[ ص: 319 ] المسألة السادسة
قد تقدم أن لطالب العلم في طلبه أحوالا ثلاثة :
أما الحال الأول ،
nindex.php?page=treesubj&link=22312فلا يسوغ الاقتداء بأفعال صاحبه كما لا يقتدى بأقواله ؛ لأنه لم يبلغ درجة الاجتهاد بعد ، فإذا كان اجتهاده غير معتبر ، فالاقتداء به كذلك ؛ لأن أعماله إن كانت باجتهاد منه فهي ساقطة ، وإن كانت بتقليد فالواجب الرجوع في الاقتداء إلى مقلده أو إلى مجتهد آخر ، ولأنه عرضة لدخول العوارض عليه من حيث لا يعلم بها ، فيصير عمله مخالفا ، فلا يوثق بأن عمله صحيح ، فلا يمكن الاعتماد عليه .
وأما الحال الثالث ، فلا إشكال في صحة استفتائه ، ويجري الاقتداء بأفعاله على ما تقدم في المسألة قبلها .
وأما الحال الثاني ، فهو موضع إشكال بالنسبة إلى استفتائه ، وبالنسبة إلى الاقتداء بأفعاله ، فاستفتاؤه جار على النظر المتقدم في صحة اجتهاده أو عدم صحته .
وأما الاقتداء بأفعاله ، فإن قلنا بعدم صحة اجتهاده ، فلا يصح الاقتداء كصاحب الحال الأول ، وإن قلنا بصحة اجتهاده جرى الاقتداء بأفعاله على ما تقدم من التفصيل والنظر .
هذا إذا لم يكن في أعماله صاحب حال ، فإن كان صاحب حال وهو
[ ص: 320 ] ممن يستفتى ، فهل يصح الاقتداء به بناء على التفصيل المذكور أم لا ؟ وهل يصح استفتاؤه في كل شيء أم لا ؟
كل هذا مما ينظر فيه ، فأما الاقتداء بأفعاله حيث يصح الاقتداء بمن ليس بصاحب حال ، فإنه لا يليق إلا بمن هو ذو حال مثله ، وبيان ذلك أن أرباب الأحوال عاملون في أحوالهم على إسقاط الحظوظ ، بالغون غاية الجهد في أداء الحقوق ، إما لسائق الخوف ، أو لحادي الرجاء ، أو لحامل المحبة ، فحظوظهم العاجلة قد سقطت من أيديهم بأمر شاغل عن غير ما هم فيه ، فليس لهم عن الأعمال فترة ، ولا عن جد السير راحة ، فمن كان بهذا الوصف ، فكيف يقدر على الاقتداء به من هو طالب لحظوظه مشاح في استقصاء مباحاته ؟
وأيضا ، فإن الله تعالى سهل عليهم ما عسر على غيرهم ، وأيدهم بقوة منه على ما تحملوه من القيام بخدمته ، حتى صار الشاق على الناس غير شاق عليهم ، والثقيل على غيرهم خفيفا عليهم ، فكيف يقدر على الاقتداء بهم ضعيف المنة عن حمل تلك الأعباء ، أو مريض العزم في قطع مسافات النفس ، أو خامد الطلب لتلك المراتب العلية ، أو راض بالأوائل عن الغايات .
فكل هؤلاء لا طاقة لهم باتباع أرباب الأحوال ، وإن تطوقوا ذلك زمانا ، فعما قريب ينقطعون ، والمطلوب الدوام ، ولذلك قال النبي - عليه الصلاة والسلام - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337763خذوا من العمل ما تطيقون ، فإن الله لن يمل حتى تملوا .
[ ص: 321 ] وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337578أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل .
وأمر بالقصد في العمل وأنه مبلغ ، وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337968إن الله يحب الرفق في الأمر كله .
وكره العنف والتعمق والتكلف والتشديد ، خوفا من الانقطاع ، وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم [ الحجرات : 7 ] .
ورفع عنا الإصر الذي كان على الذين من قبلنا ، فإذا كان الاقتداء بأرباب الأحوال آيلا إلى مثل هذا الحال ، لم يلق أن ينتصبوا منصب الاقتداء ، وهم كذلك ، ولا أن يتخذهم غيرهم أئمة فيه ، اللهم إلا أن يكون صاحب حال مثلهم ، وغير مخوف عليه الانقطاع ، فإذ ذاك يسوغ الاقتداء بهم على ما ذكر من التفصيل ، وهذا المقام قد عرفه أهله ، وظهر لهم برهانه على أتم وجوهه .
وأما الاقتداء بأقواله إذا استفتي في المسائل ، فيحتمل تفصيلا ، وهو أنه لا يخلو إما أن يستفتى في شيء هو فيه صاحب حال أو لا ، فإن كان الأول جرى حكمه مجرى الاقتداء بأفعاله ، فإن نطقه في أحكام أحواله من جملة
[ ص: 322 ] أعماله ، والغالب فيه أنه يفتي بما يقتضيه حاله ، لا بما يقتضيه حال السائل ، وإن كان الثاني ساغ ذلك ؛ لأنه إذ ذاك كأنما يتكلم من أصل العلم لا من رأس الحال ؛ إذ ليس مأخوذا فيه .
[ ص: 319 ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لِطَالِبِ الْعِلْمِ فِي طَلَبِهِ أَحْوَالًا ثَلَاثَةً :
أَمَّا الْحَالُ الْأَوَّلُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=22312فَلَا يَسُوغُ الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِ صَاحِبِهِ كَمَا لَا يُقْتَدَى بِأَقْوَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ بَعْدُ ، فَإِذَا كَانَ اجْتِهَادُهُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ ، فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَعْمَالَهُ إِنْ كَانَتْ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ فَهِيَ سَاقِطَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ بِتَقْلِيدٍ فَالْوَاجِبُ الرُّجُوعُ فِي الِاقْتِدَاءِ إِلَى مُقَلِّدِهِ أَوْ إِلَى مُجْتَهِدٍ آخَرَ ، وَلِأَنَّهُ عُرْضَةٌ لِدُخُولِ الْعَوَارِضِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ بِهَا ، فَيَصِيرُ عَمَلُهُ مُخَالِفًا ، فَلَا يُوْثَقُ بِأَنَّ عَمَلَهُ صَحِيحٌ ، فَلَا يُمْكِنُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثُ ، فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّةِ اسْتِفْتَائِهِ ، وَيَجْرِي الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا .
وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِي ، فَهُوَ مَوْضِعُ إِشْكَالٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اسْتِفْتَائِهِ ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِهِ ، فَاسْتِفْتَاؤُهُ جَارٍ عَلَى النَّظَرِ الْمُتَقَدِّمِ فِي صِحَّةِ اجْتِهَادِهِ أَوْ عَدَمِ صِحَّتِهِ .
وَأَمَّا الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِهِ ، فَإِنْ قُلْنَا بِعَدَمِ صِحَّةِ اجْتِهَادِهِ ، فَلَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ كَصَاحِبِ الْحَالِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّةِ اجْتِهَادِهِ جَرَى الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّفْصِيلِ وَالنَّظَرِ .
هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَعْمَالِهِ صَاحِبَ حَالٍ ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ حَالٍ وَهُوَ
[ ص: 320 ] مِمَّنْ يُسْتَفْتَى ، فَهَلْ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ بِنَاءً عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَصِحُّ اسْتِفْتَاؤُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَمْ لَا ؟
كُلُّ هَذَا مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ ، فَأَمَّا الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِهِ حَيْثُ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ لَيْسَ بِصَاحِبِ حَالٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ هُوَ ذُو حَالٍ مِثْلُهُ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ أَرْبَابَ الْأَحْوَالِ عَامِلُونَ فِي أَحْوَالِهِمْ عَلَى إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ ، بَالِغُونَ غَايَةَ الْجُهْدِ فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ ، إِمَّا لِسَائِقِ الْخَوْفِ ، أَوْ لِحَادِي الرَّجَاءِ ، أَوْ لِحَامِلِ الْمَحَبَّةِ ، فَحُظُوظُهُمُ الْعَاجِلَةُ قَدْ سَقَطَتْ مِنْ أَيْدِيهِمْ بِأَمْرٍ شَاغِلٍ عَنْ غَيْرِ مَا هُمْ فِيهِ ، فَلَيْسَ لَهُمْ عَنِ الْأَعْمَالِ فَتْرَةٌ ، وَلَا عَنْ جِدِّ السَّيْرِ رَاحَةٌ ، فَمَنْ كَانَ بِهَذَا الْوَصْفِ ، فَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ مَنْ هُوَ طَالِبٌ لِحُظُوظِهِ مُشَاحٌّ فِي اسْتِقْصَاءِ مُبَاحَاتِهِ ؟
وَأَيْضًا ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَهَّلَ عَلَيْهِمْ مَا عَسُرَ عَلَى غَيْرِهِمْ ، وَأَيَّدَهُمْ بِقُوَّةٍ مِنْهُ عَلَى مَا تَحَمَّلُوهُ مِنَ الْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ ، حَتَّى صَارَ الشَّاقُّ عَلَى النَّاسِ غَيْرَ شَاقٍّ عَلَيْهِمْ ، وَالثَّقِيلُ عَلَى غَيْرِهِمْ خَفِيفًا عَلَيْهِمْ ، فَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ ضَعِيفُ الْمِنَّةِ عَنْ حَمْلِ تِلْكَ الْأَعْبَاءِ ، أَوْ مَرِيضُ الْعَزْمِ فِي قَطْعِ مَسَافَاتِ النَّفْسِ ، أَوْ خَامِدُ الطَّلَبِ لِتِلْكَ الْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ ، أَوْ رَاضٍ بِالْأَوَائِلِ عَنِ الْغَايَاتِ .
فَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِاتِّبَاعِ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ ، وَإِنْ تَطَوَّقُوا ذَلِكَ زَمَانًا ، فَعَمَّا قَرِيبٍ يَنْقَطِعُونَ ، وَالْمَطْلُوبُ الدَّوَامُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337763خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا .
[ ص: 321 ] وَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337578أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ .
وَأَمَرَ بِالْقَصْدِ فِي الْعَمَلِ وَأَنَّهُ مُبَلِّغٌ ، وَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337968إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ .
وَكَرِهَ الْعُنْفَ وَالتَّعَمُّقَ وَالتَّكَلُّفَ وَالتَّشْدِيدَ ، خَوْفًا مِنَ الِانْقِطَاعِ ، وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=7وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [ الْحُجُرَاتِ : 7 ] .
وَرَفَعَ عَنَّا الْإِصْرَ الَّذِي كَانَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ، فَإِذَا كَانَ الِاقْتِدَاءُ بِأَرْبَابِ الْأَحْوَالِ آيِلًا إِلَى مِثْلِ هَذَا الْحَالِ ، لَمْ يَلِقْ أَنْ يَنْتَصِبُوا مَنْصِبَ الِاقْتِدَاءِ ، وَهُمْ كَذَلِكَ ، وَلَا أَنْ يَتَّخِذَهُمْ غَيْرُهُمْ أَئِمَّةً فِيهِ ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حَالٍ مِثْلَهُمْ ، وَغَيْرَ مَخُوفٍ عَلَيْهِ الِانْقِطَاعُ ، فَإِذْ ذَاكَ يَسُوغُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ التَّفْصِيلِ ، وَهَذَا الْمَقَامُ قَدْ عَرَفَهُ أَهْلُهُ ، وَظَهَرَ لَهُمْ بُرْهَانُهُ عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِهِ .
وَأَمَّا الِاقْتِدَاءُ بِأَقْوَالِهِ إِذَا اسْتُفْتِيَ فِي الْمَسَائِلِ ، فَيَحْتَمِلُ تَفْصِيلًا ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُسْتَفْتَى فِي شَيْءٍ هُوَ فِيهِ صَاحِبُ حَالٍ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ جَرَى حُكْمُهُ مَجْرَى الِاقْتِدَاءِ بِأَفْعَالِهِ ، فَإِنَّ نُطْقَهُ فِي أَحْكَامِ أَحْوَالِهِ مِنْ جُمْلَةِ
[ ص: 322 ] أَعْمَالِهِ ، وَالْغَالِبُ فِيهِ أَنَّهُ يُفْتِي بِمَا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ ، لَا بِمَا يَقْتَضِيهِ حَالُ السَّائِلِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي سَاغَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ كَأَنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِنْ أَصْلِ الْعِلْمِ لَا مِنْ رَأْسِ الْحَالِ ؛ إِذْ لَيْسَ مَأْخُوذًا فِيهِ .