الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        قال رحمه الله ( وللأب أن يرهن بدين عليه عبدا لطفله ) أي لولده الصغير ; لأنه يملك إيداعه ، وهذا نظر منه في حق الصبي ; لأن قيام المرتهن بحفظه ما بلغ مخافة الغرامة ، ولو هلك يهلك مضمونا الوديعة أمانة والوصي في هذا كالأب لما بينا وعن أبي يوسف وزفر أنهما لا يملكان ذلك وهو القياس ; لأن الرهن إيفاء حكما فلا يملكانه كالإيفاء حقيقة ، وجه الاستحسان وهو الظاهر أن في حقيقة الإيفاء إزالة ملك الصغير من غير عوض مقابلة بدين ، وفي الرهن نصب حافظا لمال الصغير في الحال مع بقاء ملكه فيه فافترقا وإذا جاز الرهن يصير المرتهن مستوفيا دينه عند هلاكه حكما ويصير الأب والوصي موفيا لدينه ويضمنان ذلك القدر للصغير ، وذكر في النهاية معزيا إلى التمرتاشي وهو إلى الكاكي أن قيمة الرهن إذا كانت أكثر من الدين يضمن الأب بقدر الدين والوصي بقدر القيمة ; لأن للأب أن ينتفع بمال الصبي ولا كذلك الوصي ، ثم قال وذكر في الذخيرة والمغني التسوية بينهما في الحكم ، وقال لا يضمنان الفضل ; لأنه أمانة وهو وديعة عند المرتهن ولهما ولاية الإيداع ، وكذا لو سلطا المرتهن على البيع ; لأنه توكيل على بيعه وهما يملكانه ، ثم إذا أخذ المرتهن الثمن بدينه وجب عليهما مثله ; لأنهما أوفيا دينهما بماله .

                                                                                        وأصل هذه المسألة البيع ، فإن الأب والوصي إذا باع مال الصغير من غريم نفسه تقع المقاصة ويضمنه للصبي عندهما وعند أبي يوسف لا تقع المقاصة فيأخذ البائع الثمن من المشتري للصغير ويأخذ المشتري دينه من البائع وعلى هذا الخلاف الوكيل بالبيع إذا باعه من غريم نفسه تقع المقاصة بنفس البيع عندهما ويضمن الوكيل المال للموكل وعنده لا يقع وإذا كان من أصله لا يملك قضاء دين نفسه بمال الصبي بطريق البيع فكذا لا يملك بطريق الرهن وعندهما لما ملك بطريق البيع فكذا لا يملك بطريق الرهن أيضا ; لأن الرهن نظير البيع من حيث وجود المبادلة لوجوب الضمان على المرتهن كوجوب الثمن على المشتري وإذا كان للأب أو لابنه الصغير أو لعبده المأذون له في التجارة ولا دين عليه دين على ابن له صغير فرهن الأب متاع ابنه الصغير من ابنه الصغير أو من عبده التاجر جاز ; لأن الأب لوجود شفقته نزل منزلة شخصين وأقيمت عبارته مقام عبارتين كما في بيعه مال الصغير من نفسه ، ولو فعل الوصي ذلك والمسألة بحالها لا يجوز ; لأنه وكيل محض ، والأصل أن الواحد لا يتولى طرفي العقد في الرهن ولا البيع لكنا تركنا ذلك في الأب لما ذكرنا ، وليس الوصي كالأب ، فإن [ ص: 281 ] شفقته قاصرة فلا يعدل عن الحقيقة والرهن من ابنه الصغير ومن عبده التاجر بمنزلة الرهن من نفسه فلا يجوز بخلاف ابنه الكبير وأبيه وعبده الذي عليه دين حيث يجوز رهنه منهم ; لأنه أجنبي عنهم إذ لا ولاية له عليهم بخلاف الوكيل بالبيع حيث لا يجوز بيعه منهم ; لأنه متهم فيهم ولا تهمة في الرهن ; لأن له حكما واحدا وهو أن يكون مضمونا بالأقل من قيمته ومن الدين وذلك لا يختلف عن الأجنبي والقريب .

                                                                                        ولو رهن الوصي مال اليتيم عند الأجنبي بنجارة بأسرها أو رهن اليتيم بدين لزمه بالتجارة صح ; لأن الصلح له التجارة تمييزا لماله فلا يجد بدا من الرهن ; لأنه إيفاء واستيفاء ، ولو رهن الأب متاع الصغير فبلغ الابن ومات الأب فليس للابن أن يسترده حتى يقضي الدين ; لأن تصرف الأب عليه نافذ لازم له بمنزلة تصرفه بنفسه بعد البلوغ ، ولو كان على الأب دين لرجل فرهن به مال الصغير فقضاه الابن بعد البلوغ رجع به في مال الأب ; لأنه مضطر إليه لحاجة الانتفاع بماله فأشبه معير الرهن ، وكذلك إذا هلك قبل أن يفتكه ; لأن الأب يصير قاضيا دينه به ، ولو رهن الأب مال الصغير بدين على نفسه وبدين الصغير جاز لاشتماله على أمرين جائزين ; لأن كل ما جاز أن يثبت لكل واحد من أجزاء المركب جاز أن يثبت للكل دون العكس هكذا قال في العناية أقول : في هذه الكلية منع ظاهر ، ألا ترى أن إنسانا أو فرسا يطيق أن يحمل كل واحد من أجزاء البيت المركب من الأحجار والأشجار مثلا ولا يطيق تحمل الكل قطعا وأن رجلا شجاعا يطيق مقاتلة كل واحد من آحاد العسكر على الانفراد ولا يطيق مقاتلة مجموع العسكر معا ، وهذا في الأمور الخارجية .

                                                                                        وأما في الأحكام الشرعية فكما أن يجوز للرجل أن يجامع كل واحدة من الأختين منفردة عن الأخرى بملك نكاح أو ملك يمين ولا يجوز أن يجامعهما معا ، ثم حكمه في حصة دين الأب كحكمه فيما لو كان كله رهنا بدين الأب ، وكذلك الوصي والجد أب الأب ، ولو رهن الوصي متاعا لليتيم في دين استدانه عليه وقبضه المرتهن ، ثم استعاره الوصي لحاجة اليتيم فضاع في يد الوصي هلك من مال اليتيم ; لأن فعل الوصي كفعله بنفسه بعد البلوغ ; لأنه استعير لحاجة الصغير فلا يكون متعديا بذلك ، ولو هلك الرهن في يد الوصي لا يسقط من الدين شيء لخروجه عن ضمان المرتهن بالاسترداد والوصي هو الذي يطالب له على ما كان ، ولو استعاره لحاجة نفسه ضمنه للصغير ; لأنه متعد فيه لعدم ولاية الاستعمال في حاجة نفسه ، ولو غصبه الوصي بعد ما رهنه فاستعمله في حاجة نفسه حتى هلك عنده ضمن قيمته ; لأنه متعد في حق المرتهن بالغصب والاستعمال في حاجة نفسه فيقضي بضمان الدين ، فإن فضل شيء من القدر المضمون كان لليتيم ; لأنه بدل ملكه ، وإن لم يف بالدين يقضى من مال اليتيم ; لأن الدين عليه وإنما يضمن الوصي بقدر ما تعدى فيه ، وإن كان الدين مؤجلا فالقيمة رهن ، فإذا حل كان ما ذكرنا ، ولو أنه غصبه واستعمله لحاجة الصغير ضمنه لحق المرتهن لا لحق الصغير ; لأن استعماله في حاجة الصغير ليس يتعدد في حقه .

                                                                                        وكذا الأخذ ; لأن له ولاية أخذ مال اليتيم ولهذا إذا أقر الأب أو الوصي بغصب مال الصغير لا يلزمه شيء ; لأنه لا يتصور غصبه لمال اليتيم لما أن له ولاية الأخذ ، فإذا هلك في يده يضمن للمرتهن فيأخذه بدينه إن كان قد حل ويرجع الوصي على الصغير ; لأنه ليس بمتعد في حقه بل هو عامل له ، وإن كان لم يحل يكون رهنا عند المرتهن ، ثم إذا حل الدين يأخذه به ويرجع الوصي على الصبي لما ذكرنا قال في المحيط رهن الوارث الكبير شيئا من التركة ، وليس على الميت دين جاز ; لأنه يجوز بيعه فيجوز رهنه ، وإن رد عليه سلعة باعها الميت بعيب فهلكت في أيديهم ولا مال له غير المرهون فالرهن جائز وصيا كان أو وارثا ويرجع به الوصي على اليتيم ; لأن الدين إنما وجب على الميت بعد الرد ، ولم يكن واجبا عند الرهن فصح الرهن فلا يبطل حق المرتهن للحوق الدين في التركة بسبب الرد لكن الراهن ضامن لقيمة الرهن ; لأنه وجب قضاء الدين من ذلك المال ولكنه عجز عن القضاء بسبب رهنه بدينه فصار كالمتلف له فلزمه قيمته كرهن حق صاحب الدين وهو محل قضائه إلا أنه إن كان وصيا يرجع على الصغير ; لأنه كان عاملا له ، وقد لحقه ضمان بسبب عمله .

                                                                                        وكذلك لو زوج الميت أمته وأخذ مهرها فأعتقها الوارث بعد موته قبل الدخول بها فاختارت نفسها وصار المهر دينا في مال الميت جاز الرهن ; لأن هذا الدين الذي ثبت على الميت بعد الرهن ; لأنه ثبت ببطلان النكاح بعد الرهن عند الاختيار والابن ضامن له ; لأنه [ ص: 282 ] بالإعتاق أتلف حق الغريم وهو الزوج ، ولو استحق عبد ابتاعه الميت فرجع المشتري في ميراث الميت بالدين لم يجز الرهن ; لأنه ظهر أن الرهن وقع وعلى الميت دين ; لأنه ظهر أن ما قبض الميت من الثمن كان دينا عليه للمشتري ; لأنه لم يجب له على المشتري مثل ذلك .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        الخدمات العلمية