المسألة الثانية
، وإن صح التلازم بينهما عادة ، ومعنى ذلك أن الأسباب إذا تعلق بها حكم شرعي من إباحة أو ندب أو منع أو غيرها من أحكام التكليف فلا يلزم أن تتعلق تلك الأحكام بمسبباتها فإذا أمر بالسبب لم يستلزم الأمر بالمسبب ، وإذا نهي عنه لم يستلزم [ ص: 302 ] النهي عن المسبب ، وإذا خير فيه لم يلزم أن يخير في مسببه . مشروعية الأسباب لا تستلزم مشروعية المسببات
مثال ذلك : الأمر بالبيع مثلا ، لا يستلزم الأمر بإباحة الانتفاع بالمبيع ، والأمر بالنكاح لا يستلزم الأمر بحلية البضع ، والأمر بالقتل في القصاص لا يستلزم الأمر بإزهاق الروح ، والنهي عن القتل العدوان لا يستلزم النهي عن الإزهاق ، والنهي عن التردي في البئر لا يستلزم النهي عن تهتك المردى فيها ، والنهي عن جعل الثوب في النار لا يستلزم النهي عن نفس الإحراق ، ومن ذلك كثير .
والدليل على ذلك : ما ثبت في الكلام من أن الذي للمكلف تعاطي الأسباب ، وإنما المسببات من فعل الله ، وحكمه لا كسب فيه للمكلف ، وهذا يتبين في علم آخر ، والقرآن والسنة دالان عليه ، فمما يدل على ذلك ما يقتضي ضمان الرزق كقوله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] .
وقوله : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [ هود : 6 ] .
وقوله : وفي السماء رزقكم وما توعدون [ الذاريات : 22 ] إلى آخر الآية .
وقوله : ومن يتق الله يجعل له مخرجا الآية [ الطلاق : 2 ] .
إلى غير ذلك مما يدل على ضمان الرزق ، وليس المراد نفس التسبب [ ص: 303 ] إلى الرزق ، بل الرزق المتسبب إليه .
ولو كان المراد نفس التسبب لما كان المكلف مطلوبا بتكسب فيه على حال ، ولو بجعل اللقمة في الفم ومضغها أو ازدراع الحب أو التقاط النبات أو الثمرة المأكولة ، لكن ذلك باطل باتفاق ، فثبت أن المراد إنما هو عين المسبب إليه ، وفي الحديث : الحديث . لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير
[ ص: 304 ] وفيه : ففي هذا ونحوه بيان لما تقدم . اعقلها ، وتوكل
[ ص: 305 ] ومما يبينه قوله تعالى : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [ الواقعة : 58 - 59 ] .
أفرأيتم ما تحرثون [ الواقعة : 63 ] .
أفرأيتم الماء الذي تشربون [ الواقعة : 68 ] .
أفرأيتم النار التي تورون [ الواقعة : 71 ] .
[ ص: 306 ] وأتى على ذلك كله والله خلقكم وما تعملون [ الصافات : 96 ] .
الله خالق كل شيء [ الزمر : 62 ] .
وإنما جعل إليهم العمل ليجازوا عليه ، ثم الحكم فيه لله وحده .
واستقراء هذا المعنى من الشريعة مقطوع به ، وإذا كان كذلك ; دخلت الأسباب المكلف بها في مقتضى هذا العموم الذي دل عليه العقل والسمع ، فصارت الأسباب هي التي تعلقت بها مكاسب العباد دون المسببات ، فإذا لا يتعلق التكليف وخطابه إلا بمكتسب ، فخرجت المسببات عن خطاب التكليف ; لأنها ليست من مقدورهم ، ولو تعلق بها لكان تكليفا بما لا يطاق ، وهو غير واقع كما تبين في الأصول .
ولا يقال : إن الاستلزام موجود ، ألا ترى أن إباحة عقود البيوع والإجارات وغيرها تستلزم إباحة الانتفاع الخاص بكل واحد منها ، وإذا تعلق بها التحريم كبيع الربا والغرر والجهالة استلزم تحريم الانتفاع المسبب عنها ، وكما في التعدي والغصب والسرقة ونحوها ، والذكاة في الحيوان إذا كانت على وفق المشروع مباحة ، وتستلزم إباحة الانتفاع ، فإذا وقعت على غير المشروع كانت ممنوعة ، واستلزمت منع الانتفاع . . . إلى أشياء من هذا النحو كثيرة ; فكيف يقال : إن الأمر بالأسباب والنهي عنها ، لا يستلزم الأمر بالمسببات ، ولا النهي عنها ، [ ص: 307 ] وكذلك في الإباحة ؟
لأنا نقول : هذا كله لا يدل على الاستلزام من وجهين :
أحدهما : أن ما تقدم من الأمثلة أول المسألة قد دل على عدم الاستلزام ، وقام الدليل على ذلك ، فما جاء بخلافه فعلى حكم الاتفاق لا على حكم الالتزام .
الثاني : أن ما ذكر ليس فيه استلزام بدليل ظهوره في بعض تلك الأمثلة ، فقد يكون السبب مباحا والمسبب مأمور به ، فكما نقول في الانتفاع بالمبيع : إنه مباح ، نقول في النفقة عليه : إنها واجبة إذا كان حيوانا ، والنفقة من مسببات العقد المباح ، وكذلك حفظ الأموال المتملكة مسبب عن سبب مباح ، وهو مطلوب ، ومثل ذلك الذكاة ; فإنها لا توصف بالتحريم إذا وقعت في غير المأكول كالخنزير والسباع العادية والكلب ونحوها ، مع أن الانتفاع محرم في جميعها أو في بعضها ، ومكروه في البعض .
هذا في الأسباب المشروعة ، وأما الأسباب الممنوعة فأمرها أسهل ; لأن معنى تحريمها أنها في الشرع ليست بأسباب ، وإذا لم تكن أسبابا لم تكن لها مسببات ; فبقي المسبب عنها على أصلها من المنع ، لا أن المنع تسبب عن وقوع أسباب ممنوعة ، وهذا كله ظاهر ; فالأصل مطرد ، والقاعدة مستتبة . وبالله التوفيق .
[ ص: 308 ] وينبني على هذا الأصل :