الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ) مما اقترحوه عليك من الآيات ليؤمنوا فافعل أو فأتهم بها ، يقال كبر على فلان الأمر ، أي عظم عنده وشق عليه وقعه . والإعراض : التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه أو احتقارا له ، وهو من إبداء المرء عرض بدنه عند توليه عن الشيء واستدباره له ، واستطعت الشيء : صار في طوعك منقادا لك باستيفاء الأسباب التي تمكنك من فعله ، والابتغاء : طلب ما في طلبه كلفة ومشقة أو تجاوز للمعتاد أو للاعتدال ، أو طلب غايات الأمور وأعاليها ، لأنه افتعال من البغي وهو تجاوز الحد في الطلب أو الحق . ويكون في الخير كابتغاء رضوان الله وهو غاية الكمال ، وفي الشر كابتغاء الفتنة وهو غاية الضلال ، والنفق : السرب في الأرض وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج ، كنافقاء اليربوع ، وهو جحره يجعل له منافذ يهرب من بعضها إذا دخل عليه من غيره ما يخافه . والسلم : المرقاة ، مشتق من السلامة . قال الزجاج : لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك . وتذكيره أفصح من تأنيثه ، وإنما يؤنث بمعنى الآلة ، وأتى ب " كان " فعلا للشرط ؛ ليبقى الشرط على المضي ولا ينقلب مستقبلا كما قالوا ، فإن " إن " لا تقلب " كان " مستقبلا لقوة دلالته على المضي . والنحوي يؤول مثل هذا التركيب بنحو : وإن تبين وظهر أنه كبر عليك إعراضهم ، وجواب الشرط محذوف للعلم به ، تقديره : فافعل كما تقدم .

                          تقدم في أوائل السورة أنهم كانوا يقترحون الآيات على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكأنه كان يتمنى لو آتاه الله بعض ما طلبوا حرصا على هدايتهم ، وأسفا وحزنا على إصرارهم على غوايتهم ، وتألما من كفرهم وأذيتهم ، ولكن الله تعالى يعلم أن أولئك المقترحين الجاحدين لا يؤمنون وإن رأوا من الآيات ما يطلبون وفوق ما يطلبون ، كما تقدم شرحه في تفسير أوائل السورة [ راجع تفسير الآية السابعة وما بعدها ص 258 ج 7 ط الهيئة ] وقد أراد تعالى أن يؤكد لرسوله ما يجب من الصبر على تكذيب المشركين وأذاهم الدال عليه ما قبله ، وأن يريح قلبه الرءوف الرحيم من إجابتهم إلى ما اقترحوا من الآيات ؛ لما تقدم من حكمة ذلك ، فقال له : وإن كان شأنك معهم أنه كبر عليك إعراضهم عن الإيمان وعن الآيات القرآنية والعقلية الدالة عليه - ومنها ما سبق في هذه السورة - وظننت أن إتيانهم بآية مما اقترحوا [ ص: 319 ] يدحض حجتهم ، ويكشف شبهتهم ، فيعتصمون بعروة الإيمان ، عن بينة ملزمة وبرهان ، فإن استطعت أن تبتغي لنفسك نفقا كائنا في الأرض - أو معناه : تطلبه في الأرض - فتذهب في أعماقها ، أو سلما في جو السماء ترتقي عليه إلى ما فوقها ، فتأتيهم بآية مما اقترحوه عليك منهما فائت بما يدخل في طوع قدرتك من ذلك ، كتفجير ينبوع لهم في الأرض ، أو تنزيل كتاب تحمله لهم من السماء ، وقد كانوا طلبوا أحد النوعين كما حكاه الله تعالى عنهم بقوله في " سورة الإسراء " : ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) إلى قوله : ( أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ) ( 17 : 90 - 93 ) وقد أمره الله تعالى أن يجيب عن ذلك بقوله عقب هذا : ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) أي وليس ذلك في قدرة البشر وإن كان رسولا ; لأن الرسالة لا تخرج الرسول عن طور البشر في صفاتهم البشرية كالقدرة والاستطاعة ، فهم لا يستطيعون إيجاد شيء مما يعجز عنه البشر في صفاتهم البشرية كالقدرة والاستطاعة ، فهم لا يستطيعون إيجاد شيء مما يعجز عنه البشر ولا يقدر عليه غير الخالق تعالى . والمراد من هذه الآية أنك لا تستطيع أيها الرسول الإتيان بشيء من تلك الآيات ولا ابتغاء السبل إليها في الأرض ولا في السماء ، ولا اقتضت مشيئة ربك أن يؤتيك ذلك ؛ لعلمه بأنه لا يكون سببا لما تحب من هدايتهم ؛ ولأن من سنته أن يترتب على الجحود بعده إنزال العذاب عليهم ، وتقدم بيان هذا في تفسير الآيتين السادسة والسابعة من هذه السورة .

                          ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ) أي ولو شاء الله تعالى جمعهم على ما جئت به من الهدى لجمعهم عليه بجعل الإيمان ضروريا لهم كالملائكة ، أو بخلقهم على استعداد واحد للخير والحق فقط ، لا متفاوتي الاستعداد مختلفي الاختيار باختلاف العلوم والأفكار والأخلاق والعادات ، كما اقتضته حكمته في خلق الناس ، ولكنه شاء أن يخلق البشر على ما هم عليه من الاختلاف والتفاوت في الاستعداد ، وما يترتب عليه من اختلاف أسباب الاختيار ، فإذا عرفت سنته هذه في خلق هذا النوع ، وأنه لا تبديل لخلق الله ، فلا تكونن من القوم الجاهلين بسنن الله تعالى في خلقه الذين يتمنون ما يرونه حسنا ونافعا ، وإن كان حصوله ممتنعا ، لكونه مخالفا لتلك السنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية . فالجهل هنا ضد العلم لا ضد الحلم ، وليس كل جهل بهذا المعنى عيبا ; لأن المخلوق لا يحيط بكل شيء علما ، وإنما يذم الإنسان بجهل ما يجب عليه ، ثم بجهل ما ينبغي له ويعد كمالا في حقه إذا لم يكن معذورا في جهله . قال تعالى في الفقراء المتعففين : ( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ) ( 2 : 273 ) فوصف الجاهل هنا غير ذم ، وكان عدم علم خاتم الرسل بالكتابة من أركان آياته ، وعدم علمه بالشعر من أدلة الوحي وبيناته ، وكل ما يتوقف علمه على الوحي الإلهي لا يكون جهل الرسول إياه قبل نزوله عليه عيبا يذم به ؛ إذ لا يذم الإنسان إلا بما يقصر في تحصيله وكسبه ، وقد أمر الله تعالى رسوله بأن يسأله [ ص: 320 ] زيادة العلم ، وكان يزيده كل يوم علما وكمالا بتنزيل القرآن وبفهمه ، وبغير ذلك من العلم والحكمة ، ولا يقتضي ذلك الذم قبل هذه الزيادة ، وإنما الذي يذم مطلقا هو الجهل المرادف للسفه وهو ضد الحلم .

                          ويشبه ما هنا قوله تعالى لنوح حين طلب نجاة ابنه الكافر بناء على أنه من أهله الذين وعده الله بإنجائهم معه : ( يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) ( 11 : 46 ) أي بإدخال ولدك الكافر في عموم أهلك المؤمنين ، وإنما اقترن النهي هنا بالوعظ لأن عاطفة الرحمة الوالدية حملته على سؤال ما ليس له به علم اعتمادا على استنباط اجتهادي غير صحيح ، ورحمة خاتم الرسل - صلى الله عليه وسلم - كانت أعم وأشمل ، وغاية ما تشير إليه الآية أنه تمنى ولكنه لم يسأل ، ولو سأل لسأل آية يهتدي بها الضال من قومه ، لا نجاة الكافر من أهله ، فاكتفى في إرشاده بالنهي وحسن في إرشاد نوح التصريح بالوعظ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية