الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم بين تعالى حقيقة ما يغر الناس من الحياة الدنيا وهو التمتع الخاص بها ، والمقابلة [ ص: 303 ] بين ذلك وبين حظ المتقين لله فيها من الدار الآخرة ، إثر بيان ما يلقاه أولئك المفتونون بالأولى عندما يصيرون إلى الثانية التي كانوا يكذبون بها فقال :

                          ( وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ) اللعب : هو الفعل الذي لا يقصد به فاعله مقصدا صحيحا من تحصيل منفعة أو دفع مضرة ، كأفعال الأولاد الصغار التي يتلذذون بها لذاتها ، فما يعالجونه من كسر حبة بقل أو إزالة غشاء عن قطعة حلوى لأجل أكلها لا يسمى لعبا ، واللهو : ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه ، ويعبر عن كل ما به استمتاع باللهو ، كذا قال الراغب ، وفي اللسان : اللهو ما لهوت به ، ولعبت به ، وشغلك من هوى وطرب ونحوها ، ثم قال : يقال لهوت بالشيء ألهو به لهوا وتلهيت به - إذا لعبت به وتشاغلت وغفلت به عن غيره . وأقول : إن الأصل في اللهو إذا أطلق يراد به ما يشغل الإنسان من لعب وطرب ودواعي سرور ، وارتياح عما يتعبه ويشق عليه من الجد أو يحزنه أو يسوءه من خطوب الدنيا ونكباتها . ثم توسع به فصار يطلق أحيانا على ما يسر ويلذ وإن لم يقصد به التشاغل عن أمور الجد ، كمغازلة النساء والاستمتاع بهن ، ومنه قول امرئ القيس :


                          ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي

                          .

                          وقد يطلق أيضا على جد يتشاغل به عن جد آخر ، ولكن الذي عرف استعماله في ذلك الفعل لا المصدر ، فلا يقال : إن هذا الفعل لهو ، بل يقال لهوت بكذا عن كذا ، أو تلهيت أو التهيت به عنه . ومنه ( فأنت عنه تلهى ) ( 80 : 10 ) وإنما تشاغل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأعمى بالتصدي لدعوة كبراء قريش إلى الإسلام لا بشيء فيه طرب ولا سرور نفسي يسمى لهوا بإطلاق .

                          والمعنى أن هذه الحياة الدنيا التي قال الكفار : إنه لا حياة غيرها - وهي ما يتمتعون به من اللذات المقصودة عندهم لذاتها ، أو الملهية لهم عن همومها وأكدارها - ليست إلا لعبا ولهوا أو كاللعب واللهو في عدم استتباعها لشيء من الفوائد والمنافع يكون في حياة بعدها ، أو هي دائرة بين عمل لا يفيد في العاقبة - فهو كلعب الأطفال - وبين عمل له فائدة عاجلة سلبية ، كفائدة اللهو هو دفع الهموم والآلام ، ويوضح هذا قول بعض الحكماء : إن جميع لذات الدنيا سلبية ؛ إذ هي إزالة الآلام ، فلذة الطعام مزيلة لألم الجوع وبقدر هذا الألم تعظم اللذة في إزالته ، ولذة شرب الماء مزيلة لألم العطش كذلك .

                          وأما شرب المنبهات والمخدرات ؛ كالخمر والحشيش والدخان ، فإنه يكون أولا بالتكلف واحتمال المكروه والألم ، فإن هذه الأشياء كلها مكروهة بالطبع كما أخبر المجربون ، وإنما يتكلفونه طلبا للذة متوهمة يقلد بها الشارب غيره ، ثم يصير المؤلم بالتعود ملائما بإزالته للألم المتولد منه [ ص: 304 ] إزالة مؤقتة . ذلك بأن هذه الأشياء سموم مكروهة في نفسها ، ومتى أثر سمها في الأعصاب بالتنبيه الزائد وغيره أعقب ذلك ضده من الفتور والألم ، وهما يطاردان بالعود إلى الشرب ، كما قال أشعر السكيرين وأقدرهم على تمثيل تأثير السكر

                          وداوني بالتي كانت هي الداء

                          وقال :


                          وكأس شربت على لذة     وأخرى تداويت منها بها

                          وهذه اللذة الأولى التي ذكرها وهمية كما قلنا ؛ لأنه لم يكن ذاقها بل توهمها ، وقلد بها المفتونين بالسكر . وقد يقصد بالسكر إزالة آلام أخرى غير ألم سم الخمر كالهموم والأكدار ، فإن السكران يغيب عن عقله ووجدانه فلا يشعر بآلامها في تلك الحال ، وقد يتضاعف عليه ألم الشعور والوجدان ، وكثيرا ما يقع في آلام أخرى بدنية كالصداع والغثيان ، أو نفسية كالتي فر منها ، أو ما هو شر منها ، ويصدق عليه في كل حال قول أبي الطيب :


                          إذا استشفيت من داء بداء     فأقتل ما أعلك ما شفاكا

                          .

                          وقد قيل : إن سماع الغناء وآلات الطرب لا يدخل في عموم هذه القاعدة ؛ لأنها لذة روحية لا تعد داعيتها من الآلام ، ومن دقق النظر في هذه المسألة علم أن السماع ليس من ضروريات الحياة الشخصية ولا النوعية ; ولذلك كانت داعيته ضعيفة ليست كداعية الغناء والوقاع ، فكان فقده غير مؤلم إلا لمن اشتد ولوعه به ، وهذا يدخل في عموم القاعدة . ولذة السماع عند غيره - وهم الجمهور - ضعيفة بقدر ضعف الداعية ، فالسماع لا يعد من أركان هذه الحياة ، ولا من مقاصدها الذاتية للناس ، وإنما يستروح إليه أكثر أهله لترويح النفس من آلام الحياة لا من ألم الداعية إليه ، وإنما غلب اسم " اللهو " عليه واسم " الملاهي " على آلاته ؛ لأنه غير مقصود لذاته .

                          وفي الآية وجه آخر يصح جمعه مع الأول ، وهو أن متاع هذه الحياة الدنيا الخاص بها متاع قليل ، أجله قصير ، لا يصح أن يغتر به العاقل الراشد ، فهو ليس إلا كلعب الأطفال في قصر مدته من حيث إن الطفل يسرع إليه الملل من كل لعبة ، أو من حيث إن زمن الطفولة قصير ، كله غفلة ، أو كلهو المهموم في قصر مدته ، على كونه غير مطلوب لذاته .

                          ( وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ) هذا خبر مؤكد بلام القسم ، يفيد بمقابلته أن نعيم الآخرة ليس كنعيم الدنيا لعبا ولهوا يعبث به العابثون ، أو يتشاغلون ويتسلون به عن الأكدار والهموم ، بل هو مما يقصده العاقل لفوائده ومنافعه الثابتة الدائمة - وأن تلك الدار للذين يتقون الشرك والشرور المحرمة خير من هذه الدار للمشركين المنكرين للبعث الذين لا حظ لهم من حياتهم إلا التمتع الذي هو من اللعب في قصر مدته ، وعدم فائدته ، [ ص: 305 ] أو من قبيل اللهو في كونه دفعا لألم الهم والكدر ، أو ضجر الشقاء والتعب ، دع ما يستلزمه من المعاصي المفضية إلى عذاب الأخرة ، ذلك بأن نعيم الآخرة البدني أعلى وأكمل من نعيم الدنيا في ذاته ، وفي دوامه وثباته ، وفي كونه إيجابيا لا سلبيا ، وفي كونه غير مشوب ولا منغص بشيء من الآلام ، وفي كونه لا يعقبه ثقل ، ولا مرض ، ولا إزالة أقذار ، فما القول بنعيمها الروحاني من لقاء الله ورضوانه ، وكمال معرفته المعبر عنه عند أهل السنة برؤيته ؟ أي أتغفلون فلا تعقلون هذا الفرق أيها المكذبون بالآخرة ؟ أما لو عقلتم لآمنتم .


                          قال المنجم والطبيب كلاهما     لا تبعث الأموات قلت إليكما
                          إن صح قولكما فلست بخاسر     أو صح قولي فالخسار عليكما

                          .

                          قرأ ابن عارم ( ولدار الآخرة ) بإضافة الصفة للموصوف لمغايرتها له ، ولا نزاع بين النحاة في وقوع مثل هذا في الكلام العربي ، وحسبك وروده في الكتاب العزيز ، وإنما اختلف الكوفيون والبصريون في اطراده وطريقة إعرابه ، فالأولون يعربونه بغير تأويل ، والآخرون يرون أنه لم يرد إلا بمسوغ ، وهو هنا استعمال " الآخرة " استعمال الأسماء في مثل قوله تعالى : ( وللآخرة خير لك من الأولى ) ( 93 : 4 ) أو مراعاة مضاف محذوف تقديره : ولدار الحياة الآخرة ؛ لأنه في مقابلة الحياة الدنيا ، ويصح تقدير النشأة أيضا ، وقرأ بعض القراء " يعقلون " بالياء التحتية مراعاة للغيبة ، وبعضهم بالتاء الفوقية للخطاب .

                          ومن مباحث نكت البلاغة : أنه ورد في معنى هذه الآية قوله تعالى في " سورة محمد " : ( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم ) ( 47 : 36 ) وقوله في " سورة الحديد " : ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ) ( 57 : 20 ) وقد قدم في الآيات الثلاث اللعب على اللهو ، وقال تعالى في " سورة العنكبوت " : ( وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ) ( 29 : 64 ) وقد قدم في هذه ذكر اللهو على اللعب ، وأكثر المفسرين لا يعنون ببيان نكتة لذلك ؛ لأن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ، بل مطلق الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه . ومنهم من يرى أن مثل هذا لا يقع في كتاب الله تعالى إلا لفائدة ، وقد نقل السيد الألوسي في " روح المعاني " كلاما ركيكا في الفرق بين الاستعمالين عزاه إلى الدرة ، وقال في آخره : قاله مولانا شهاب الدين فليفهم ، وهو أمر بما لا يستطاع من فهم ذلك الكلام المضطرب المبهم .

                          والذي يظهر لنا في نكتة ذلك أن تقديم اللعب على اللهو لا يحتاج إلى تعليل ؛ لأنه الأصل المقدم في الوجود ، وقد فصلت آية الحديد متاع الحياة الدنيا بحسب ترتيبه الذي تقتضيه الفطرة البشرية ، فقدم فيها اللعب لأن أول عمل للطفل يلذ له هو اللعب المقصود عنده لذاته ، [ ص: 306 ] وذكر بعده اللهو لما فيه من القصد الذي لا يأتي من الطفل ; لأنه لا يحصل إلا لذي الفكر وبعده الزينة التي هي شأن سن الصبا ، وبعده التفاخر الذي هو شأن الشبان ، وبعده التكاثر في الأموال والأولاد الذي هو شأن الكهول والشيوخ ، فالنكتة ينبغي أن تلتمس في آية العنكبوت لا في آيتي محمد والأنعام ، وهي قد وردت في سياق إقامة الحجج العقلية على المشركين ، فذكر فيها اللهو قبل اللعب على طريقة التدلي المؤذن بالانتقال من الشيء إلى ما هو دونه في نظر العقلاء ، فإن اللعب من العاقل الذي لا يليق به العبث أقبح من اللهو ؛ إذ اللهو تقصد به فائدة ولو سلبية ، واللعب هو العبث الذي لا تقصد به فائدة ألبتة ، فهو شأن الأطفال لا العقلاء العالمين بالمصالح ، الذين يقصدون بكل عمل من أعمالهم ، إما دفع بعض المضار ، وإما تحصيل بعض المنافع ; ولذلك بين جهلهم بقوله : ( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ) ( 29 : 64 ) وقال في الحجة التي قبلها ( بل أكثرهم لا يعقلون ) ( 29 : 63 ) ولا حاجة إلى مثل هذا التدلي في آية الأنعام التي نفسرها ، فإنها لم ترد في سياق حجج الإيمان العقلية التي يراد بها بيان ضعف نظر المشركين وجهلهم ، وإن ذيلت بالتوبيخ على عدم عقل ما قرر فيها وفي هذا التذييل ، بل وردت في بيان حقيقة الدنيا بعد الإعلام بما يصيب المفتونين بها في الآخرة بحصر همهم في لذاتها ، وتلاه بيان المقابلة بينهم وبين المؤمنين الذين يتقون الله فيها ، ففي مثل هذا السياق - كآية " سورة محمد " - يحسن الترتيب الوجودي ، بتقديم اللعب على اللهو الذي هو طريق الترقي ; لأنه انتقال من عبث ليس له عاقبة نافعة إلى لهو فائدته سلبية عاجلة ; ولذلك بين بعده أن عمل المؤمنين المتقين فيها - ومنه تمتعهم بلذاتها - يؤجرون عليه في الآخرة ، وأنها بسبب اعتصامهم فيها بالتقوى ، خير لهم من العاجلة الدنيا .

                          هذا وإنني عند بلوغي هذا البحث ظفرت بكتاب ( درة التنزيل وغرة التأويل ) لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي ، فراجعته بعد استقرار فهمي على ما تقدم ، فعلمت أنه هو الذي نقل الألوسي عن الشهاب عنه ما لا يكاد يفهم . وما ذلك إلا للنقل بالمعنى دون النص ، الذي يكثر بسببه الخطأ في النقل . وقد ذكرالإسكافي هذا البحث عند ذكر الآية الثامنة مما أورده من " سورة الأنعام " ( وهي الآية ال70 ) الواردة في اتخاذ الكفار دينهم لعبا ولهوا - مع ما يقابلها في " سورة الأعراف " ( 7 : 51 ) من اتخاذهم دينهم لهوا ولعبا . وبهذه المناسبة ذكر آيتي الحديد والعنكبوت اللتين بينهما مثل هذا الاختلاف ، ونسي ذكر الآية التي نحن بصدد تفسيرها . وسيأتي ذكر اتخاذ الدين لعبا ولهوا في محله . وقد اعتمد الخطيب في تفسير اللهو في الآيات أنه اجتلاب المسرة بمخالطة النساء وهو مخطئ في ذلك . وقال في تعليل تقديم اللعب على اللهو في " سورة الحديد " : إن الحياة الدنيا لمن اشتغل بها ولم يتعب لغيرها مقسومة من الصبا وهو وقت اللعب ، وبعده اللهو وهو الترويح عن النفس [ ص: 307 ] بملاعبة النساء ، ويتبع ذلك أخذ الزينة لهن ولغيرهن . ومن أجل الزينة نشأت مباهاة الأكفاء ، ومفاخرة الأشكال والنظراء ، ثم بعده المكاثرة بالأموال والأولاد ، فترتبت الحياة على هذه الأحوال ، فوجب تقديم حال اللعب على اللهو . اهـ . ثم قال في آية العنكبوت : إنه لا يراد بها أن الحياة الدنيا كلها لعب ولهو . إلخ ثم قال ما نصه :

                          " بل المراد المبالغة في وصف قصر مدة الدنيا بالإضافة إلى مدة الأخرى ، فكأنه قال : ما أمد الحياة الدنيا إلا كأمد أزمنة اللهو واللعب ، وهي أزمنة تستقصر لشغل النفس بحلاوة ما يستعجل ، كما قال القائل :


                          شهور ينقضين وما شعرنا     بأنصاف لهن ولا سرار

                          .

                          وقال المتأخر :


                          وليلة إحدى الليالي الغر     لم تك غير شفق وفجر

                          .

                          والدليل على أن المراد ما ذكرت قبل : ما ذكره الله بعد من قوله : ( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ) ( 29 : 64 ) أي إن حياتها تبقى أبدا ، ولا تعرف أبدا ، وإنما قدم اللهو هنا على اللعب لأن الأزمنة التي يقصرها اللهو أكثر من الأزمنة التي يقصرها اللعب ; لأن التشاغل به أكثر . فلما كانت معظم ما يستقصر وجب تقديم ما يكثر على ما هو دونه في الكثرة ؛ لأن ذلك آخذ بالشبه ، وأبلغ في وصف المشبه ، ولا خلاف أن الناس أزمنتهم المشغولة باللهو أكثر من أزمنتهم المشغولة باللعب ، وأن طيبها لهم يخيل قصرها إليهم ، ويتفاوت طيبها على حسب تفاوت ميل النفس إلى محبوبها ، فمعظم ما ترى الزمان الطويل قصيرا زمان اللهو بالنساء ، وهو الذي نشأت منه فتنة الرجال وهلاك أهل الحب " . اهـ . وما قلناه أقرب من اللفظ نسبا ، وأشد ارتباطا بالمعنى وأقوى سببا .

                          هذا وإننا قد وعدنا بأن نبين في آخر تفسير هذه الآيات ما يترتب على إنكار البعث والجزاء من فساد الفطرة البشرية المفضي إلى الشرور الكثيرة ، فنقول :

                          إن الكفر بالبعث والجزاء واعتقاد أنه لا حياة بعد هذه الحياة يجعل هم الكافر محصورا في الاستمتاع بلذات الدنيا وشهواتها البدنية والنفسية ؛ كالجاه والرياسة والعلو في الأرض ولو بالباطل وهو ما يسمونه الشرف ، ومن كان كذلك يكون في اتباع هواه ولذاته الشهوانية أسفل من البهائم كالبقر والقردة والخنازير ، وفي اتباعه لهواه في لذاته الغضبية أضرى وأشد أذى من الوحوش الضارية المفترسة كالذئاب والنمور ، وفي اتباعه لهواه ولذته النفسية شرا [ ص: 308 ] من الشياطين يكيد بعضهم لبعض ويفترس بعضهم بعضا ، لا يصدهم عن باطل ولا شر يهوونه إلا العجز ، ولا يرجعون إلى حكم يفصل بينهم إلا القوة التي جعلوها فوق الحق . وطالما غشوا أنفسهم وفتنوا غيرهم في هذا الزمان بما كان من تأثير التوازن في القوى من منع كثير من البغي والعدوان الذي كان يصول به قوي الأمم على ضعيفها ، والحكومات الجائرة على رعيتها ، فزعموا أن الحضارة المادية والعلوم والفنون البشرية هي التي تفيض روح الكمال على الإنسان إذا لم يؤمن بالبعث والجزاء ، ولا بالإله الديان ، واستدلوا على ذلك بما أجمعت عليه أممهم ودولهم من ذم الحرب ، والتفاخر ببناء سياستهم على أمتن قواعد السلم ، وزعموا أن الباعث على ذلك حب الإنسانية ، والرغبة في العروج بجميع البشر إلى قنة السعادة المدنية .

                          فإن قيل : فما بالكم تسابقون إلى استذلال الأمم الضعيفة في الشرق وتسخرونها لمنافعكم وتوفير ثروتكم بغير حق ؟ قالوا : كلا إنما نريد أن نخرجها من ظلمات الهمجية والجهل لتشاركنا فيما نحن فيه من نور الحضارة والعلم . فإن قيل : فما بالنا نراها لم تنل من علومكم إلا بعض القشور ، ولم تستفد من مدنيتكم إلا الفسق والفجور ، قالوا : إنما ذلك لضعف الاستعداد ، وما تمكن في نفوس هذه الشعوب من الفساد ، على أننا خير لها من حكامها الأولين بما قمنا به من حفظ الأمن وتوفير أسباب النعيم للعاملين ! ذلك شأنهم ، لا تقام عليهم حجة إلا يقابلونها بشبهة تؤيدها القوة ، وقد قوضت الحرب المشتعلة نارها في أوربا هذه الأعوام ، جميع ما بنيت عليه هذه الشبهات من المزاعم والأوهام ، إذ رأينا فيها أرقى أهل الأرض في الحضارة والعلوم والفلسفة يخربون بيوتهم بأيديهم ، ويقوضون صروح مدينتهم بمدافعهم ، ويستعينون بكل ما ارتقوا إليه من العلوم والفنون والصناعات والحكمة والنظام ، لإهلاك الحرث والنسل وتخريب العمران ، بمنتهى القسوة والشدة ، التي لا تشوبها عاطفة رأفة ولا رحمة ، ولو كان من بأيديهم أزمة الأمور منهم يؤمنون بالله واليوم الآخر وما فيه من الحساب والجزاء بالحق ، لما انتهوا في الطغيان إلى هذا الحد ، نعم ، إن هذه الشعوب كانت تتقابل لنصر المذهب أو الدين في القرون التي كانت تعمل فيها كل شيء باسم الدين ، ولكنها لم تصل في التقتيل والتخريب في ذلك الزمان إلى عشر معشار ما هي عليه الآن ، وإن كانوا يسمون هذا العصر عصر النور وتلك العصور بعصور الظلمات ، على أن الرؤساء كانوا يتخذون اسم الدين وتأويل نصوصه وسيلة لأهوائهم التي ليست من الدين في شيء ، كما يعلم جميع علماء هذا العصر .

                          ومن العجائب أن أقسى أهل هذه الحرب وأشدهم تخريبا وتدميرا هم الذين يزعمون أنهم يحاربون لله وأن الله معهم على أعدائهم ، وإنما الحرب الدينية الصحيحة حرب الأنبياء والخلفاء الراشدين ، ومن على مقربة من سيرتهم من الملوك الصالحين ، ولم يكن يستحل فيها في عصر الإسلام ما يستحل الآن من القسوة والتخريب ولا ما نقل عن أنبياء وملوك [ ص: 309 ] بني إسرائيل ، وقد فصلنا في المنار القول في المقابلة بين هذه الحرب المدنية وحروب المسلمين الدينية ، التي كانت دفاعا عن النفس وتقريرا للحق والعدل ، والمساواة في الحقوق بين أصناف الخلق ، يسيرون فيها على القواعد الشرعية العادلة في الضرورات ككونها تبيح ما ضرره دون ضررها وكونها تقدر بقدرها ، وتراعى فيها الرحمة لا العدل وحده ، وقد شهد بذلك لسلفنا أعلم حكماء الإفرنج بتاريخنا ( غوستاف لوبون ) فقال كلمة حق حقيقة بأن تكتب بماء الذهب ، وهي : " ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب " .

                          وجملة القول أن شبهات المفتونين بالمدنية المادية قد دحضت بهذه الحرب الساحقة الماحقة وقويت بها حجة أهل الدين عليهم ، بل تنبه بها الشعور الديني في الجم الغفير من الأوربيين حتى الفرنسيس منهم ، بعد أن كانوا قد نبذوه وراء ظهورهم ، وآثروا عليه الشهوات البدنية الحقيرة ، حتى ضاقت بهم المعابد التي كانت مهجورة قلما تفتح أبوابها ، وقلما يلم بها أحد إن فتحت . وذلك شأن المسرفين في أمرهم من الناس ، لا يتوجهون إلى خالقهم إلا عند الشدة والبأس ( وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ) ( 10 : 12 ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية