[ ص: 349 ] المسألة الثالثة
فنقول : لتعارض الأدلة في هذا الضرب صور :
إحداها :
nindex.php?page=treesubj&link=22435أن يكون في جهة كلية مع جهة جزئية تحتها ، كالكذب المحرم مع الكذب للإصلاح بين الزوجين ، وقتل المسلم المحرم مع القتل قصاصا أو بالزنى ، فهو إما أن يكون الجزئي رخصة في ذلك الكلي ، أو لا .
وعلى كل تقدير ، فقد مر في هذا الكتاب ما يقتبس منه الحكم تعارضا وترجيحا ، وذلك في كتاب الأحكام وكتاب الأدلة ، فلا فائدة في التكرار .
والثانية :
nindex.php?page=treesubj&link=22433أن يقع في جهتين جزئيتين ، كلتاهما داخلة تحت كلية واحدة ، كتعارض حديثين أو قياسين أو علامتين على جزئية واحدة ، وكثيرا ما يذكره الأصوليون في الضرب الأول الذي لا يمكن فيه الجمع ، ولكن وجه النظر فيه أن التعارض إذا ظهر ، فلا بد من أحد أمرين : إما الحكم على أحد الدليلين بالإهمال ، فيبقى الآخر هو المعمل لا غير ، وذلك لا يصح إلا مع
[ ص: 350 ] فرض إبطاله بكونه منسوخا ، أو تطريق غلط أو وهم في السند أو في المتن إن كان خبر آحاد ، أو كونه مظنونا يعارض مقطوعا به ، إلى غير ذلك من الوجوه القادحة في اعتبار ذلك الدليل ، وإذا فرض أحد هذه الأشياء لم يمكن فرض اجتماع الدليلين فيتعارضا ، وقد سلموا أن أحدهما إذا كان منسوخا لا يعد معارضا ، فكذلك ما في معناه ، فالحكم إذا للدليل الثابت عند المجتهد كما لو انفرد عن معارض من أصل ، والأمر الثاني : الحكم عليهما معا بالإعمال ، ويلزم من هذا ألا يتوارد الدليلان على محل التعارض من وجه واحد ؛ لأنه محال مع فرض إعمالهما فيه ، فإنما يتواردان من وجهين ، وإذ ذاك يرتفع التعارض ألبتة ، إلا أن هذا الإعمال تارة يرد على محل التعارض كما في مسألة العبد في رأي
مالك ، فإنه أعمل حكم الملك له من وجه ، وأهمل ذلك من وجه ، وتارة يخص أحد الدليلين ، فلا يتواردان على محل التعارض معا ، بل يعمل
[ ص: 351 ] في غيره ويهمل بالنسبة إليه لمعنى اقتضى ذلك ، ويدخل تحت هذا الوجه كل ما يستثنيه المجتهد صاحب النظر في تحقيق المناط الخاص المذكور في أول كتاب الاجتهاد ، وكذلك في فرض الكفاية المذكور في كتاب الأحكام .
والصورة الثالثة :
nindex.php?page=treesubj&link=22433أن يقع التعارض في جهتين جزئيتين لا تدخل إحداهما تحت الأخرى ، ولا ترجعان إلى كلية واحدة ، كالمكلف لا يجد ماء ولا تيمما ، فهو بين أن يترك مقتضى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=43وأقيموا الصلاة [ البقرة : 43 ] لمقتضى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=6إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا [ المائدة : 6 ] إلى آخرها ، أو يعكس ، فإن الصلاة راجعة إلى كلية من الضروريات ، والطهارة راجعة إلى كلية من التحسينيات على قول من قال بذلك ، أو معارضة :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=110وأقيموا الصلاة لقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره [ البقرة : 150 ] بالنسبة إلى من التبست عليه القبلة ، فالأصل أن الجزئي راجع في الترجيح إلى أصله الكلي ، فإن رجح الكلي فكذلك جزئيه ، أو لم يرجح فجزئيه مثله ؛ لأن الجزئي معتبر بكليه ، وقد ثبت
[ ص: 352 ] ترجيحه ، فكذلك يترجح جزئيه .
وأيضا ، فقد تقدم أن الجزئي خادم لكليه ، وليس الكلي بموجود في الخارج إلا في الجزئي ، فهو الحامل له ، حتى إذا انخرم ، فقد ينخرم الكلي ، فهذا إذا متضمن له ، فلو رجح غيره من الجزئيات غير الداخلة معه في كليه للزم ترجيح ذلك الغير على الكلي ، وقد فرضنا أن الكلي المفروض هو المقدم على الآخر ، فلا بد من تقديم جزئيه كذلك ، وقد انجر في هذه الصورة حكم الكليات الشاملة لهذه الجزئيات ، فلا حاجة إلى الكلام فيها مع أن أحكامها مقتبسة من كتاب المقاصد من هذا الكتاب ، والحمد لله .
والصورة الرابعة :
nindex.php?page=treesubj&link=22429أن يقع التعارض في كليين من نوع واحد ، وهذا في
[ ص: 353 ] ظاهره شنيع ، ولكنه في التحصيل صحيح .
ووجه شناعته أن الكليات الشرعية قد مر أنها قطعية لا مدخل فيها للظن ، وتعارض القطعيات محال .
وأما وجه الصحة فعلى ترتيب يمكن الجمع بينهما فيه إذا كان الموضوع له اعتباران ، فلا يكون تعارضا في الحقيقة ، وكذلك الجزئيان إذا دخلا تحت
[ ص: 354 ] كلي واحد وكان موضوعهما واحدا ، إلا أن له اعتبارين .
فالجزئيان أمثلتهما كثيرة ، وقد مر منها ومن الأمثلة الميل ونحوه في تحديد طلب الماء للطهور ، فقد يكون فيه مشقة بالنسبة إلى شخص فيباح له التيمم ، ولا يشق بالنسبة إلى آخر فيمنع من التيمم ، فقد تعارض على الميل دليلان ، لكن بالنسبة إلى شخصين ، وهكذا ركوب البحر يمنع منه بعض ، ويباح لبعض ، والزمان واحد لكن بالنسبة إلى ظن السلامة والغرق وأشباه ذلك .
وأما التعارض في الكليين على ذلك الاعتبار ، فلنذكر له مثالا عاما يقاس عليه ما سواه إن شاء الله .
وذلك أن الله تعالى وصف الدنيا بوصفين كالمتضادين :
[ ص: 355 ] وصف يقتضي ذمها وعدم الالتفات إليها وترك اعتبارها .
ووصف يقتضي مدحها والالتفات إليها وأخذ ما فيها بيد القبول ؛ لأنه شيء عظيم مهدى من ملك عظيم .
فالأول له وجهان :
أحدهما : أنها لا جدوى لها ، ولا محصول عندها ، ومن ذلك قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=20أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم الآية [ الحديد : 20 ] فأخبر أنها مثل اللعب واللهو الذي لا يوجد فيه شيء ، ولا نفع فيه إلا مجرد الحركات والسكنات التي لا طائل تحتها ولا فائدة وراءها .
وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=20وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [ الحديد : 20 ] فحصر فائدتها في الغرور المذموم العاقبة .
وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=64وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان [ العنكبوت : 64 ] .
وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=14زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=14ذلك متاع الحياة الدنيا [ آل عمران : 14 ] .
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=46المال والبنون زينة الحياة الدنيا [ الكهف : 46 ] إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 356 ] وكذلك الأحاديث في هذا المعنى كقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337969لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء .
[ ص: 357 ] وهي كثيرة جدا ، وعلى هذا المنوال نسج الزهاد ما نقل عنهم من ذم الدنيا وأنها لا شيء .
والثاني : أنها كالظل الزائل ، والحلم المنقطع ، ومن ذلك قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=24إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=24كأن لم تغن بالأمس [ يونس : 24 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=39إنما هذه الحياة الدنيا متاع [ غافر : 39 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=196لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=197متاع قليل الآية [ آل عمران : 196 - 197 ] .
[ ص: 358 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=45واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح [ الكهف : 45 ] .
وغير ذلك من الآيات المفهمة معنى الانقطاع والزوال وبذلك تصير كأن لم تكن ، والأحاديث في هذا أيضا كثيرة ، كقوله - عليه الصلاة والسلام - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337970ما لي وللدنيا ، ما أنا في الدنيا إلا كراكب قال تحت شجرة ثم راح وتركها .
[ ص: 359 ] [ ص: 360 ] وهو حادي الزهاد إلى الدار الباقية .
وأما الثاني من الوصفين ، فله وجهان أيضا :
أحدهما : ما فيها من الدلالة على وجود الصانع ووحدانيته وصفاته العلا ، وعلى الدار الآخرة ، كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=6أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج إلى :
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=11كذلك الخروج [ ق : 6 - 11 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=61أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا الآية [ النمل : 61 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=5يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة الآية إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=7وأن الله يبعث من في القبور [ الحج : 5 - 7 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=84قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=85سيقولون لله إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=91سبحان الله عما يصفون [ المؤمنون : 84 - 91 ] .
إلى غير ذلك من الآيات التي هي دلائل على العقائد ، وبراهين على التوحيد .
والثاني : أنها منن ونعم امتن الله بها على عباده ، وتعرف إليهم بها في
[ ص: 361 ] أثناء ذلك ، واعتبرها ودعا إليها بنصبها لهم وبثها فيهم ، كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=32الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=34وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ إبراهيم : 32 - 34 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=22الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم الآية [ البقرة : 22 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=10هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=18وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ النحل : 10 - 18 ] .
وفيها :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=81والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا الآية [ النحل : 81 ] .
وفي أول السورة :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=5والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون [ النحل : 5 ] .
ثم قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=6ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ثم قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=8والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة [ النحل : 6 - 8 ] فامتن تعالى هاهنا ، وعرف بنعم من جملتها الجمال والزينة ، وهو الذي ذم به الدنيا في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=20أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة [ الحديد : 20 ] .
إلى غير ذلك ، بل حين عرف بنعيم الآخرة امتن بأمثاله في الدنيا ، كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=28في سدر مخضود nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=29وطلح منضود nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=30وظل ممدود [ الواقعة : 28 - 30 ] .
[ ص: 362 ] وهو قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=81والله جعل لكم مما خلق ظلالا [ النحل : 81 ] .
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=25ولهم فيها أزواج مطهرة [ البقرة : 25 ] .
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=72والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا [ النحل : 72 ] .
وهو كثير ، حتى إنه قال في الجنة :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=15فيها أنهار من ماء غير آسن [ محمد : 15 ] إلى آخر أنواع الأنهار الأربعة .
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=65والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إلى أن قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=68وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69فيه شفاء للناس [ النحل : 65 - 69 ] .
وهو كثير أيضا ، ( وأيضا ) فأنزل الأحكام ، وشرع الحلال والحرام تخليصا لهذه النعم التي خلقها لنا من شوائب الكدرات الدنيويات والأخرويات .
وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=97من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [ النحل : 97 ] يعني في الدنيا :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=97ولنجزينهم أجرهم [ النحل : 97 ] يعني في الآخرة .
وقال حين امتن بالنعم :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=99انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه [ الأنعام : 99 ] :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=15كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور [ سبأ : 15 ] وقال في بعضها :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=14ولتبتغوا من فضله [ النحل : 14 ] .
فعد طلب الدنيا فضلا ، كما عد حب الإيمان ، وبغض الكفر فضلا .
[ ص: 363 ] والدلائل أكثر من الاستقصاء .
فاقتضى الوصف الأول المضادة للثاني ، فالوجه الأول من الوصف الأول يضاد هذا الوجه الأخير من الوصف الثاني ، وهو ظاهر ؛ لأن عدم اعتبارها ، وأنها مجرد لعب لا محصول له مضاد لكونها نعما وفضلا ، والوجه الثاني من الوصف الأول مضاد للأول من الوصف الثاني ؛ لأن كونها زائلة وظلا يتقلص عما قريب مضاد لكونها براهين على وجود الباري ووحدانيته ، واتصافه بصفات الكمال ، وعلى أن الآخرة حق ، فهي مرآة يرى فيها الحق في كل ما هو حق ، وهذا لا تنفصل الدنيا فيه من الآخرة ، بل هو في الدنيا لا يفنى ؛ لأنها إذا كانت موضوعة لأمر وهو العلم الذي تعطيه ، فذلك الأمر موجود فيها تحقيقه ، وهو لا يفنى ، وإن فني منها ما يظهر للحس ، وذلك المعنى ينتقل إلى الآخرة ، فتكون هنالك نعيما ، فالحاصل أن ما بث فيها من النعم التي وضعت عنوانا عليه - كجعل اللفظ دليلا على المعنى - فالمعنى باق وإن فني العنوان ، وذلك ضد كونها منقضية بإطلاق ، فالوصفان إذا متضادان ،
nindex.php?page=treesubj&link=28640والشريعة منزهة عن التضاد ، مبرأة عن الاختلاف ، فلزم من ذلك أن توارد الوصفين على جهتين مختلفتين ، أو حالتين متنافيتين ، بيانه أن لها نظرين :
أحدهما : نظر مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا من كونها متعرفا للحق ، ومستحقا لشكر الواضع لها ، بل إنما يعتبر فيها كونها عيشا ومقتنصا
[ ص: 364 ] للذات ، ومآلا للشهوات ، انتظاما في سلك البهائم ، فظاهر أنها من هذه الجهة قشر بلا لب ، ولعب بلا جد ، وباطل بلا حق ؛ لأن صاحب هذا النظر لم ينل منها إلا مأكولا ومشروبا وملبوسا ومنكوحا ومركوبا من غير زائد ، ثم يزول عن قريب ، فلا يبقى منه شيء ، فذلك كأضغاث الأحلام ، فكل ما وصفته الشريعة فيها على هذا الوجه حق ، وهو نظر الكفار الذين لم يبصروا منها إلا ما قال تعالى من أنها لعب ولهو وزينة وغير ذلك مما وصفها به ، ولذلك صارت أعمالهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=39كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا [ النور : 39 ] وفي الآية الأخرى :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=23وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ الفرقان : 23 ] .
والثاني : نظر غير مجرد من الحكمة التي وضعت لها الدنيا ، فظاهر أنها ملأى من المعارف والحكم ، مبثوث فيها من كل شيء خطير مما لا يقدر على تأدية شكر بعضه ، فإذا نظر إليها العاقل وجد كل شيء فيها نعمة يجب شكرها ، فانتدب إلى ذلك حسب قدرته وتهيئته ، وصار ذلك القشر محشوا لبا ، بل صار القشر نفسه لبا ؛ لأن الجميع نعم طالبة للعبد أن ينالها فيشكر لله بها وعليها ، والبرهان مشتمل على النتيجة بالقوة أو بالفعل ، فلا دق ولا جل في هذه الوجوه إلا والعقل عاجز عن بلوغ أدنى ما فيه من الحكم والنعم ، ومن هاهنا أخبر تعالى عن الدنيا بأنها جد وأنها حق ، كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=115أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا [ المؤمنون : 115 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=27وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا [ ص : 27 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=38وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=39ما خلقناهما إلا بالحق [ الدخان : 38 - 39 ] .
[ ص: 365 ] nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=8أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق [ الروم : 8 ] إلى غير ذلك .
ولأجل هذا صارت أعمال أهل هذا النظر معتبرة مثبتة حتى قيل :
nindex.php?page=tafseer&surano=95&ayano=6فلهم أجر غير ممنون [ التين : 6 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=97من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [ النحل : 97 ] .
فالدنيا من جهة النظر الأول مذمومة ، وليست بمذمومة من جهة النظر
[ ص: 366 ] الثاني ، بل هي محمودة ، فذمها بإطلاق لا يستقيم ، كما أن مدحها بإطلاق لا يستقيم ، والأخذ لها من الجهة الأولى مذموم ، يسمى أخذه رغبة في الدنيا ، وحبا في العاجلة ، وضده هو الزهد فيها ، وهو تركها من تلك الجهة ، ولا شك أن تركها من تلك الجهة مطلوب ، والأخذ لها من الجهة الثانية غير مذموم ، ولا يسمى أخذه رغبة فيها ، ولا الزهد فيها من هذه الجهة محمود ، بل يسمى سفها وكسلا وتبذيرا .
ومن هنا وجب الحجر على صاحب هذه الحالة شرعا ، ولأجله كان الصحابة طالبين لها ، مشتغلين بها ، عاملين فيها ؛ لأنها من هذه الجهة عون على شكر الله عليها ، وعلى اتخاذها مركبا للآخرة ، وهم كانوا أزهد الناس فيها ، وأورع الناس في كسبها ، فربما سمع أخبارهم في طلبها من يتوهم أنهم طالبون لها من الجهة الأولى ، لجهله بهذا الاعتبار ، وحاش لله من ذلك ، إنما طلبوها من الجهة الثانية ، فصار طلبهم لها من جملة عباداتهم ، كما أنهم تركوا طلبها من الجهة الأولى ، فكان ذلك أيضا من جملة عباداتهم رضي الله عنهم ، وألحقنا بهم ، وحشرنا معهم ، ووفقنا لما وفقهم له بمنه وكرمه .
فتأمل هذا الفصل ، فإن فيه رفع شبه كثيرة ترد على الناظر في الشريعة وفي أحوال أهلها ، وفيه رفع مغالط تعترض للسالكين لطريق الآخرة ، فيفهمون الزهد وترك الدنيا على غير وجهه ، كما يفهمون طلبها على غير وجهه ، فيمدحون ما لا يمدح شرعا ، ويذمون ما لا يذم شرعا .
وفيه أيضا من الفوائد فصل القضية بين المختلفين في مسألة الفقر والغنى ، وأن ليس الفقر أفضل من الغنى بإطلاق ، ولا الغنى أفضل بإطلاق ، بل الأمر في ذلك يتفصل ، فإن الغنى إذا أمال إلى إيثار العاجلة كان بالنسبة إلى
[ ص: 367 ] صاحبه مذموما ، وكان الفقر أفضل منه ، وإن أمال إلى إيثار الآجلة ، فإنفاقه في وجهه ، والاستعانة به على التزود للمعاد ، فهو أفضل من الفقر ، والله الموفق بفضله .
[ ص: 349 ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
فَنَقُولُ : لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا الضَّرْبِ صُوَرٌ :
إِحْدَاهَا :
nindex.php?page=treesubj&link=22435أَنْ يَكُونَ فِي جِهَةٍ كُلِّيَّةٍ مَعَ جِهَةٍ جُزْئِيَّةٍ تَحْتَهَا ، كَالْكَذِبِ الْمُحَرَّمِ مَعَ الْكَذِبِ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، وَقَتْلِ الْمُسْلِمِ الْمُحَرَّمِ مَعَ الْقَتْلِ قِصَاصًا أَوْ بِالزِّنَى ، فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْجُزْئِيُّ رُخْصَةً فِي ذَلِكَ الْكُلِّيِّ ، أَوْ لَا .
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ، فَقَدْ مَرَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَا يُقْتَبَسُ مِنْهُ الْحُكْمُ تَعَارُضًا وَتَرْجِيحًا ، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَكِتَابِ الْأَدِلَّةِ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّكْرَارِ .
وَالثَّانِيَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=22433أَنْ يَقَعَ فِي جِهَتَيْنِ جُزْئِيَّتَيْنِ ، كِلْتَاهُمَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ كُلِّيَّةٍ وَاحِدَةٍ ، كَتَعَارُضِ حَدِيثَيْنِ أَوْ قِيَاسَيْنِ أَوْ عَلَامَتَيْنِ عَلَى جُزْئِيَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَكَثِيرًا مَا يَذْكُرُهُ الْأُصُولِيُّونَ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْجَمْعُ ، وَلَكِنْ وَجْهُ النَّظَرِ فِيهِ أَنَّ التَّعَارُضَ إِذَا ظَهَرَ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا الْحُكْمُ عَلَى أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ بِالْإِهْمَالِ ، فَيَبْقَى الْآخَرُ هُوَ الْمُعْمَلُ لَا غَيْرَ ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مَعَ
[ ص: 350 ] فَرْضِ إِبْطَالِهِ بِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا ، أَوْ تَطْرِيقِ غَلَطٍ أَوْ وَهْمٍ فِي السَّنَدِ أَوْ فِي الْمَتْنِ إِنْ كَانَ خَبَرَ آحَادٍ ، أَوْ كَوْنِهِ مَظْنُونًا يُعَارِضُ مَقْطُوعًا بِهِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الْقَادِحَةِ فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ ، وَإِذَا فُرِضَ أَحَدُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ يُمْكِنْ فَرْضُ اجْتِمَاعِ الدَّلِيلَيْنِ فَيَتَعَارَضَا ، وَقَدْ سَلَّمُوا أَنَّ أَحَدَهُمَا إِذَا كَانَ مَنْسُوخًا لَا يُعَدُّ مُعَارِضًا ، فَكَذَلِكَ مَا فِي مَعْنَاهُ ، فَالْحُكْمُ إِذًا لِلدَّلِيلِ الثَّابِتِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ كَمَا لَوِ انْفَرَدَ عَنْ مُعَارِضٍ مِنْ أَصْلٍ ، وَالْأَمْرُ الثَّانِي : الْحُكْمُ عَلَيْهِمَا مَعًا بِالْإِعْمَالِ ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَلَّا يَتَوَارَدَ الدَّلِيلَانِ عَلَى مَحَلِّ التَّعَارُضِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ مَعَ فَرْضِ إِعْمَالِهِمَا فِيهِ ، فَإِنَّمَا يَتَوَارَدَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَإِذْ ذَاكَ يَرْتَفِعُ التَّعَارُضُ أَلْبَتَّةَ ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْإِعْمَالَ تَارَةً يَرِدُ عَلَى مَحَلِّ التَّعَارُضِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ فِي رَأْيِ
مَالِكٍ ، فَإِنَّهُ أَعْمَلَ حُكْمَ الْمِلْكِ لَهُ مِنْ وَجْهٍ ، وَأَهْمَلَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ ، وَتَارَةً يَخُصُّ أَحَدَ الدَّلِيلَيْنِ ، فَلَا يَتَوَارَدَانِ عَلَى مَحَلِّ التَّعَارُضِ مَعًا ، بَلْ يُعْمَلُ
[ ص: 351 ] فِي غَيْرِهِ وَيُهْمَلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لِمَعْنًى اقْتَضَى ذَلِكَ ، وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْوَجْهِ كُلُّ مَا يَسْتَثْنِيهِ الْمُجْتَهِدُ صَاحِبُ النَّظَرِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ الْخَاصِّ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الِاجْتِهَادِ ، وَكَذَلِكَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ الْمَذْكُورِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ .
وَالصُّورَةُ الثَّالِثَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=22433أَنْ يَقَعَ التَّعَارُضُ فِي جِهَتَيْنِ جُزْئِيَّتَيْنِ لَا تَدْخُلُ إِحْدَاهُمَا تَحْتَ الْأُخْرَى ، وَلَا تَرْجِعَانِ إِلَى كُلِّيَّةٍ وَاحِدَةٍ ، كَالْمُكَلَّفِ لَا يَجِدُ مَاءً وَلَا تَيَمُّمًا ، فَهُوَ بَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ مُقْتَضَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=43وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [ الْبَقَرَةِ : 43 ] لِمُقْتَضَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=6إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا [ الْمَائِدَةِ : 6 ] إِلَى آخِرِهَا ، أَوْ يَعْكِسُ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ رَاجِعَةٌ إِلَى كُلِّيَّةٍ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ ، وَالطَّهَارَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى كُلِّيَّةٍ مِنَ التَّحْسِينِيَّاتِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ ، أَوْ مُعَارَضَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=110وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ لِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=150وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [ الْبَقَرَةِ : 150 ] بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنِ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ ، فَالْأَصْلُ أَنَّ الْجُزْئِيَّ رَاجِعٌ فِي التَّرْجِيحِ إِلَى أَصْلِهِ الْكُلِّيِّ ، فَإِنْ رَجَحَ الْكُلِّيُّ فَكَذَلِكَ جُزْئِيُّهُ ، أَوْ لَمْ يَرْجَحْ فَجُزْئِيُّهُ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْجُزْئِيَّ مُعْتَبَرٌ بِكُلِّيِّهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ
[ ص: 352 ] تَرْجِيحُهُ ، فَكَذَلِكَ يَتَرَجَّحُ جُزْئِيُّهُ .
وَأَيْضًا ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْجُزْئِيَّ خَادِمٌ لِكُلِّيِّهِ ، وَلَيْسَ الْكُلِّيُّ بِمَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ إِلَّا فِي الْجُزْئِيِّ ، فَهُوَ الْحَامِلُ لَهُ ، حَتَّى إِذَا انْخَرَمَ ، فَقَدْ يَنْخَرِمُ الْكُلِّيُّ ، فَهَذَا إِذًا مُتَضَمِّنٌ لَهُ ، فَلَوْ رَجَحَ غَيْرُهُ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ غَيْرِ الدَّاخِلَةِ مَعَهُ فِي كُلِّيِّهِ لَلَزِمَ تَرْجِيحُ ذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَى الْكُلِّيِّ ، وَقَدْ فَرَضْنَا أَنَّ الْكُلِّيَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْآخَرِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ جُزْئِيِّهِ كَذَلِكَ ، وَقَدِ انْجَرَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ حُكْمُ الْكُلِّيَّاتِ الشَّامِلَةِ لِهَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْكَلَامِ فِيهَا مَعَ أَنَّ أَحْكَامَهَا مُقْتَبَسَةٌ مِنْ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
وَالصُّورَةُ الرَّابِعَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=22429أَنْ يَقَعَ التَّعَارُضُ فِي كُلِّيَّيْنِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ ، وَهَذَا فِي
[ ص: 353 ] ظَاهِرِهِ شَنِيعٌ ، وَلَكِنَّهُ فِي التَّحْصِيلِ صَحِيحٌ .
وَوَجْهُ شَنَاعَتِهِ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ الشَّرْعِيَّةَ قَدْ مَرَّ أَنَّهَا قَطْعِيَّةٌ لَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلظَّنِّ ، وَتَعَارُضُ الْقَطْعِيَّاتِ مُحَالٌ .
وَأَمَّا وَجْهُ الصِّحَّةِ فَعَلَى تَرْتِيبٍ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِيهِ إِذَا كَانَ الْمَوْضُوعُ لَهُ اعْتِبَارَانِ ، فَلَا يَكُونُ تَعَارُضًا فِي الْحَقِيقَةِ ، وَكَذَلِكَ الْجُزْئِيَّانِ إِذَا دَخَلَا تَحْتَ
[ ص: 354 ] كُلِّيٍّ وَاحِدٍ وَكَانَ مَوْضُوعُهُمَا وَاحِدًا ، إِلَّا أَنَّ لَهُ اعْتِبَارَيْنِ .
فَالْجُزْئِيَّانِ أَمْثِلَتُهُمَا كَثِيرَةٌ ، وَقَدْ مَرَّ مِنْهَا وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ الْمَيْلُ وَنَحْوُهُ فِي تَحْدِيدِ طَلَبِ الْمَاءِ لِلطُّهُورِ ، فَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَشَقَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصٍ فَيُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ ، وَلَا يَشُقُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى آخَرَ فَيُمْنَعُ مِنَ التَّيَمُّمِ ، فَقَدْ تَعَارَضَ عَلَى الْمَيْلِ دَلِيلَانِ ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصَيْنِ ، وَهَكَذَا رُكُوبُ الْبَحْرِ يُمْنَعُ مِنْهُ بَعْضٌ ، وَيُبَاحُ لِبَعْضٍ ، وَالزَّمَانُ وَاحِدٌ لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ظَنِّ السَّلَامَةِ وَالْغَرَقِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا التَّعَارُضُ فِي الْكُلِّيَّيْنِ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِبَارِ ، فَلْنَذْكُرْ لَهُ مِثَالًا عَامًّا يُقَاسُ عَلَيْهِ مَا سِوَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الدُّنْيَا بِوَصْفَيْنِ كَالْمُتَضَادَّيْنِ :
[ ص: 355 ] وَصْفٌ يَقْتَضِي ذَمَّهَا وَعَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا وَتَرْكَ اعْتِبَارِهَا .
وَوَصْفٌ يَقْتَضِي مَدْحَهَا وَالِالْتِفَاتَ إِلَيْهَا وَأَخْذَ مَا فِيهَا بِيَدِ الْقَبُولِ ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ مُهْدًى مِنْ مَلِكٍ عَظِيمٍ .
فَالْأَوَّلُ لَهُ وَجْهَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لَا جَدْوَى لَهَا ، وَلَا مَحْصُولَ عِنْدَهَا ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=20أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمُ الْآيَةَ [ الْحَدِيدِ : 20 ] فَأَخْبَرَ أَنَّهَا مِثْلُ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ، وَلَا نَفْعَ فِيهِ إِلَّا مُجَرَّدُ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ الَّتِي لَا طَائِلَ تَحْتَهَا وَلَا فَائِدَةَ وَرَاءَهَا .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=20وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [ الْحَدِيدِ : 20 ] فَحَصَرَ فَائِدَتَهَا فِي الْغُرُورِ الْمَذْمُومِ الْعَاقِبَةِ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=64وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [ الْعَنْكَبُوتِ : 64 ] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=14زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=14ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [ آلِ عِمْرَانَ : 14 ] .
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=46الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [ الْكَهْفِ : 46 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
[ ص: 356 ] وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337969لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ .
[ ص: 357 ] وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا ، وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ نَسَجَ الزُّهَّادُ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ ذَمِّ الدُّنْيَا وَأَنَّهَا لَا شَيْءَ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا كَالظِّلِّ الزَّائِلِ ، وَالْحُلْمِ الْمُنْقَطِعِ ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=24إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=24كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [ يُونُسَ : 24 ] .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=39إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ [ غَافِرٍ : 39 ] .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=196لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=197مَتَاعٌ قَلِيلٌ الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ : 196 - 197 ] .
[ ص: 358 ] وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=45وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [ الْكَهْفِ : 45 ] .
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُفْهِمَةِ مَعْنَى الِانْقِطَاعِ وَالزَّوَالِ وَبِذَلِكَ تَصِيرُ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ ، وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا أَيْضًا كَثِيرَةٌ ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337970مَا لِي وَلِلدُّنْيَا ، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ قَالَ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا .
[ ص: 359 ] [ ص: 360 ] وَهُوَ حَادِي الزُّهَّادِ إِلَى الدَّارِ الْبَاقِيَةِ .
وَأَمَّا الثَّانِي مِنَ الْوَصْفَيْنِ ، فَلَهُ وَجْهَانِ أَيْضًا :
أَحَدُهُمَا : مَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ الْعُلَا ، وَعَلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=6أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ إِلَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=11كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ ق : 6 - 11 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=61أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا الْآيَةَ [ النَّمْلِ : 61 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=5يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=7وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [ الْحَجِّ : 5 - 7 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=84قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=85سَيَقُولُونَ لِلَّهِ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=91سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ : 84 - 91 ] .
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ دَلَائِلُ عَلَى الْعَقَائِدِ ، وَبَرَاهِينُ عَلَى التَّوْحِيدِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا مِنَنٌ وَنِعَمٌ امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ ، وَتَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ بِهَا فِي
[ ص: 361 ] أَثْنَاءِ ذَلِكَ ، وَاعْتَبَرَهَا وَدَعَا إِلَيْهَا بِنَصْبِهَا لَهُمْ وَبَثِّهَا فِيهِمْ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=32اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=34وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [ إِبْرَاهِيمَ : 32 - 34 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=22الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمُ الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 22 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=10هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=18وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [ النَّحْلِ : 10 - 18 ] .
وَفِيهَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=81وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا الْآيَةَ [ النَّحْلِ : 81 ] .
وَفِي أَوَّلِ السُّورَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=5وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [ النَّحْلِ : 5 ] .
ثُمَّ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=6وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ثُمَّ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=8وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [ النَّحْلِ : 6 - 8 ] فَامْتَنَّ تَعَالَى هَاهُنَا ، وَعَرَّفَ بِنِعَمٍ مِنْ جُمْلَتِهَا الْجَمَالُ وَالزِّينَةُ ، وَهُوَ الَّذِي ذَمَّ بِهِ الدُّنْيَا فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=20أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ [ الْحَدِيدِ : 20 ] .
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، بَلْ حِينَ عَرَّفَ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ امْتَنَّ بِأَمْثَالِهِ فِي الدُّنْيَا ، كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=28فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=29وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=30وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [ الْوَاقِعَةِ : 28 - 30 ] .
[ ص: 362 ] وَهُوَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=81وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا [ النَّحْلِ : 81 ] .
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=25وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [ الْبَقَرَةِ : 25 ] .
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=72وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [ النَّحْلِ : 72 ] .
وَهُوَ كَثِيرٌ ، حَتَّى إِنَّهُ قَالَ فِي الْجَنَّةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=15فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [ مُحَمَّدٍ : 15 ] إِلَى آخِرِ أَنْوَاعِ الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ .
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=65وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِلَى أَنْ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=68وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ [ النَّحْلِ : 65 - 69 ] .
وَهُوَ كَثِيرٌ أَيْضًا ، ( وَأَيْضًا ) فَأَنْزَلَ الْأَحْكَامَ ، وَشَرَعَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ تَخْلِيصًا لِهَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي خَلَقَهَا لَنَا مِنْ شَوَائِبِ الْكُدُرَاتِ الدُّنْيَوِيَّاتِ وَالْأُخْرَوِيَّاتِ .
وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=97مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [ النَّحْلِ : 97 ] يَعْنِي فِي الدُّنْيَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=97وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ [ النَّحْلِ : 97 ] يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ .
وَقَالَ حِينَ امْتَنَّ بِالنِّعَمِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=99انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ [ الْأَنْعَامِ : 99 ] :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=15كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [ سَبَأٍ : 15 ] وَقَالَ فِي بَعْضِهَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=14وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [ النَّحْلِ : 14 ] .
فَعَدَّ طَلَبَ الدُّنْيَا فَضْلًا ، كَمَا عَدَّ حُبَّ الْإِيمَانِ ، وَبُغْضَ الْكُفْرِ فَضْلًا .
[ ص: 363 ] وَالدَّلَائِلُ أَكْثَرُ مِنَ الِاسْتِقْصَاءِ .
فَاقْتَضَى الْوَصْفُ الْأَوَّلُ الْمُضَادَّةَ لِلثَّانِي ، فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنَ الْوَصْفِ الْأَوَّلِ يُضَادُّ هَذَا الْوَجْهَ الْأَخِيرَ مِنَ الْوَصْفِ الثَّانِي ، وَهُوَ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ اعْتِبَارِهَا ، وَأَنَّهَا مُجَرَّدُ لَعِبٍ لَا مَحْصُولَ لَهُ مُضَادٌّ لِكَوْنِهَا نِعَمًا وَفَضْلًا ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ الْوَصْفِ الْأَوَّلِ مُضَادٌّ لِلْأَوَّلِ مِنَ الْوَصْفِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ كَوْنَهَا زَائِلَةً وَظِلًّا يَتَقَلَّصُ عَمَّا قَرِيبٍ مُضَادٌّ لِكَوْنِهَا بَرَاهِينَ عَلَى وُجُودِ الْبَارِي وَوَحْدَانِيَّتِهِ ، وَاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ ، وَعَلَى أَنَّ الْآخِرَةَ حَقٌّ ، فَهِيَ مِرْآةٌ يُرَى فِيهَا الْحَقُّ فِي كُلِّ مَا هُوَ حَقٌّ ، وَهَذَا لَا تَنْفَصِلُ الدُّنْيَا فِيهِ مِنَ الْآخِرَةِ ، بَلْ هُوَ فِي الدُّنْيَا لَا يَفْنَى ؛ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِأَمْرٍ وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي تُعْطِيهِ ، فَذَلِكَ الْأَمْرُ مَوْجُودٌ فِيهَا تَحْقِيقُهُ ، وَهُوَ لَا يَفْنَى ، وَإِنْ فَنِيَ مِنْهَا مَا يَظْهَرُ لِلْحِسِّ ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَنْتَقِلُ إِلَى الْآخِرَةِ ، فَتَكُونُ هُنَالِكَ نَعِيمًا ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا بُثَّ فِيهَا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي وُضِعَتْ عُنْوَانًا عَلَيْهِ - كَجَعْلِ اللَّفْظِ دَلِيلًا عَلَى الْمَعْنَى - فَالْمَعْنَى بَاقٍ وَإِنْ فَنِيَ الْعُنْوَانُ ، وَذَلِكَ ضِدُّ كَوْنِهَا مُنْقَضِيَةً بِإِطْلَاقٍ ، فَالْوَصْفَانِ إِذًا مُتَضَادَّانِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28640وَالشَّرِيعَةُ مُنَزَّهَةٌ عَنِ التَّضَادِّ ، مُبَرَّأَةٌ عَنِ الِاخْتِلَافِ ، فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَوَارُدَ الْوَصْفَيْنِ عَلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ، أَوْ حَالَتَيْنِ مُتَنَافِيَتَيْنِ ، بَيَانُهُ أَنَّ لَهَا نَظَرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : نَظَرٌ مُجَرَّدٌ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الدُّنْيَا مِنْ كَوْنِهَا مُتَعَرَّفًا لِلْحَقِّ ، وَمُسْتَحَقًّا لِشُكْرِ الْوَاضِعِ لَهَا ، بَلْ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهَا كَوْنُهَا عَيْشًا وَمُقْتَنَصًا
[ ص: 364 ] لِلَّذَّاتِ ، وَمَآلًا لِلشَّهَوَاتِ ، انْتِظَامًا فِي سِلْكِ الْبَهَائِمِ ، فَظَاهِرٌ أَنَّهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ قِشْرٌ بِلَا لُبٍّ ، وَلَعِبٌ بِلَا جِدٍّ ، وَبَاطِلٌ بِلَا حَقٍّ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ هَذَا النَّظَرِ لَمْ يَنَلْ مِنْهَا إِلَّا مَأْكُولًا وَمَشْرُوبًا وَمَلْبُوسًا وَمَنْكُوحًا وَمَرْكُوبًا مِنْ غَيْرِ زَائِدٍ ، ثُمَّ يَزُولُ عَنْ قَرِيبٍ ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ ، فَذَلِكَ كَأَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ ، فَكُلُّ مَا وَصَفَتْهُ الشَّرِيعَةُ فِيهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَقٌّ ، وَهُوَ نَظَرُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَمْ يُبْصِرُوا مِنْهَا إِلَّا مَا قَالَ تَعَالَى مِنْ أَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وَصَفَهَا بِهِ ، وَلِذَلِكَ صَارَتْ أَعْمَالُهُمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=39كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [ النُّورِ : 39 ] وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=23وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [ الْفُرْقَانِ : 23 ] .
وَالثَّانِي : نَظَرٌ غَيْرُ مُجَرَّدٍ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الدُّنْيَا ، فَظَاهِرٌ أَنَّهَا مَلْأَى مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْحِكَمِ ، مَبْثُوثٌ فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَطِيرٍ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَأْدِيَةِ شُكْرِ بَعْضِهِ ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا الْعَاقِلُ وَجَدَ كُلَّ شَيْءٍ فِيهَا نِعْمَةً يَجِبُ شُكْرُهَا ، فَانْتَدَبَ إِلَى ذَلِكَ حَسَبَ قُدْرَتِهِ وَتَهْيِئَتِهِ ، وَصَارَ ذَلِكَ الْقِشْرُ مَحْشُوًّا لُبًّا ، بَلْ صَارَ الْقِشْرُ نَفْسُهُ لُبًّا ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ نِعَمٌ طَالِبَةٌ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنَالَهَا فَيَشْكُرَ لِلَّهِ بِهَا وَعَلَيْهَا ، وَالْبُرْهَانُ مُشْتَمِلٌ عَلَى النَّتِيجَةِ بِالْقُوَّةِ أَوْ بِالْفِعْلِ ، فَلَا دِقَّ وَلَا جِلَّ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ إِلَّا وَالْعَقْلُ عَاجِزٌ عَنْ بُلُوغِ أَدْنَى مَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالنِّعَمِ ، وَمِنْ هَاهُنَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الدُّنْيَا بِأَنَّهَا جِدٌّ وَأَنَّهَا حَقٌّ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=115أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا [ الْمُؤْمِنُونَ : 115 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=27وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا [ ص : 27 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=38وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=39مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [ الدُّخَانِ : 38 - 39 ] .
[ ص: 365 ] nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=8أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [ الرُّومِ : 8 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
وَلِأَجْلِ هَذَا صَارَتْ أَعْمَالُ أَهْلِ هَذَا النَّظَرِ مُعْتَبَرَةٌ مُثْبَتَةٌ حَتَّى قِيلَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=95&ayano=6فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [ التِّينِ : 6 ] .
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=97مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مَنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلْنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [ النَّحْلِ : 97 ] .
فَالدُّنْيَا مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ الْأَوَّلِ مَذْمُومَةٌ ، وَلَيْسَتْ بِمَذْمُومَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ
[ ص: 366 ] الثَّانِي ، بَلْ هِيَ مَحْمُودَةٌ ، فَذَمُّهَا بِإِطْلَاقٍ لَا يَسْتَقِيمُ ، كَمَا أَنَّ مَدْحَهَا بِإِطْلَاقٍ لَا يَسْتَقِيمُ ، وَالْأَخْذُ لَهَا مِنَ الْجِهَةِ الْأُولَى مَذْمُومٌ ، يُسَمَّى أَخْذُهُ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا ، وَحُبًّا فِي الْعَاجِلَةِ ، وَضِدُّهُ هُوَ الزُّهْدُ فِيهَا ، وَهُوَ تَرْكُهَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَرْكَهَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مَطْلُوبٌ ، وَالْأَخْذُ لَهَا مِنَ الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ مَذْمُومٍ ، وَلَا يُسَمَّى أَخْذُهُ رَغْبَةً فِيهَا ، وَلَا الزُّهْدُ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مَحْمُودٌ ، بَلْ يُسَمَّى سَفَهًا وَكَسَلًا وَتَبْذِيرًا .
وَمِنْ هُنَا وَجَبَ الْحَجْرُ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْحَالَةِ شَرْعًا ، وَلِأَجْلِهِ كَانَ الصَّحَابَةُ طَالِبِينَ لَهَا ، مُشْتَغِلِينَ بِهَا ، عَامِلِينَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ عَوْنٌ عَلَى شُكْرِ اللَّهِ عَلَيْهَا ، وَعَلَى اتِّخَاذِهَا مَرْكَبًا لِلْآخِرَةِ ، وَهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ النَّاسِ فِيهَا ، وَأَوْرَعَ النَّاسِ فِي كَسْبِهَا ، فَرُبَّمَا سَمِعَ أَخْبَارَهُمْ فِي طَلَبِهَا مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُمْ طَالِبُونَ لَهَا مِنَ الْجِهَةِ الْأُولَى ، لِجَهْلِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ، وَحَاشَ لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ ، إِنَّمَا طَلَبُوهَا مِنَ الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ ، فَصَارَ طَلَبُهُمْ لَهَا مِنْ جُمْلَةِ عِبَادَاتِهِمْ ، كَمَا أَنَّهُمْ تَرَكُوا طَلَبَهَا مِنَ الْجِهَةِ الْأُولَى ، فَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ عِبَادَاتِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَأَلْحَقَنَا بِهِمْ ، وَحَشَرَنَا مَعَهُمْ ، وَوَفَّقَنَا لِمَا وَفَّقَهُمْ لَهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .
فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَصْلَ ، فَإِنَّ فِيهِ رَفْعَ شُبَهٍ كَثِيرَةٍ تَرِدُ عَلَى النَّاظِرِ فِي الشَّرِيعَةِ وَفِي أَحْوَالِ أَهْلِهَا ، وَفِيهِ رَفْعُ مَغَالِطَ تَعْتَرِضُ لِلسَّالِكِينَ لِطَرِيقِ الْآخِرَةِ ، فَيَفْهَمُونَ الزُّهْدَ وَتَرْكَ الدُّنْيَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ ، كَمَا يَفْهَمُونَ طَلَبَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ ، فَيَمْدَحُونَ مَا لَا يُمْدَحُ شَرْعًا ، وَيَذُمُّونَ مَا لَا يُذَمُّ شَرْعًا .
وَفِيهِ أَيْضًا مِنَ الْفَوَائِدِ فَصْلُ الْقَضِيَّةِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْفَقْرِ وَالْغِنَى ، وَأَنْ لَيْسَ الْفَقْرُ أَفْضَلَ مِنَ الْغِنَى بِإِطْلَاقٍ ، وَلَا الْغِنَى أَفْضَلَ بِإِطْلَاقٍ ، بَلِ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ يَتَفَصَّلُ ، فَإِنَّ الْغِنَى إِذَا أَمَالَ إِلَى إِيثَارِ الْعَاجِلَةِ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى
[ ص: 367 ] صَاحِبِهِ مَذْمُومًا ، وَكَانَ الْفَقْرُ أَفْضَلَ مِنْهُ ، وَإِنْ أَمَالَ إِلَى إِيثَارِ الْآجِلَةِ ، فَإِنْفَاقُهُ فِي وَجْهِهِ ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ عَلَى التَّزَوُّدِ لِلْمَعَادِ ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْفَقْرِ ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ بِفَضْلِهِ .