الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم قال - تعالى - : ( ولله المشرق والمغرب ) ، ذهب المفسر ( الجلال ) إلى أن المراد بالمشرق والمغرب الأرض كلها ؛ لأنهما ناحيتاها ، وقال في قوله : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) أي أي مكان تستقبلونه في صلاتكم فهناك وجه القبلة التي أمر الله بأن يتوجه إليها . ووجه الأستاذ الإمام هذا بقوله : إن من شأن العابد أن يستقبل وجه المعبود ، ولما كان سبحانه منزها عن [ ص: 358 ] المادة والجهة واستقباله بهذا المعنى مستحيلا ، شرع للناس مكانا مخصوصا يستقبلونه في عبادتهم إياه . وجعل استقبال ذلك المكان كاستقبال وجهه - تعالى . ثم قال :

                          هذه الآية متصلة بما قبلها وهو قوله - تعالى - : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله ) . . . إلخ ، وأكثر المفسرين على خلاف ما قال ( الجلال ) في تفسير المشرق والمغرب ، قالوا : إن المراد بهما الجهتان المعلومتان لكل أحد ؛ ولذلك خصهما بالذكر ، فهو كقوله - تعالى - : ( رب المشرقين ورب المغربين ) ( 55 : 17 ) وهو يستلزم ما قاله ( الجلال ) ، فإن المراد على كل حال : أية جهة استقبلت وتوجهت إليها في صلاتك فأنت متوجه إلى الله - تعالى - ؛ لأن كل الجهات له ( إن الله واسع ) لا يتحدد ولا يحصر ، فيصح أن يتوجه إليه في كل مكان ، ( عليم ) بالمتوجه إليه أينما كان ، أي فاعبد الله حيثما كنت ، وتوجه إليه أينما حللت ، ولا تتقيد بالأمكنة ، فإن معبودك غير مقيد .

                          أقول : بل هو فوق كل شيء بائنا منه .

                          وأزيد على ذلك أن بعض رواة المأثور قالوا : إن هذه الآية نزلت قبل الأمر بالتوجه إلى قبلة معينة . وقال آخرون : إنها نزلت في تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة ، ولكن هذا فيه آيات مفصلة ستأتي في أول الجزء الثاني من هذه السورة ، وقال بعضهم : إنها نزلت في صلاة تطوع في السفر لا يشترط فيها استقبال القبلة . وقال آخرون : إنها فيمن يجتهدون في القبلة فيخطئون فإن صلاتهم صحيحة ؛ لأن إيجاب استقبال جهة معينة إنما هو للمعنى الاجتماعي في الصلاة ووحدة الأمة فيها ، والتعليل يصح في كل قول من هذه الأقوال ، فإنه أينما توجه المصلي في صلاته الصحيحة فهو متوجه إلى الله - تعالى - لا يقصد بصلاته غيره ، وهو - تعالى - مقبل عليه راض عنه ، ومن المعلوم أن أهل الكتاب يلتزمون في صلاتهم جهة معينة كالتزام النصارى جهة المشرق ، وأن استقبال المسلمين الكعبة يقتضي أن يصلي أهل كل قطر إلى جهة من الجهات الأربع فهم يصلون إلى جميع الجهات ، ولا ينافي ذلك توجههم إلى الله - تعالى - ، والوجه هنا قيل : إنه بمعنى الجهة وهو صحيح لغة ، والمعنى : فهناك القبلة التي يرضاها لكم . وقيل : إنه على حد ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) ( 58 : 7 ) .

                          ووجه المناسبة والاتصال بين هذه الآية وما قبلها ظاهر على هذا التفسير ، فإن فيها إبطال ما كان عليه أهل الملل السابقة من اعتقاد أن العبادة لله - تعالى - لا يصح أن تكون إلا في الهيكل والمعبد المخصوص ، وفي إبطال هذا إزالة ما عساه يتوهم من وعيد من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه من أنه وعيد على إبطال العبادة في المواضع المخصوصة ؛ لأنه إبطال لها بالمرة ، إذ لا تصح إلا في تلك المواضع ، فهذه الآية تنفي ذلك التوهم من حيث تثبت لنا قاعدة من أهم قواعد الاعتقاد ، وهي أن الله - تعالى - لا تحدده الجهات ، ولا تحصره الأمكنة ، ولا يتقرب إليه بالبقاع [ ص: 359 ] والمعاهد ، ولا تنحصر عبادته في الهياكل والمساجد ، وإنما ذلك الوعيد لانتهاك حرمات الله وإبطال نوع من أنواع عبادته ، وهو العبادة الاجتماعية التي يجتمع لها الناس في أشرف المعاهد على خير الأعمال التي تطهر نفوسهم وتهذب أخلاقهم .

                          وهذا الضرب من البيان مما امتاز به القرآن على سائر الكلام ، فإنك لترى فيه فنونا من الاستدراك والاحتراس قد جاءت في خلال القصص وسياق الأحكام ، تقرأ الآية في حكم من الأحكام ، أو عظة من المواعظ ، أو واقعة تاريخية فيها عبرة من العبر ، فتراها مستقلة بالبيان ، ولكنها باتصالها بما قبلها قد أزالت وهما أو تممت حكما ، وكان ينبغي لأهل العربية أن يقتبسوا هذه الضروب من البيان ، ويتوسعوا بها في أساليب الكلام ، فإن القرآن قد أطلق لهم اللغة من عقالها ، وعلمهم من الأساليب الرفيعة ما كانت تستحليه أذواقهم ، وتنفعل له قلوبهم ، وتهتز له نفوسهم ، وتتحرك به أريحيتهم ، ولكنهم لم يوفقوا لاقتباس هذه الأساليب الجديدة ، على أن ملكتهم في حسن البيان ، قد ارتفعت بعد نزول القرآن .

                          ( قال الأستاذ الإمام ) : وسنعطي هذا الموضوع حقه من البيان في موضع تكون مناسبته أقوى من هذه المناسبة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية