nindex.php?page=treesubj&link=22322شروط الانتصاب للفتوى على قسمين :
أحدهما : من كان منهم في أفعاله وأقواله وأحواله عند مقتضى فتواه ، فهو متصف بأوصاف العلم ، قائم معه مقام الامتثال التام ، حتى إذا أحببت الاقتداء به من غير سؤال أغناك عن السؤال في كثير من الأعمال ، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤخذ العلم من قوله ، وفعله ، وإقراره .
فهذا القسم إذا وجد ، فهو أولى ممن ليس كذلك ، وهو القسم الثاني ، وإن كان في أهل العدالة مبرزا ، لوجهين :
أحدهما : ما تقدم في موضعه من أن من هذا حاله ، فوعظه أبلغ ، وقوله أنفع ، وفتواه أوقع في القلوب ممن ليس كذلك ؛ لأنه الذي ظهرت ينابيع العلم عليه ، واستنارت كليته به ، وصار كلامه خارجا من صميم القلب ، والكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب ، ومن كان بهذه الصفة ، فهو من الذين قال الله فيهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=28إنما يخشى الله من عباده العلماء [ فاطر : 28 ] بخلاف من لم يكن كذلك ، فإنه وإن كان عدلا وصادقا وفاضلا لا يبلغ كلامه من القلوب هذه المبالغ ، حسبما حققته التجربة العادية .
والثاني : أن مطابقة الفعل القول شاهد لصدق ذلك القول ، كما تقدم بيانه أيضا ، فمن طابق فعله قوله صدقته القلوب ، وانقادت له بالطواعية النفوس ، بخلاف من لم يبلغ ذلك المقام ، وإن كان فضله ودينه معلوما ، ولكن التفاوت الحاصل في هذه المراتب مفيد زيادة الفائدة أو عدم زيادتها ، فمن زهد الناس في الفضول التي لا تقدح في العدالة ، وهو زاهد فيها ، وتارك لطلبها - فتزهيده أنفع
[ ص: 300 ] من تزهيد من زهد فيها وليس بتارك لها ، فإن ذلك مخالفة وإن كانت جائزة ، وفي مخالفة القول الفعل هنا ما يمنع من بلوغ مرتبة من طابق قوله فعله .
فإذا اختلف مراتب المفتين في هذه المطابقة ، فالراجح للمقلد اتباع من غلبت مطابقة قوله بفعله .
والمطابقة أو عدمها ينظر فيها بالنسبة إلى الأوامر والنواهي ، فإذا طابق فيهما فهو الكمال ، فإن تفاوت الأمر فيهما - أعني فيما عدا شروط العدالة - فالأرجح المطابقة في النواهي ، فإذا وجد مجتهدان أحدهما مثابر على ألا يرتكب منهيا عنه ، لكنه في الأوامر ليس كذلك ، والآخر مثابر على ألا يخالف مأمورا به ، لكنه في النواهي على غير ذلك - فالأول أرجح في الاتباع من الثاني ؛ لأن الأوامر والنواهي فيما عدا شروط العدالة إنما مطابقتها من المكملات ومحاسن العادات ، واجتناب النواهي آكد وأبلغ في القصد الشرعي من أوجه :
أحدها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=29450درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، وهو معنى يعتمد عليه أهل العلم .
والثاني : أن المناهي تمتثل بفعل واحد وهو الكف ، فللإنسان قدرة عليها في الجملة من غير مشقة ، وأما الأوامر فلا قدرة للبشر على فعل جميعها ، وإنما تتوارد على المكلف على البدل بحسب ما اقتضاه الترجيح ، فترك بعض الأوامر ليس بمخالفة على الإطلاق بخلاف فعل بعض النواهي ، فإنه مخالفة
[ ص: 301 ] في الجملة ، فترك النواهي أبلغ في تحقيق الموافقة .
الثالث : النقل ، فقد جاء في الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337964فإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم فجعل المناهي آكد في الاعتبار من الأوامر ، حيث حتم في المناهي من غير مثنوية ، ولم يحتم ذلك في الأوامر إلا مع التقييد بالاستطاعة ، وذلك إشعار بما نحن فيه من ترجيح مطابقة المناهي على مطابقة الأوامر .
[ ص: 299 ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
وَذَلِكَ أَنَّ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ
nindex.php?page=treesubj&link=22322شُرُوطُ الِانْتِصَابِ لِلْفَتْوَى عَلَى قِسْمَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ عِنْدَ مُقْتَضَى فَتْوَاهُ ، فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِأَوْصَافِ الْعِلْمِ ، قَائِمٌ مَعَهُ مَقَامَ الِامْتِثَالِ التَّامِّ ، حَتَّى إِذَا أَحْبَبْتَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ أَغْنَاكَ عَنِ السُّؤَالِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ قَوْلِهِ ، وَفِعْلِهِ ، وَإِقْرَارِهِ .
فَهَذَا الْقِسْمُ إِذَا وُجِدَ ، فَهُوَ أَوْلَى مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي ، وَإِنْ كَانَ فِي أَهْلِ الْعَدَالَةِ مُبْرِزًا ، لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : مَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ أَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ ، فَوَعْظُهُ أَبْلَغُ ، وَقَوْلُهُ أَنْفَعُ ، وَفَتْوَاهُ أَوْقَعُ فِي الْقُلُوبِ مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْعِلْمِ عَلَيْهِ ، وَاسْتَنَارَتْ كُلِّيَّتُهُ بِهِ ، وَصَارَ كَلَامُهُ خَارِجًا مِنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ ، وَالْكَلَامُ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْقَلْبِ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ ، وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=28إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [ فَاطِرٍ : 28 ] بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَدْلًا وَصَادِقًا وَفَاضِلًا لَا يَبْلُغُ كَلَامُهُ مِنَ الْقُلُوبِ هَذِهِ الْمَبَالِغَ ، حَسْبَمَا حَقَّقَتْهُ التَّجْرِبَةُ الْعَادِيَّةُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ مُطَابَقَةَ الْفِعْلِ الْقَوْلَ شَاهِدٌ لِصِدْقِ ذَلِكَ الْقَوْلِ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَيْضًا ، فَمَنْ طَابَقَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ صَدَّقَتْهُ الْقُلُوبُ ، وَانْقَادَتْ لَهُ بِالطَّوَاعِيَةِ النُّفُوسُ ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ الْمَقَامَ ، وَإِنْ كَانَ فَضْلُهُ وَدِينُهُ مَعْلُومًا ، وَلَكِنَّ التَّفَاوُتَ الْحَاصِلَ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ مُفِيدٌ زِيَادَةَ الْفَائِدَةِ أَوْ عَدَمِ زِيَادَتِهَا ، فَمَنْ زَهَّدَ النَّاسُ فِي الْفُضُولِ الَّتِي لَا تَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ ، وَهُوَ زَاهِدٌ فِيهَا ، وَتَارِكٌ لِطَلَبِهَا - فَتَزْهِيدُهُ أَنْفَعُ
[ ص: 300 ] مِنْ تَزْهِيدِ مَنْ زَهَّدَ فِيهَا وَلَيْسَ بِتَارِكٍ لَهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ وَإِنْ كَانَتْ جَائِزَةٌ ، وَفِي مُخَالَفَةِ الْقَوْلِ الْفِعْلَ هُنَا مَا يَمْنَعُ مِنْ بُلُوغِ مَرْتَبَةِ مِنْ طَابَقَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ .
فَإِذَا اخْتَلَفَ مَرَاتِبُ الْمُفْتِينَ فِي هَذِهِ الْمُطَابَقَةِ ، فَالرَّاجِحُ لِلْمُقَلِّدِ اتِّبَاعُ مَنْ غَلَبَتْ مُطَابَقَةُ قَوْلِهِ بِفِعْلِهِ .
وَالْمُطَابَقَةُ أَوْ عَدَمِهَا يُنْظَرُ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، فَإِذَا طَابَقَ فِيهِمَا فَهُوَ الْكَمَالُ ، فَإِنَّ تَفَاوَتَ الْأَمْرُ فِيهِمَا - أَعْنِي فِيمَا عَدَا شُرُوطِ الْعَدَالَةِ - فَالْأَرْجَحُ الْمُطَابَقَةُ فِي النَّوَاهِي ، فَإِذَا وُجِدَ مُجْتَهِدَانِ أَحَدُهُمَا مُثَابِرٌ عَلَى أَلَّا يَرْتَكِبَ مَنْهِيًّا عَنْهُ ، لَكِنَّهُ فِي الْأَوَامِرِ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَالْآخَرُ مُثَابِرٌ عَلَى أَلَّا يُخَالِفَ مَأْمُورًا بِهِ ، لَكِنَّهُ فِي النَّوَاهِي عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ - فَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ فِي الِاتِّبَاعِ مِنَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ فِيمَا عَدَا شُرُوطِ الْعَدَالَةِ إِنَّمَا مُطَابَقَتُهَا مِنَ الْمُكَمِّلَاتِ وَمَحَاسِنِ الْعَادَاتِ ، وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي آكَدُ وَأَبْلَغُ فِي الْقَصْدِ الشَّرْعِيِّ مَنْ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29450دَرْءَ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ ، وَهُوَ مَعْنًى يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَنَاهِيَ تَمْتَثِلُ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْكَفُّ ، فَلِلْإِنْسَانِ قُدْرَةٌ عَلَيْهَا فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ ، وَأَمَّا الْأَوَامِرُ فَلَا قُدْرَةَ لِلْبَشَرِ عَلَى فِعْلِ جَمِيعِهَا ، وَإِنَّمَا تَتَوَارَدُ عَلَى الْمُكَلَّفِ عَلَى الْبَدَلِ بِحَسْبِ مَا اقْتَضَاهُ التَّرْجِيحُ ، فَتَرْكُ بَعْضِ الْأَوَامِرِ لَيْسَ بِمُخَالَفَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِخِلَافِ فِعْلِ بَعْضِ النَّوَاهِي ، فَإِنَّهُ مُخَالَفَةٌ
[ ص: 301 ] فِي الْجُمْلَةِ ، فَتَرْكُ النَّوَاهِي أَبْلَغُ فِي تَحْقِيقِ الْمُوَافَقَةِ .
الثَّالِثُ : النَّقْلُ ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337964فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْتَهُوا ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَجَعَلَ الْمَنَاهِيَ آكَدُ فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الْأَوَامِرِ ، حَيْثُ حَتَّمَ فِي الْمَنَاهِي مِنْ غَيْرِ مَثْنَوِيَّةٍ ، وَلَمْ يُحَتِّمْ ذَلِكَ فِي الْأَوَامِرِ إِلَّا مَعَ التَّقْيِيدِ بِالِاسْتِطَاعَةِ ، وَذَلِكَ إِشْعَارٌ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ تَرْجِيحِ مُطَابَقَةِ الْمَنَاهِي عَلَى مُطَابَقَةِ الْأَوَامِرِ .