الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
530 حدثنا nindex.php?page=showalam&ids=16475عبد الله بن يوسف قال حدثنا nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك عن nindex.php?page=showalam&ids=11863أبي الزناد عن nindex.php?page=showalam&ids=13723الأعرج عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة nindex.php?page=hadith&LINKID=650522أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم nindex.php?page=treesubj&link=29746_32774_32783_29685_28783كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون
قوله ( يتعاقبون ) أي تأتي طائفة عقب طائفة ، ثم تعود الأولى عقب الثانية . قال nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر : وإنما يكون التعاقب بين طائفتين أو رجلين بأن يأتي هذا مرة ويعقبه هذا ، ومنه تعقيب الجيوش أن يجهز الأمير بعثا إلى مدة ثم يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجهز غيرهم إلى مدة ، ثم يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجهز الأولين . قال القرطبي : الواو في قوله " يتعاقبون " علامة الفاعل المذكر المجموع على لغة بلحارث وهم القائلون أكلوني البراغيث ، ومنه قول الشاعر
وقال غيره في تأويل الآية : قوله ( وأسروا ) عائد على الناس المذكورين أولا . و ( الذين ظلموا ) بدل من الضمير . وقيل التقدير أنه لما قيل ( وأسروا النجوى ) قيل : من هم ؟ قال : ( الذين ظلموا ) حكاه الشيخ محيي الدين ، والأول أقرب إذ الأصل عدم التقدير . وتوارد جماعة من الشراح على أن حديث الباب من هذا القبيل ، ووافقهم ابن مالك وناقشه أبو حيان زاعما أن هذه الطريق اختصرها الراوي ، واحتج لذلك بما رواه البزار من وجه آخر عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة بلفظ nindex.php?page=hadith&LINKID=842030إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم : ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار الحديث ، وقد سومح في العزو إلى مسند البزار مع أن هذا الحديث بهذا اللفظ في الصحيحين فالعزو إليهما أولى ، وذلك أن هذا الحديث رواه عن nindex.php?page=showalam&ids=11863أبي الزناد مالك في الموطأ ولم يختلف عليه باللفظ المذكور وهو قوله " يتعاقبون فيكم " وتابعه على ذلك nindex.php?page=showalam&ids=12458عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور عنه ، وقد أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في بدء الخلق من طريق شعيب بن أبي حمزة عن nindex.php?page=showalam&ids=11863أبي الزناد بلفظ nindex.php?page=hadith&LINKID=842031الملائكة يتعاقبون ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار ، وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي أيضا من طريق nindex.php?page=showalam&ids=17177موسى بن عقبة عن nindex.php?page=showalam&ids=11863أبي الزناد بلفظ nindex.php?page=hadith&LINKID=842032إن الملائكة يتعاقبون فيكم فاختلف فيه على nindex.php?page=showalam&ids=11863أبي الزناد ، فالظاهر أنه كان تارة يذكره هكذا وتارة هكذا ، فيقوي بحث nindex.php?page=showalam&ids=11992أبي حيان ، ويؤيد ذلك أن غير nindex.php?page=showalam&ids=13724الأعرج من أصحاب nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قد رووه تاما فأخرجه أحمد ومسلم من طريق nindex.php?page=showalam&ids=17257همام بن منبه عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة مثل رواية nindex.php?page=showalam&ids=17177موسى بن عقبة لكن بحذف " إن " من أوله ، وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=13113ابن خزيمة والسراج من طريق أبي صالح عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة بلفظ nindex.php?page=hadith&LINKID=842033إن لله ملائكة يتعاقبون وهذه هي الطريقة التي أخرجها البزار ، وأخرجه أبو نعيم في الحلية بإسناد صحيح من طريق أبي موسى عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة بلفظ nindex.php?page=hadith&LINKID=3502620إن الملائكة فيكم يتعقبون وإذا عرف ذلك فالعزو إلى الطريق التي تتحد مع الطريق التي وقع القول فيها أولى من طريق مغايرة لها ، فليعز ذلك إلى تخريج nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي من طريق nindex.php?page=showalam&ids=11863أبي الزناد لما أوضحته . والله الموفق .
[ ص: 43 ] قوله ( فيكم ) أي المصلين أو مطلق المؤمنين .
قوله ( ملائكة ) قيل هم الحفظة نقله عياض وغيره عن الجمهور ، وتردد ابن بزيزة ، وقال القرطبي : الأظهر عندي أنهم غيرهم ، ويقويه أنه لم ينقل أن الحفظة يفارقون العبد ، ولا أن حفظة الليل غير حفظة النهار ، وبأنهم لو كانوا هم الحفظة لم يقع الاكتفاء في السؤال منهم عن حالة الترك دون غيرها في قوله " كيف تركتم عبادي " .
قوله ( ويجتمعون ) قال الزين بن المنير : التعاقب مغاير للاجتماع ، لكن ذلك منزل على حالين .
قلت : وهو ظاهر ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر : الأظهر أنهم يشهدون معهم الصلاة في الجماعة ، واللفظ محتمل للجماعة وغيرها ، كما يحتمل أن التعاقب يقع بين طائفتين دون غيرهم ، وأن يقع التعاقب بينهم في النوع لا في الشخص . قال عياض : والحكمة في اجتماعهم في هاتين الصلاتين من لطف الله تعالى بعباده وإكرامه لهم بأن جعل اجتماع ملائكته في حال طاعة عباده لتكون شهادتهم لهم بأحسن الشهادة .
قلت : وفيه شيء ، لأنه رجح أنهم الحفظة ، ولا شك أن الذين يصعدون كانوا مقيمين عندهم مشاهدين لأعمالهم في جميع الأوقات ، فالأولى أن يقال : الحكمة في كونه تعالى لا يسألهم إلا عن الحالة التي تركوهم عليها ما ذكر ، ويحتمل أن يقال إن الله تعالى يستر عنهم ما يعملونه فيما بين الوقتين ، لكنه بناء على أنهم غير الحفظة . وفيه إشارة إلى الحديث الآخر nindex.php?page=hadith&LINKID=842034إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما فمن ثم وقع السؤال من كل طائفة عن آخر شيء فارقوهم عليه .
قوله ( ثم يعرج الذين باتوا فيكم ) استدل به بعض الحنفية على استحباب nindex.php?page=treesubj&link=878تأخير صلاة العصر ليقع عروج الملائكة إذا فرغ منها آخر النهار ، وتعقب بأن ذلك غير لازم ، إذ ليس في الحديث ما يقتضي أنهم لا يصعدون إلا ساعة الفراغ من الصلاة بل جائز أن تفرغ الصلاة ويتأخروا بعد ذلك إلى آخر النهار ، ولا مانع أيضا من أن تصعد ملائكة النهار وبعض النهار باق وتقيم ملائكة الليل ، ولا يرد على ذلك وصفهم بالمبيت بقوله " باتوا فيكم " لأن اسم المبيت صادق عليهم ولو تقدمت إقامتهم بالليل قطعة من النهار .
قوله ( الذين باتوا فيكم ) اختلف في سبب الاقتصار على سؤال الذين باتوا دون الذين ظلوا ، فقيل : هو من باب الاكتفاء بذكر أحد المثلين عن الآخر كقوله تعالى nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=9فذكر إن نفعت الذكرى أي وإن لم تنفع ، وقوله تعالى nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=81سرابيل تقيكم الحر أي والبرد ، وإلى هذا أشار ابن التين وغيره ، ثم قيل : الحكمة في الاقتصار على ذلك أن حكم طرفي النهار يعلم من حكم طرفي الليل ، فلو ذكره لكان تكرارا . ثم قيل : الحكمة في الاقتصار على هذا الشق دون الآخر أن الليل مظنة المعصية فلما لم يقع منهم عصيان - مع إمكان دواعي الفعل من إمكان الإخفاء ونحوه - واشتغلوا بالطاعة كان النهار أولى بذلك ، فكان السؤال عن الليل أبلغ من السؤال عن النهار لكون النهار محل الاشتهار . وقيل : الحكمة في ذلك أن ملائكة الليل إذا صلوا الفجر عرجوا في الحال ، وملائكة النهار إذا صلوا العصر لبثوا إلى آخر النهار لضبط بقية عمل النهار ، وهذا ضعيف ، لأنه يقتضي أن ملائكة النهار لا يسألون عن وقت العصر ، وهو خلاف ظاهر الحديث كما سيأتي .
ثم هو مبني على أنهم الحفظة وفيه نظر لما سنبينه ، وقيل بناه أيضا على أنهم الحفظة أنهم ملائكة النهار فقط وهم لا يبرحون عن ملازمة بني آدم ، [ ص: 44 ] وملائكة الليل هم الذين يعرجون ويتعاقبون ، ويؤيده ما رواه أبو نعيم في " كتاب الصلاة " له من طريق nindex.php?page=showalam&ids=13705الأسود بن يزيد النخعي قال : يلتقي الحارسان - أي ملائكة الليل وملائكة النهار - عند صلاة الصبح فيسلم بعضهم على بعض فتصعد ملائكة الليل وتلبث ملائكة النهار . وقيل : يحتمل أن يكون العروج إنما يقع عند صلاة الفجر خاصة ، وأما النزول فيقع في الصلاتين معا ، وفيه التعاقب ، وصورته أن تنزل طائفة عند العصر وتبيت ، ثم تنزل طائفة ثانية عند الفجر ، فيجتمع الطائفتان في صلاة الفجر ، ثم يعرج الذين باتوا فقط ويستمر الذين نزلوا وقت الفجر إلى العصر فتنزل الطائفة الأخرى فيحصل اجتماعهم عند العصر أيضا ولا يصعد منهم أحد بل تبيت الطائفتان أيضا ثم تعرج إحدى الطائفتين ويستمر ذلك فتصح صورة التعاقب مع اختصاص النزول بالعصر والعروج بالفجر ، فلهذا خص السؤال بالذين باتوا ، والله أعلم .
وقيل : إن قوله في هذا الحديث " ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر " وهم لأنه ثبت في طرق كثيرة أن الاجتماع في صلاة الفجر من غير ذكر صلاة العصر كما في الصحيحين من طريق nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة في أثناء حديث قال فيه nindex.php?page=hadith&LINKID=842035وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر قال nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة : واقرءوا إن شئتم nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=78وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا وفي الترمذي nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي من وجه آخر بإسناد صحيح عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة في قوله تعالى nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=78إن قرآن الفجر كان مشهودا قال : " تشهده ملائكة الليل والنهار " وروى ابن مردويه من حديث nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء مرفوعا نحوه ، قال nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر : ليس في هذا دفع للرواية التي فيها ذكر العصر ، إذ لا يلزم من عدم ذكر العصر في الآية والحديث الآخر عدم اجتماعهم في العصر لأن المسكوت عنه قد يكون في حكم المذكور بدليل آخر ، قال : ويحتمل أن يكون الاقتصار وقع في الفجر لكونها جهرية ، وبحثه الأول متجه لأنه لا سبيل إلى ادعاء توهيم الراوي الثقة مع إمكان التوفيق بين الروايات ، ولا سيما أن الزيادة من العدل الضابط مقبولة .
ولم لا يقال : إن رواية من لم يذكر سؤال الذين أقاموا في النهار واقع من تقصير بعض الرواة ، أو يحمل قوله " ثم يعرج الذين باتوا " على ما هو أعم من المبيت بالليل والإقامة بالنهار ، فلا يختص ذلك بليل دون نهار ولا عكسه ، بل كل طائفة منهم إذا صعدت سئلت ، وغاية ما فيه أنه استعمل لفظ " بات " في أقام مجازا ، ويكون قوله " فيسألهم " أي كلا من الطائفتين في الوقت الذي يصعد فيه ، ويدل على هذا الحمل رواية موسى بن عقبة عن أبي الزناد عند nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي ولفظه " ثم يعرج الذين كانوا فيكم " فعلى هذا لم يقع في المتن اختصار ولا اقتصار ، وهذا أقرب الأجوبة . وقد وقع لنا هذا الحديث من طريق أخرى واضحا وفيه التصريح بسؤال كل من الطائفتين ، وذلك فيما رواه nindex.php?page=showalam&ids=13113ابن خزيمة في صحيحه وأبو العباس السراج جميعا عن يوسف بن موسى عن جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=hadith&LINKID=842036تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر وصلاة العصر ، فيجتمعون في صلاة الفجر ، فتصعد ملائكة الليل وتبيت ملائكة النهار ، ويجتمعون في صلاة العصر فتصعد ملائكة النهار وتبيت ملائكة الليل ، فيسألهم ربهم : كيف تركتم عبادي الحديث . وهذه الرواية تزيل الإشكال وتغني عن كثير من الاحتمالات المتقدمة ، فهي المعتمدة ، ويحمل ما نقص منها على تقصير بعض الرواة .
( تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون ) لم يراعوا الترتيب الوجودي ، لأنهم بدءوا بالترك قبل الإتيان ، والحكمة فيه أنهم طابقوا السؤال لأنه قال : كيف تركتم ؟ ولأن المخبر به صلاة العباد والأعمال بخواتيمها فناسب ذلك إخبارهم عن آخر عملهم قبل أوله ، وقوله " تركناهم وهم " ظاهره أنهم فارقوهم عند شروعهم في العصر سواء تمت أم منع مانع من إتمامها وسواء شرع الجميع فيها أم لا لأن المنتظر في حكم المصلي ، ويحتمل أن يكون المراد بقولهم " وهم يصلون " أي ينتظرون صلاة المغرب . وقال ابن التين : الواو في قوله " وهم يصلون " واو الحال أي تركناهم على هذه الحال ، ولا يقال يلزم منه أنهم فارقوهم قبل انقضاء الصلاة فلم يشهدوها معهم ، والخبر ناطق بأنهم يشهدونها لأنا نقول : هو محمول على أنهم شهدوا الصلاة مع من صلاها في أول وقتها ، وشهدوا من دخل فيها بعد ذلك ، ومن شرع في أسباب ذلك .
( تنبيه : استنبط منه بعض الصوفية أنه يستحب أن لا يفارق الشخص شيئا من أموره إلا وهو على طهارة كشعره إذا حلقه وظفره إذا قلمه وثوبه إذا أبدله ونحو ذلك . وقال ابن أبي جمرة : أجابت الملائكة بأكثر مما سئلوا عنه ، لأنهم علموا أنه سؤال يستدعي التعطف على بني آدم فزادوا في موجب ذلك .
قلت : ووقع في صحيح nindex.php?page=showalam&ids=13113ابن خزيمة من طريق الأعمش عن أبي صالح عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة في آخر هذا الحديث nindex.php?page=hadith&LINKID=842037فاغفر لهم يوم الدين قال : ويستفاد منه أن nindex.php?page=treesubj&link=24589الصلاة أعلى العبادات لأنه عنها وقع السؤال والجواب ، وفيه الإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان وفي غيرهما طائفة واحدة والإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين ، وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح ، وأن nindex.php?page=treesubj&link=30357الأعمال ترفع آخر النهار ، فمن كان حينئذ في طاعة بورك في رزقه وفي عمله ، والله أعلم .
ويترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما والاهتمام بهما ، وفيه تشريف هذه الأمة على غيرها ، ويستلزم تشريف نبيها على غيره . وفيه الإخبار بالغيوب ، ويترتب عليه زيادة الإيمان . وفيه الإخبار بما نحن فيه من ضبط أحوالنا حتى نتيقظ ونتحفظ في الأوامر والنواهي ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رسل ربنا وسؤال ربنا عنا . وفيه إعلامنا بحب ملائكة الله لنا لنزداد فيهم حبا ونتقرب إلى الله بذلك . وفيه كلام الله تعالى مع ملائكته . وغير ذلك من الفوائد والله أعلم . وسيأتي الكلام على ذلك في " باب قوله ثم يعرج " في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى .
قوله ( يتعاقبون ) أي تأتي طائفة عقب طائفة ، ثم تعود الأولى عقب الثانية . قال nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر : وإنما يكون التعاقب بين طائفتين أو رجلين بأن يأتي هذا مرة ويعقبه هذا ، ومنه تعقيب الجيوش أن يجهز الأمير بعثا إلى مدة ثم يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجهز غيرهم إلى مدة ، ثم يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجهز الأولين . قال القرطبي : الواو في قوله " يتعاقبون " علامة الفاعل المذكر المجموع على لغة بلحارث وهم القائلون أكلوني البراغيث ، ومنه قول الشاعر
وقال غيره في تأويل الآية : قوله ( وأسروا ) عائد على الناس المذكورين أولا . و ( الذين ظلموا ) بدل من الضمير . وقيل التقدير أنه لما قيل ( وأسروا النجوى ) قيل : من هم ؟ قال : ( الذين ظلموا ) حكاه الشيخ محيي الدين ، والأول أقرب إذ الأصل عدم التقدير . وتوارد جماعة من الشراح على أن حديث الباب من هذا القبيل ، ووافقهم ابن مالك وناقشه أبو حيان زاعما أن هذه الطريق اختصرها الراوي ، واحتج لذلك بما رواه البزار من وجه آخر عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة بلفظ nindex.php?page=hadith&LINKID=842030إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم : ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار الحديث ، وقد سومح في العزو إلى مسند البزار مع أن هذا الحديث بهذا اللفظ في الصحيحين فالعزو إليهما أولى ، وذلك أن هذا الحديث رواه عن nindex.php?page=showalam&ids=11863أبي الزناد مالك في الموطأ ولم يختلف عليه باللفظ المذكور وهو قوله " يتعاقبون فيكم " وتابعه على ذلك nindex.php?page=showalam&ids=12458عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور عنه ، وقد أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في بدء الخلق من طريق شعيب بن أبي حمزة عن nindex.php?page=showalam&ids=11863أبي الزناد بلفظ nindex.php?page=hadith&LINKID=842031الملائكة يتعاقبون ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار ، وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي أيضا من طريق nindex.php?page=showalam&ids=17177موسى بن عقبة عن nindex.php?page=showalam&ids=11863أبي الزناد بلفظ nindex.php?page=hadith&LINKID=842032إن الملائكة يتعاقبون فيكم فاختلف فيه على nindex.php?page=showalam&ids=11863أبي الزناد ، فالظاهر أنه كان تارة يذكره هكذا وتارة هكذا ، فيقوي بحث nindex.php?page=showalam&ids=11992أبي حيان ، ويؤيد ذلك أن غير nindex.php?page=showalam&ids=13724الأعرج من أصحاب nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قد رووه تاما فأخرجه أحمد ومسلم من طريق nindex.php?page=showalam&ids=17257همام بن منبه عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة مثل رواية nindex.php?page=showalam&ids=17177موسى بن عقبة لكن بحذف " إن " من أوله ، وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=13113ابن خزيمة والسراج من طريق أبي صالح عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة بلفظ nindex.php?page=hadith&LINKID=842033إن لله ملائكة يتعاقبون وهذه هي الطريقة التي أخرجها البزار ، وأخرجه أبو نعيم في الحلية بإسناد صحيح من طريق أبي موسى عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة بلفظ nindex.php?page=hadith&LINKID=3502620إن الملائكة فيكم يتعقبون وإذا عرف ذلك فالعزو إلى الطريق التي تتحد مع الطريق التي وقع القول فيها أولى من طريق مغايرة لها ، فليعز ذلك إلى تخريج nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي من طريق nindex.php?page=showalam&ids=11863أبي الزناد لما أوضحته . والله الموفق .
[ ص: 43 ] قوله ( فيكم ) أي المصلين أو مطلق المؤمنين .
قوله ( ملائكة ) قيل هم الحفظة نقله عياض وغيره عن الجمهور ، وتردد ابن بزيزة ، وقال القرطبي : الأظهر عندي أنهم غيرهم ، ويقويه أنه لم ينقل أن الحفظة يفارقون العبد ، ولا أن حفظة الليل غير حفظة النهار ، وبأنهم لو كانوا هم الحفظة لم يقع الاكتفاء في السؤال منهم عن حالة الترك دون غيرها في قوله " كيف تركتم عبادي " .
قوله ( ويجتمعون ) قال الزين بن المنير : التعاقب مغاير للاجتماع ، لكن ذلك منزل على حالين .
قلت : وهو ظاهر ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر : الأظهر أنهم يشهدون معهم الصلاة في الجماعة ، واللفظ محتمل للجماعة وغيرها ، كما يحتمل أن التعاقب يقع بين طائفتين دون غيرهم ، وأن يقع التعاقب بينهم في النوع لا في الشخص . قال عياض : والحكمة في اجتماعهم في هاتين الصلاتين من لطف الله تعالى بعباده وإكرامه لهم بأن جعل اجتماع ملائكته في حال طاعة عباده لتكون شهادتهم لهم بأحسن الشهادة .
قلت : وفيه شيء ، لأنه رجح أنهم الحفظة ، ولا شك أن الذين يصعدون كانوا مقيمين عندهم مشاهدين لأعمالهم في جميع الأوقات ، فالأولى أن يقال : الحكمة في كونه تعالى لا يسألهم إلا عن الحالة التي تركوهم عليها ما ذكر ، ويحتمل أن يقال إن الله تعالى يستر عنهم ما يعملونه فيما بين الوقتين ، لكنه بناء على أنهم غير الحفظة . وفيه إشارة إلى الحديث الآخر nindex.php?page=hadith&LINKID=842034إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما فمن ثم وقع السؤال من كل طائفة عن آخر شيء فارقوهم عليه .
قوله ( ثم يعرج الذين باتوا فيكم ) استدل به بعض الحنفية على استحباب nindex.php?page=treesubj&link=878تأخير صلاة العصر ليقع عروج الملائكة إذا فرغ منها آخر النهار ، وتعقب بأن ذلك غير لازم ، إذ ليس في الحديث ما يقتضي أنهم لا يصعدون إلا ساعة الفراغ من الصلاة بل جائز أن تفرغ الصلاة ويتأخروا بعد ذلك إلى آخر النهار ، ولا مانع أيضا من أن تصعد ملائكة النهار وبعض النهار باق وتقيم ملائكة الليل ، ولا يرد على ذلك وصفهم بالمبيت بقوله " باتوا فيكم " لأن اسم المبيت صادق عليهم ولو تقدمت إقامتهم بالليل قطعة من النهار .
قوله ( الذين باتوا فيكم ) اختلف في سبب الاقتصار على سؤال الذين باتوا دون الذين ظلوا ، فقيل : هو من باب الاكتفاء بذكر أحد المثلين عن الآخر كقوله تعالى nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=9فذكر إن نفعت الذكرى أي وإن لم تنفع ، وقوله تعالى nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=81سرابيل تقيكم الحر أي والبرد ، وإلى هذا أشار ابن التين وغيره ، ثم قيل : الحكمة في الاقتصار على ذلك أن حكم طرفي النهار يعلم من حكم طرفي الليل ، فلو ذكره لكان تكرارا . ثم قيل : الحكمة في الاقتصار على هذا الشق دون الآخر أن الليل مظنة المعصية فلما لم يقع منهم عصيان - مع إمكان دواعي الفعل من إمكان الإخفاء ونحوه - واشتغلوا بالطاعة كان النهار أولى بذلك ، فكان السؤال عن الليل أبلغ من السؤال عن النهار لكون النهار محل الاشتهار . وقيل : الحكمة في ذلك أن ملائكة الليل إذا صلوا الفجر عرجوا في الحال ، وملائكة النهار إذا صلوا العصر لبثوا إلى آخر النهار لضبط بقية عمل النهار ، وهذا ضعيف ، لأنه يقتضي أن ملائكة النهار لا يسألون عن وقت العصر ، وهو خلاف ظاهر الحديث كما سيأتي .
ثم هو مبني على أنهم الحفظة وفيه نظر لما سنبينه ، وقيل بناه أيضا على أنهم الحفظة أنهم ملائكة النهار فقط وهم لا يبرحون عن ملازمة بني آدم ، [ ص: 44 ] وملائكة الليل هم الذين يعرجون ويتعاقبون ، ويؤيده ما رواه أبو نعيم في " كتاب الصلاة " له من طريق nindex.php?page=showalam&ids=13705الأسود بن يزيد النخعي قال : يلتقي الحارسان - أي ملائكة الليل وملائكة النهار - عند صلاة الصبح فيسلم بعضهم على بعض فتصعد ملائكة الليل وتلبث ملائكة النهار . وقيل : يحتمل أن يكون العروج إنما يقع عند صلاة الفجر خاصة ، وأما النزول فيقع في الصلاتين معا ، وفيه التعاقب ، وصورته أن تنزل طائفة عند العصر وتبيت ، ثم تنزل طائفة ثانية عند الفجر ، فيجتمع الطائفتان في صلاة الفجر ، ثم يعرج الذين باتوا فقط ويستمر الذين نزلوا وقت الفجر إلى العصر فتنزل الطائفة الأخرى فيحصل اجتماعهم عند العصر أيضا ولا يصعد منهم أحد بل تبيت الطائفتان أيضا ثم تعرج إحدى الطائفتين ويستمر ذلك فتصح صورة التعاقب مع اختصاص النزول بالعصر والعروج بالفجر ، فلهذا خص السؤال بالذين باتوا ، والله أعلم .
وقيل : إن قوله في هذا الحديث " ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر " وهم لأنه ثبت في طرق كثيرة أن الاجتماع في صلاة الفجر من غير ذكر صلاة العصر كما في الصحيحين من طريق nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة في أثناء حديث قال فيه nindex.php?page=hadith&LINKID=842035وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر قال nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة : واقرءوا إن شئتم nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=78وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا وفي الترمذي nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي من وجه آخر بإسناد صحيح عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة في قوله تعالى nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=78إن قرآن الفجر كان مشهودا قال : " تشهده ملائكة الليل والنهار " وروى ابن مردويه من حديث nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء مرفوعا نحوه ، قال nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر : ليس في هذا دفع للرواية التي فيها ذكر العصر ، إذ لا يلزم من عدم ذكر العصر في الآية والحديث الآخر عدم اجتماعهم في العصر لأن المسكوت عنه قد يكون في حكم المذكور بدليل آخر ، قال : ويحتمل أن يكون الاقتصار وقع في الفجر لكونها جهرية ، وبحثه الأول متجه لأنه لا سبيل إلى ادعاء توهيم الراوي الثقة مع إمكان التوفيق بين الروايات ، ولا سيما أن الزيادة من العدل الضابط مقبولة .
ولم لا يقال : إن رواية من لم يذكر سؤال الذين أقاموا في النهار واقع من تقصير بعض الرواة ، أو يحمل قوله " ثم يعرج الذين باتوا " على ما هو أعم من المبيت بالليل والإقامة بالنهار ، فلا يختص ذلك بليل دون نهار ولا عكسه ، بل كل طائفة منهم إذا صعدت سئلت ، وغاية ما فيه أنه استعمل لفظ " بات " في أقام مجازا ، ويكون قوله " فيسألهم " أي كلا من الطائفتين في الوقت الذي يصعد فيه ، ويدل على هذا الحمل رواية موسى بن عقبة عن أبي الزناد عند nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي ولفظه " ثم يعرج الذين كانوا فيكم " فعلى هذا لم يقع في المتن اختصار ولا اقتصار ، وهذا أقرب الأجوبة . وقد وقع لنا هذا الحديث من طريق أخرى واضحا وفيه التصريح بسؤال كل من الطائفتين ، وذلك فيما رواه nindex.php?page=showalam&ids=13113ابن خزيمة في صحيحه وأبو العباس السراج جميعا عن يوسف بن موسى عن جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم nindex.php?page=hadith&LINKID=842036تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر وصلاة العصر ، فيجتمعون في صلاة الفجر ، فتصعد ملائكة الليل وتبيت ملائكة النهار ، ويجتمعون في صلاة العصر فتصعد ملائكة النهار وتبيت ملائكة الليل ، فيسألهم ربهم : كيف تركتم عبادي الحديث . وهذه الرواية تزيل الإشكال وتغني عن كثير من الاحتمالات المتقدمة ، فهي المعتمدة ، ويحمل ما نقص منها على تقصير بعض الرواة .
( تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون ) لم يراعوا الترتيب الوجودي ، لأنهم بدءوا بالترك قبل الإتيان ، والحكمة فيه أنهم طابقوا السؤال لأنه قال : كيف تركتم ؟ ولأن المخبر به صلاة العباد والأعمال بخواتيمها فناسب ذلك إخبارهم عن آخر عملهم قبل أوله ، وقوله " تركناهم وهم " ظاهره أنهم فارقوهم عند شروعهم في العصر سواء تمت أم منع مانع من إتمامها وسواء شرع الجميع فيها أم لا لأن المنتظر في حكم المصلي ، ويحتمل أن يكون المراد بقولهم " وهم يصلون " أي ينتظرون صلاة المغرب . وقال ابن التين : الواو في قوله " وهم يصلون " واو الحال أي تركناهم على هذه الحال ، ولا يقال يلزم منه أنهم فارقوهم قبل انقضاء الصلاة فلم يشهدوها معهم ، والخبر ناطق بأنهم يشهدونها لأنا نقول : هو محمول على أنهم شهدوا الصلاة مع من صلاها في أول وقتها ، وشهدوا من دخل فيها بعد ذلك ، ومن شرع في أسباب ذلك .
( تنبيه : استنبط منه بعض الصوفية أنه يستحب أن لا يفارق الشخص شيئا من أموره إلا وهو على طهارة كشعره إذا حلقه وظفره إذا قلمه وثوبه إذا أبدله ونحو ذلك . وقال ابن أبي جمرة : أجابت الملائكة بأكثر مما سئلوا عنه ، لأنهم علموا أنه سؤال يستدعي التعطف على بني آدم فزادوا في موجب ذلك .
قلت : ووقع في صحيح nindex.php?page=showalam&ids=13113ابن خزيمة من طريق الأعمش عن أبي صالح عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة في آخر هذا الحديث nindex.php?page=hadith&LINKID=842037فاغفر لهم يوم الدين قال : ويستفاد منه أن nindex.php?page=treesubj&link=24589الصلاة أعلى العبادات لأنه عنها وقع السؤال والجواب ، وفيه الإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان وفي غيرهما طائفة واحدة والإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين ، وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح ، وأن nindex.php?page=treesubj&link=30357الأعمال ترفع آخر النهار ، فمن كان حينئذ في طاعة بورك في رزقه وفي عمله ، والله أعلم .
ويترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما والاهتمام بهما ، وفيه تشريف هذه الأمة على غيرها ، ويستلزم تشريف نبيها على غيره . وفيه الإخبار بالغيوب ، ويترتب عليه زيادة الإيمان . وفيه الإخبار بما نحن فيه من ضبط أحوالنا حتى نتيقظ ونتحفظ في الأوامر والنواهي ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رسل ربنا وسؤال ربنا عنا . وفيه إعلامنا بحب ملائكة الله لنا لنزداد فيهم حبا ونتقرب إلى الله بذلك . وفيه كلام الله تعالى مع ملائكته . وغير ذلك من الفوائد والله أعلم . وسيأتي الكلام على ذلك في " باب قوله ثم يعرج " في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى .