(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=69nindex.php?page=treesubj&link=28977وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ) أي وما على الذين يتقون الله من حساب الخائضين في آياته شيء ما ، فلا يحاسبون على شيء من خوضهم ولا على غيره من أعمالهم التي يحاسبهم الله تعالى عليها إذا هم تجنبوهم وأعرضوا عنهم كما أمروا ، وقد روي هذا المعنى عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير قال : ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا تجنبتهم وأعرضت عنهم ، قيل : هو رخصة ، ومعناه : ما عليهم من حسابهم من شيء إن قعدوا معهم - وأنه منسوخ بآية سورة النساء إذ قال فيها : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=140إنكم إذا مثلهم ) ( 4 : 140 ) وروي عن
مجاهد والسدي nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج ، وهو بعيد جدا ، لأنه لا يصح أن يتصل بالنهي ما يبطله وهو قد نزل معه كما هنا . قال
الألوسي : وفي الطود الراسخ في المنسوخ والناسخ أنه لا نسخ عند أهل التحقيق في ذلك ؛ لأن قوله سبحانه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=69وما على الذين ) إلخ . خبر ، ولا نسخ في الأخبار ، فافهم . انتهى . وقد يقال : إن الجملة إنشائية المعنى ، فهي حكم شرعي معناه عدم مؤاخذة أحد بذنب غيره ، لا خبر من الأخبار التي قالوا إنها لا تنسخ ، والعمدة في رد القول بنسخها ما ذكر آنفا ، فتعين تقدير الشرط الذي ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير ، أو أن يقال في التقدير : وما على الذين يتقون الله من حساب الخائضين من شيء ؛ إذ كانوا يقعدون معهم قبل النهي كارهين
[ ص: 431 ] لخوضهم وباطلهم ، وكان يشق عليهم تجنبهم والإعراض عنهم ، فليس سبب النهي أنهم كانوا يحملون من أوزارهم شيئا لو لم ينهوا عنه ; فإنه تعالى ما أخر النهي إلا إلى وقته المناسب له ، ولا يؤاخذهم بما كان منهم قبله ، فهو كقوله تعالى بعد تحريم محرمات النكاح : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=23إلا ما قد سلف ) ( 4 : 22 ، 23 ) .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=69nindex.php?page=treesubj&link=28977ولكن ذكرى لعلهم يتقون ) أي : ولكن جعل النهي موعظة وذكرى ؛ لعل هؤلاء المؤمنين بالله تعالى يتقون أيضا كل ما لا ينبغي لهم من سماع الخوض في آيات الله بالباطل ، فهذه التقوى المرجوة بالنهي هي تقوى خاصة ، وتلك التقوى هي الكلية العامة ، هذا هو الوجه عندنا . والذكرى هنا بمعنى التذكير ، وفي الآية السابقة بمعنى التذكر كما تقدم ، وقيل : إن المعنى : ما عليهم من حسابهم من شيء إن أعرضوا أو قعدوا معهم ، ولكن عليهم أن يذكروهم ، أي يعظوهم وينكروا عليهم في تلك الحال ؛ لعلهم يتقون الخوض ولو في حضرتهم .
ذكروا هذا المعنى للذكرى على كل من التقديرين المتضادين . قال
ابن جبير : ذكروهم ذلك ، وأخبروهم أنه يشق عليكم فيتقون مساءتكم ، وكأنه نسي أن السورة نزلت في الوقت الذي كان المشركون يضطهدون فيه المؤمنين أشد الاضطهاد ، ويتحرون مساءتهم ، ويكرهون مسرتهم ، وقد يتجه جعل التذكير لهم على تقدير القعود معهم إذا صح ما ذكره
الرازي وغيره عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : قال المسلمون : لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لما قدرنا أن نجلس في
المسجد الحرام ، وأن نطوف بالبيت ، فنزلت هذه الآية ، وحصلت الرخصة فيها للمؤمنين بأن يقعدوا معهم ويذكروهم ويفهموهم . انتهى . وهو معارض بنزول السورة دفعة واحدة إلا ما استثني ، وليس هذا منه . ومن البديهي أن الطواف بالبيت لا يستلزم القعود مع المستهزئين ولا الإقبال عليهم ، وأما القعود بالبيت فلا ضرر في تركه إذا استلزم أن يكون مع المستهزئين . ومن الغريب أن
الرازي اكتفى بهذا الوجه الضعيف في تفسير الآية ، ولم يذكر غيره ؛ لا نقلا ولا من عند نفسه .
أشرنا في تفسير الآية السابقة إلى أن جعل هذه الآية في جماعة المتقين تدل على أنهم هم المرادون فيما قبلها بخطاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من دونه ، ويؤكده الرجوع إلى الخطاب في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=70nindex.php?page=treesubj&link=28977وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا ) تقدم تفسير اللعب واللهو ونكتة تقديم أحدهما على الآخر في تفسير الآية ( 32 ) والمعنى هنا ودع أيها الرسول ، ومثله فيه من تبعه من المؤمنين - الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا من هؤلاء المشركين ، وهم المقصودون أولا وبالذات ، ومثلهم كل من يعمل على شاكلتهم من المؤمنين
وأهل الكتاب وغرتهم الحياة الدنيا الفانية ، فآثروها على الحياة الآخرة الباقية ، بل أنكرها المشركون ، ولم
[ ص: 432 ] يستعد لها الفاسقون ، أما اتخاذهم دينهم لعبا ولهوا ففيه وجوه ، المتبادر منها أن أعمال دينهم التي يعملونها لما لم تكن مزكية للأنفس ، ولا مهذبة للأخلاق ، ولا واقعة على الوجه الذي يرضي الرحمن ويعد المرء للقائه في دار الكرامة والرضوان ، ولا مصلحة لشئون الاجتماع والعمران ، كانت إما صرفا للوقت فيما لا فائدة فيه وهو معنى اللعب ، وإما شاغلة عن بعض الهموم والشئون وهو اللهو ، ويظهر ذلك في أعمال الدين الاجتماعية كالمواسم والأعياد ، وقد روي القول به عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنه - قال : جعل الله لكل قوم عيدا يعظمونه ، ويصلون فيه ، ويعمرونه بذكر الله تعالى ، ثم إن الناس - أكثرهم من المشركين
وأهل الكتاب - اتخذوا عيدهم لهوا ولعبا ، غير المسلمين ، فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله تعالى . وهو يريد أن هذا مما تدل عليه الآية لا أنه كل المراد منها ، وهذا أحد وجوه خمسة ذكرها
الرازي في الآية وجعله الرابع .
وأما الوجوه الأخرى ( فأولها ) أنهم اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه - وهو دين الإسلام - لعبا ولهوا حيث سخروا به واستهزءوا به . ( الثاني ) اتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام دينا لهم . ( الثالث ) أن الكفار كانوا يحكمون في دين الله بمجرد التشهي والتمني مثل تحريم السوائب والبحائر ، وما كانوا يحتاطون في أمر الدين ألبتة ، ويكتفون فيه بمجرد التقليد ، فعبر الله عن ذلك بأنهم اتخذوا دينهم لعبا ولهوا . ( الخامس ) قال - وهو الأقرب - : إن المحقق في الدين هو الذي ينصر الدين لأجل أنه أقام الدليل على أنه حق وصدق وصواب ، فأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرياسة وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم الذين نصروا الدين للدنيا ، وقد حكم الله على الدنيا في سائر الآيات بأنها لعب ولهو ، فالمراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=70وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ) هو الإشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه ، وإذا تأملت في حال أكثر الخلق وجدتهم موصوفين بهذه الصفة وداخلين تحت هذه الحالة ، والله أعلم . اهـ .
أقول : كان ينبغي أن يذكر نحوا من هذا في التفسير (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=70وغرتهم الحياة الدنيا ) وقد جعل هو هذه الجملة مؤيدة له ، وجعله هو المراد من اللعب واللهو ، ذاهلا عن كونه لا يظهر في كفار
قريش الذين قصدوا به أولا وبالذات ، والوجه الأول اعتمده المتأخرون ، وفيه أنه مخالف لقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=6لكم دينكم ولي دين ) ( 109 : 6 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=57لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا ) ( 5 : 57 ) فالله تعالى لا يضيف دين الإسلام إلى الكفار . وأما معنى غرتهم الحياة الدنيا فهو أنها خدعتهم وأغفلتهم عن أنفسهم وما هي مستعدة له من الكمال ، وعن كون البعث حقا ، والعدل المحض من المحال ، فاشتغلوا بلذاتها الحقيرة الفانية المشوبة بالمنغصات عما جاءهم من الحق مؤيدا بالحجج القيمة والآيات البينات ، فاستبدلوا الخوض فيها ، بما كان يجب من فقهها وتدبرها .
[ ص: 433 ] وهذا الأمر بترك هؤلاء المغرورين قد جاء على سبيل التهديد كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=3ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ) ( 15 : 3 ) وهو تهديد بعذاب الدنيا ، بدليل قوله بعده : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=4وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=5ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ) ( 4 ، 5 ) وورد مثله عذاب الآخرة في الآيتين ( 43 : 83 ، 70 : 42 ) وقيل : المراد به الأمر بالكف عنهم ، وترك التعرض لهم ، وأنه نسخ بآية القتال ، روي عن
قتادة وضعفه المحققون . وإذا لم يتضمن معنى التهديد كان معناه : ذرهم ولا تهتم بخوضهم ولا تكذيبهم ، وعليك ما كلفته وحملته من تبليغ دعوة ربك ، وذلك قوله عز وجل :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=70nindex.php?page=treesubj&link=28977وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ) البسل مصدر بسله ، يطلق بمعنى حبس الشيء ومنعه بالقهر ، وبمعنى الرهن والإباحة ، وأبسل الشيء كبسله : أسلمه للهلاك ، ومنه أسد باسل ورجل باسل ، أي شجاع ممتنع على أقرانه ، أو مانع لما يريد حفظه أن ينال ، والضمير في قوله : ( به ) للقرآن المعلوم بقرينة الحال ; لأنه هو الذكر الذي بعث به الرسول المذكر ، وبقرينة المقال كقوله تعالى في آخر سورة " ق " : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=45فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) ( 50 : 45 ) والقرآن يفسر بعضه بعضا كما قالوا . وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ثلاثة أقوال في معنى الإبسال : الفضيحة ، والإسلام للهلاك ، والحبس في النار . وكان الأخير جوابه
لنافع بن الأزرق ، وهو تفسير بالأخص لبيان المراد ، قال
نافع : أوتعرف العرب ذلك في كلامها ؟ قال : نعم ، أما سمعت
زهيرا وهو يقول :
وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع وقلب مبسل غلقا
.
والمعنى : وذكر الناس وعظهم بالقرآن اتقاء أن تبسل كل نفس في الآخرة بما كسبت ، أي اتقاء حبسها ، أو رهنها في العذاب ، أو إسلامها إليه ، أو منعها من نعيم الجنة ، وتفاديا من ذلك بما بينه الذكر الحكيم من أسباب النجاة والسعادة . ويؤيد التقدير الأول قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=38كل نفس بما كسبت رهينة nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=39إلا أصحاب اليمين ) ( 74 : 38 ، 39 ) الآية . وقدر بعض المفسرين " مخافة " أو " كراهة " أن تبسل . وبعضهم : لئلا تبسل .
ثم وصف تعالى النفس البسلة أو علل إبسالها بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=70nindex.php?page=treesubj&link=28977ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ) أي : وليس لها من غير الله ولي ، أي ناصر ينصرها ، أو قريب يتولى أمرها ، ولا شفيع يشفع لها عند الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=18ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) ( 40 : 18 ) في يوم وصفه تعالى بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=254لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ) ( 2 : 254 ) والأمر فيه لله وحده (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=44قل لله الشفاعة جميعا ) ( 39 : 44 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ( 2 : 255 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=23ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) ( 34 : 23 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=28ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ) ( 21 : 28 )
[ ص: 434 ] فكل نفس تأتيه في ذلك اليوم - وهو تعالى غير راض عنها - فهي مبسلة بما كسبت من سيئ عملها .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=70nindex.php?page=treesubj&link=28977وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها ) العدل - بالفتح - ما عادل الشيء وساواه من غير جنسه ، كما تقدم في تفسير (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95أو عدل ذلك صياما ) ( 5 : 95 ) وهو هنا بمعنى الفداء ; لأن الفادي يعدل المفدي بمثله كما قال الزمخشري ، وعدل هذا يتعدى إلى المفعول به بالباء كما قال في أول هذه السورة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1بربهم يعدلون ) فكل عدل منصوب هنا على المصدرية لا المفعولية ، والمعنى : وإن تفد النفس المبسلة كل نوع من أنواع الفداء لا يؤخذ منها - أي لا يقع الأخذ ولا يحصل ، فهو على حد أكل من القصعة وسير من البلد ; لأن العدل - وهو مصدر - لا يؤخذ أخذا ، ويجوز أن يضمن الأخذ معنى القبول ، وأن يعاد الضمير على العدل ، وهو الفداء بمعنى المفدي به وإن عد هنا من قبيل الاستخدام ، وقد استعمل العدل في سورة البقرة بمعنى المعدول به ، أي الفدية ، وأسند إلى الأخذ وإلى القبول ، قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=48واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ) ( 2 : 48 ) . وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=123واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون ) ( 2 : 123 ) .
والمراد من هذه الآيات وما في معناها إبطال أصل من أصول الوثنية ، وهو تعليق النجاة في الآخرة - كنيل كثير من المقاصد في الدنيا - بتقديم الفدية لله تعالى ، أو بشفاعة الشافعين عنده أي بوساطة الوسطاء - وتقرير أصل الدين الإلهي وهو أن النجاة في الآخرة ، ورضوان الله ، والقرب منه لا تنال إلا بما شرعه الله على ألسنة رسله من الإيمان والإسلام - وبعبارة أخرى بالعمل الصالح الذي تتزكى به الأنفس مع الإيمان الإذعاني بالله وبرسله وما جاءوا به ، ومن إبسالهم كسبهم للسيئات والخطايا ، واتخاذهم الدين لعبا ولهوا ، وغرورهم بالحياة الدنيا ، فلا تنفعهم شفاعة ولا تقبل منهم فدية .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=70nindex.php?page=treesubj&link=28977أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا ) أي أولئك الموصوفون بما ذكرهم ، الذين أسلموا للهلكة ، وارتهنوا ، وحبسوا عن دار السعادة بسبب ما كسبوا من الأوزار والآثام ، حتى أحاطت بهم خطاياهم ، ولم يكن لهم من دينهم الذي اتخذوه لعبا ولهوا ما يزجرهم عنها . وماذا يكون جزاؤهم بعد الإبسال ؟ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=70nindex.php?page=treesubj&link=28977لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) أي لهم شراب من ماء حميم ، وهو الشديد الحرارة - ويطلق على الشديد البرودة أيضا - وعذاب شديد الألم بسبب كفرهم الذي ظلوا مستمرين عليه طول حياتهم ، حتى صرفهم عما جعله الله تعالى - لو اتبعوه - سبب نجاتهم . أو التقدير : أولئك المبسلون بكسبهم ، لهم شراب من حميم وعذاب أليم باستمرارهم على كفرهم ; وبهذا ظهر الفرق بين التعليل الأول بالكسب والتعليل الثاني بالكفر ، فالأول ذكر بصيغة الماضي ، والثاني بصيغة المستقبل الدال
[ ص: 435 ] على الاستمرار ، فلولا رسوخهم في الكفر الذي أفسد فطرتهم حتى أصروا عليه إصرارا دائما دل على أنه لم يبق فيهم استعداد للحق والخير - لما كان مجرد كسب بعض السيئات المنقطعة ينهض سببا لهلاكهم ووقوعهم في هذا العذاب كله . وفي الآية أكبر العبر لمن يفقه الكلام ، ولا يغتر بلقب الإسلام ، فإنما المسلم من اتخذ إمامه القرآن وسنة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام ، لا من اغتر بالأمان والأوهام ، وانخدع بالرؤى والأحلام .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=69nindex.php?page=treesubj&link=28977وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ) أَيْ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللَّهَ مِنْ حِسَابِ الْخَائِضِينَ فِي آيَاتِهِ شَيْءٌ مَا ، فَلَا يُحَاسَبُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَوْضِهِمْ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يُحَاسِبُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا إِذَا هُمْ تَجَنَّبُوهُمْ وَأَعْرَضُوا عَنْهُمْ كَمَا أُمِرُوا ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=15992سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : مَا عَلَيْكَ أَنْ يَخُوضُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ إِذَا تَجَنَّبْتَهُمْ وَأَعْرَضْتَ عَنْهُمْ ، قِيلَ : هُوَ رُخْصَةٌ ، وَمَعْنَاهُ : مَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ إِنْ قَعَدُوا مَعَهُمْ - وَأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِذْ قَالَ فِيهَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=140إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ) ( 4 : 140 ) وَرُوِيَ عَنْ
مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ nindex.php?page=showalam&ids=13036وَابْنِ جُرَيْجٍ ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَّصِلَ بِالنَّهْيِ مَا يُبْطِلُهُ وَهُوَ قَدْ نَزَلَ مَعَهُ كَمَا هُنَا . قَالَ
الْأَلُوسِيُّ : وَفِي الطَّوْدِ الرَّاسِخِ فِي الْمَنْسُوخِ وَالنَّاسِخِ أَنَّهُ لَا نَسْخَ عِنْدَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=69وَمَا عَلَى الَّذِينَ ) إِلَخْ . خَبَرٌ ، وَلَا نَسْخَ فِي الْأَخْبَارِ ، فَافْهَمْ . انْتَهَى . وَقَدْ يُقَالُ : إِنَّ الْجُمْلَةَ إِنْشَائِيَّةُ الْمَعْنَى ، فَهِيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مَعْنَاهُ عَدَمُ مُؤَاخَذَةِ أَحَدٍ بِذَنْبِ غَيْرِهِ ، لَا خَبَرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي قَالُوا إِنَّهَا لَا تُنْسَخُ ، وَالْعُمْدَةُ فِي رَدِّ الْقَوْلِ بِنَسْخِهَا مَا ذُكِرَ آنِفًا ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=15992سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، أَوْ أَنْ يُقَالَ فِي التَّقْدِيرِ : وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللَّهَ مِنْ حِسَابِ الْخَائِضِينَ مِنْ شَيْءٍ ؛ إِذْ كَانُوا يَقْعُدُونَ مَعَهُمْ قَبْلَ النَّهْيِ كَارِهِينَ
[ ص: 431 ] لِخَوْضِهِمْ وَبَاطِلِهِمْ ، وَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ تَجَنُّبُهُمْ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ ، فَلَيْسَ سَبَبُ النَّهْيِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْمِلُونَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا لَوْ لَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ ; فَإِنَّهُ تَعَالَى مَا أَخَّرَ النَّهْيَ إِلَّا إِلَى وَقْتِهِ الْمُنَاسِبِ لَهُ ، وَلَا يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ قَبْلَهُ ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ تَحْرِيمِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=23إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ) ( 4 : 22 ، 23 ) .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=69nindex.php?page=treesubj&link=28977وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) أَيْ : وَلَكِنْ جُعِلَ النَّهْيُ مَوْعِظَةً وَذِكْرَى ؛ لَعَلَّ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى يَتَّقُونَ أَيْضًا كُلَّ مَا لَا يَنْبَغِي لَهُمْ مِنْ سَمَاعِ الْخَوْضِ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِالْبَاطِلِ ، فَهَذِهِ التَّقْوَى الْمَرْجُوَّةُ بِالنَّهْيِ هِيَ تَقْوَى خَاصَّةٌ ، وَتِلْكَ التَّقْوَى هِيَ الْكُلِّيَّةُ الْعَامَّةُ ، هَذَا هُوَ الْوَجْهُ عِنْدَنَا . وَالذِّكْرَى هُنَا بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ ، وَفِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِمَعْنَى التَّذَكُّرِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقِيلَ : إِنَّ الْمَعْنَى : مَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَعْرَضُوا أَوْ قَعَدُوا مَعَهُمْ ، وَلَكِنْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُذَكِّرُوهُمْ ، أَيْ يَعِظُوهُمْ وَيُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ ؛ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الْخَوْضَ وَلَوْ فِي حَضْرَتِهِمْ .
ذَكَرُوا هَذَا الْمَعْنَى لِلذِّكْرَى عَلَى كُلٍّ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ . قَالَ
ابْنُ جُبَيْرٍ : ذَكِّرُوهُمْ ذَلِكَ ، وَأَخْبِرُوهُمْ أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْكُمْ فَيَتَّقُونَ مُسَاءَتَكُمْ ، وَكَأَنَّهُ نَسِيَ أَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَضْطَهِدُونَ فِيهِ الْمُؤْمِنِينَ أَشَدَّ الِاضْطِهَادِ ، وَيَتَحَرَّوْنَ مُسَاءَتَهُمْ ، وَيَكْرَهُونَ مَسَرَّتَهُمْ ، وَقَدْ يَتَّجِهُ جَعْلُ التَّذْكِيرِ لَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ إِذَا صَحَّ مَا ذَكَرَهُ
الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ الْمُسْلِمُونَ : لَئِنْ كُنَّا كُلَّمَا اسْتَهْزَأَ الْمُشْرِكُونَ بِالْقُرْآنِ وَخَاضُوا فِيهِ قُمْنَا عَنْهُمْ لَمَا قَدَرْنَا أَنْ نَجْلِسَ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَأَنْ نَطُوفَ بِالْبَيْتِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، وَحَصَلَتِ الرُّخْصَةُ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقْعُدُوا مَعَهُمْ وَيُذَكِّرُوهُمْ وَيُفَهِّمُوهُمْ . انْتَهَى . وَهُوَ مُعَارَضٌ بِنُزُولِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ . وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقُعُودَ مَعَ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَلَا الْإِقْبَالَ عَلَيْهِمْ ، وَأَمَّا الْقُعُودُ بِالْبَيْتِ فَلَا ضَرَرَ فِي تَرْكِهِ إِذَا اسْتَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُسْتَهْزِئِينَ . وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ
الرَّازِيَّ اكْتَفَى بِهَذَا الْوَجْهِ الضَّعِيفِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ ؛ لَا نَقْلًا وَلَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ .
أَشَرْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ إِلَى أَنَّ جَعْلَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي جَمَاعَةِ الْمُتَّقِينَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمُرَادُونَ فِيمَا قَبْلَهَا بِخِطَابِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ دُونِهِ ، وَيُؤَكِّدُهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=70nindex.php?page=treesubj&link=28977وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَنُكْتَةِ تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ( 32 ) وَالْمَعْنَى هُنَا وَدِّعْ أَيُّهَا الرَّسُولُ ، وَمِثْلُهُ فِيهِ مَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ ، وَهُمُ الْمَقْصُودُونَ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ، وَمِثْلُهُمْ كُلُّ مَنْ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا الْفَانِيَةُ ، فَآثَرُوهَا عَلَى الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ ، بَلْ أَنْكَرَهَا الْمُشْرِكُونَ ، وَلَمْ
[ ص: 432 ] يَسْتَعِدَّ لَهَا الْفَاسِقُونَ ، أَمَّا اتِّخَاذُهُمْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا فَفِيهِ وُجُوهٌ ، الْمُتَبَادِرُ مِنْهَا أَنَّ أَعْمَالَ دِينَهُمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُزَكِّيَةً لِلْأَنْفُسِ ، وَلَا مُهَذِّبَةً لِلْأَخْلَاقِ ، وَلَا وَاقِعَةً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرْضِي الرَّحْمَنَ وَيُعِدُّ الْمَرْءَ لِلِقَائِهِ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ وَالرِّضْوَانِ ، وَلَا مُصْلِحَةً لِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ ، كَانَتْ إِمَّا صَرْفًا لِلْوَقْتِ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَهُوَ مَعْنَى اللَّعِبِ ، وَإِمَّا شَاغِلَةٌ عَنْ بَعْضِ الْهُمُومِ وَالشُّئُونِ وَهُوَ اللَّهْوُ ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي أَعْمَالِ الدِّينِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالْمَوَاسِمِ وَالْأَعْيَادِ ، وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْلُ بِهِ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا يُعَظِّمُونَهُ ، وَيُصَلُّونَ فِيهِ ، وَيُعَمِّرُونَهُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ - أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وَأَهْلِ الْكِتَابِ - اتَّخَذُوا عِيدَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا ، غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّهُمُ اتَّخَذُوا عِيدَهُمْ كَمَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ هَذَا مِمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ لَا أَنَّهُ كُلُّ الْمُرَادِ مِنْهَا ، وَهَذَا أَحَدُ وُجُوهٍ خَمْسَةٍ ذَكَرَهَا
الرَّازِيُّ فِي الْآيَةِ وَجَعَلَهُ الرَّابِعَ .
وَأَمَّا الْوُجُوهُ الْأُخْرَى ( فَأَوَّلُهَا ) أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمُ الَّذِي كُلِّفُوهُ وَدُعُوا إِلَيْهِ - وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ - لَعِبًا وَلَهْوًا حَيْثُ سَخِرُوا بِهِ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ . ( الثَّانِي ) اتَّخَذُوا مَا هُوَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ دِينًا لَهُمْ . ( الثَّالِثُ ) أَنَّ الْكَفَّارَ كَانُوا يَحْكُمُونَ فِي دِينِ اللَّهِ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالتَّمَنِّي مِثْلَ تَحْرِيمِ السَّوَائِبِ وَالْبَحَائِرِ ، وَمَا كَانُوا يَحْتَاطُونَ فِي أَمْرِ الدِّينِ أَلْبَتَّةَ ، وَيَكْتَفُونَ فِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ ، فَعَبَّرَ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا . ( الْخَامِسُ ) قَالَ - وَهُوَ الْأَقْرَبُ - : إِنَّ الْمُحَقِّقَ فِي الدِّينِ هُوَ الَّذِي يَنْصُرُ الدِّينَ لِأَجْلِ أَنَّهُ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَصَوَابٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُ لِيَتَوَسَّلُوا بِهِ إِلَى أَخْذِ الْمَنَاصِبِ وَالرِّيَاسَةِ وَغَلَبَةِ الْخَصْمِ وَجَمْعِ الْأَمْوَالِ فَهُمُ الَّذِينَ نَصَرُوا الدِّينَ لِلدُّنْيَا ، وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ عَلَى الدُّنْيَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ بِأَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=70وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا ) هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَنْ يَتَوَسَّلُ بِدِينِهِ إِلَى دُنْيَاهُ ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ فِي حَالِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ وَجَدْتَهُمْ مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَدَاخِلِينَ تَحْتَ هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . اهـ .
أَقُولُ : كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ نَحْوًا مِنْ هَذَا فِي التَّفْسِيرِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=70وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) وَقَدْ جَعَلَ هُوَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُؤَيِّدَةً لَهُ ، وَجَعَلَهُ هُوَ الْمُرَادَ مِنَ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ ، ذَاهِلًا عَنْ كَوْنِهِ لَا يَظْهَرُ فِي كُفَّارِ
قُرَيْشٍ الَّذِينَ قُصِدُوا بِهِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ اعْتَمَدَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ ، وَفِيهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=6لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِينِ ) ( 109 : 6 ) وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=57لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا ) ( 5 : 57 ) فَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُضِيفُ دِينَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفَّارِ . وَأَمَّا مَعْنَى غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّهَا خَدَعَتْهُمْ وَأَغْفَلَتْهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَا هِيَ مُسْتَعِدَّةٌ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ ، وَعَنْ كَوْنِ الْبَعْثِ حَقًّا ، وَالْعَدْلِ الْمَحْضَ مِنَ الْمُحَالِ ، فَاشْتَغَلُوا بِلَذَّاتِهَا الْحَقِيرَةِ الْفَانِيَةِ الْمَشُوبَةِ بِالْمُنَغِّصَاتِ عَمَّا جَاءَهُمْ مِنَ الْحَقِّ مُؤَيَّدًا بِالْحُجَجِ الْقَيِّمَةِ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ ، فَاسْتَبْدَلُوا الْخَوْضَ فِيهَا ، بِمَا كَانَ يَجِبُ مِنْ فِقْهِهَا وَتُدَبُّرِهَا .
[ ص: 433 ] وَهَذَا الْأَمْرُ بِتَرْكِ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورِينَ قَدْ جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=3ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) ( 15 : 3 ) وَهُوَ تَهْدِيدٌ بِعَذَابِ الدُّنْيَا ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=4وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=5مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ) ( 4 ، 5 ) وَوَرَدَ مِثْلُهُ عَذَابُ الْآخِرَةِ فِي الْآيَتَيْنِ ( 43 : 83 ، 70 : 42 ) وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ ، وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ ، وَأَنَّهُ نُسِخَ بِآيَةِ الْقِتَالِ ، رُوِيَ عَنْ
قَتَادَةَ وَضَعَّفَهُ الْمُحَقِّقُونَ . وَإِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ مَعْنَى التَّهْدِيدِ كَانَ مَعْنَاهُ : ذَرْهُمْ وَلَا تَهْتَمَّ بِخَوْضِهِمْ وَلَا تَكْذِيبِهِمْ ، وَعَلَيْكَ مَا كُلِّفْتَهُ وَحَمَلْتَهُ مِنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّكَ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=70nindex.php?page=treesubj&link=28977وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ) الْبَسْلُ مَصْدَرُ بَسَلَهُ ، يُطْلَقُ بِمَعْنَى حَبْسِ الشَّيْءِ وَمَنْعِهِ بِالْقَهْرِ ، وَبِمَعْنَى الرَّهْنِ وَالْإِبَاحَةِ ، وَأَبْسَلَ الشَّيْءَ كَبَسَلَهُ : أَسْلَمَهُ لِلْهَلَاكِ ، وَمِنْهُ أَسَدٌ بَاسِلٌ وَرَجُلٌ بَاسِلٌ ، أَيْ شُجَاعٌ مُمْتَنِعٌ عَلَى أَقْرَانِهِ ، أَوْ مَانِعٌ لِمَا يُرِيدُ حِفْظَهُ أَنْ يُنَالَ ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : ( بِهِ ) لِلْقُرْآنِ الْمَعْلُومِ بِقَرِينَةِ الْحَالِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الذِّكْرُ الَّذِي بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ الْمُذَكِّرُ ، وَبِقَرِينَةِ الْمُقَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةٍ " ق " : (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=45فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ) ( 50 : 45 ) وَالْقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَمَا قَالُوا . وَرُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَعْنَى الْإِبْسَالِ : الْفَضِيحَةُ ، وَالْإِسْلَامُ لِلْهَلَاكِ ، وَالْحَبْسُ فِي النَّارِ . وَكَانَ الْأَخِيرُ جَوَابَهُ
لِنَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ بِالْأَخَصِّ لِبَيَانِ الْمُرَادِ ، قَالَ
نَافِعٌ : أَوَتَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي كَلَامِهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، أَمَا سَمِعْتَ
زُهَيْرًا وَهُوَ يَقُولُ :
وَفَارَقَتْكَ بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ يَوْمَ الْوَدَاعِ وَقَلْبٍ مُبْسَلٍ غَلِقًا
.
وَالْمَعْنَى : وَذَكِّرِ النَّاسَ وَعِظْهُمْ بِالْقُرْآنِ اتِّقَاءَ أَنْ تُبْسَلَ كُلُّ نَفْسٍ فِي الْآخِرَةِ بِمَا كَسَبَتْ ، أَيِ اتِّقَاءَ حَبْسِهَا ، أَوْ رَهْنِهَا فِي الْعَذَابِ ، أَوْ إِسْلَامِهَا إِلَيْهِ ، أَوْ مَنْعِهَا مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ ، وَتَفَادِيًا مِنْ ذَلِكَ بِمَا بَيَّنَهُ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ وَالسَّعَادَةِ . وَيُؤَيِّدُ التَّقْدِيرَ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=38كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=39إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ) ( 74 : 38 ، 39 ) الْآيَةَ . وَقَدَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ " مَخَافَةَ " أَوْ " كَرَاهَةَ " أَنْ تُبْسَلَ . وَبَعْضُهُمْ : لِئَلَّا تُبْسَلَ .
ثُمَّ وَصَفَ تَعَالَى النَّفْسَ الْبِسِلَةَ أَوْ عَلَّلَ إِبْسَالَهَا بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=70nindex.php?page=treesubj&link=28977لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ ) أَيْ : وَلَيْسَ لَهَا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ وَلِيٌّ ، أَيْ نَاصِرٌ يَنْصُرُهَا ، أَوْ قَرِيبٌ يَتَوَلَّى أَمْرَهَا ، وَلَا شَفِيعٌ يَشْفَعُ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=18مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) ( 40 : 18 ) فِي يَوْمٍ وَصَفَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=254لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ) ( 2 : 254 ) وَالْأَمْرُ فِيهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=44قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةِ جَمِيعًا ) ( 39 : 44 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) ( 2 : 255 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=23وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) ( 34 : 23 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=28وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) ( 21 : 28 )
[ ص: 434 ] فَكُلُّ نَفْسٍ تَأْتِيهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ - وَهُوَ تَعَالَى غَيْرُ رَاضٍ عَنْهَا - فَهِيَ مُبْسَلَةٌ بِمَا كَسَبَتْ مِنْ سَيِّئِ عَمَلِهَا .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=70nindex.php?page=treesubj&link=28977وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا ) الْعَدْلُ - بِالْفَتْحِ - مَا عَادَلَ الشَّيْءَ وَسَاوَاهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ) ( 5 : 95 ) وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْفِدَاءِ ; لِأَنَّ الْفَادِيَ يَعْدِلُ الْمَفْدِيِّ بِمِثْلِهِ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ ، وَعَدْلُ هَذَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ بِالْبَاءِ كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) فَكُلُّ عَدْلٍ مَنْصُوبٌ هُنَا عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ لَا الْمَفْعُولِيَّةِ ، وَالْمَعْنَى : وَإِنْ تَفْدِ النَّفْسُ الْمُبْسَلَةُ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِدَاءِ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا - أَيْ لَا يَقَعُ الْأَخْذُ وَلَا يَحْصُلُ ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ أَكْلٍ مِنَ الْقَصْعَةِ وَسَيْرٍ مِنَ الْبَلَدِ ; لِأَنَّ الْعَدْلَ - وَهُوَ مَصْدَرٌ - لَا يُؤْخَذُ أَخْذًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ الْأَخْذُ مَعْنَى الْقَبُولِ ، وَأَنْ يُعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْعَدْلِ ، وَهُوَ الْفِدَاءُ بِمَعْنَى الْمَفْدِيِّ بِهِ وَإِنْ عُدَّ هُنَا مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِخْدَامِ ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ الْعَدْلُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَعْنَى الْمَعْدُولِ بِهِ ، أَيِ الْفِدْيَةِ ، وَأُسْنِدَ إِلَى الْأَخْذِ وَإِلَى الْقَبُولِ ، قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=48وَاتَّقَوْا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ) ( 2 : 48 ) . وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=123وَاتَّقَوْا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ) ( 2 : 123 ) .
وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا إِبْطَالُ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْوَثَنِيَّةِ ، وَهُوَ تَعْلِيقُ النَّجَاةِ فِي الْآخِرَةِ - كَنَيْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْمَقَاصِدِ فِي الدُّنْيَا - بِتَقْدِيمِ الْفِدْيَةِ لِلَّهِ تَعَالَى ، أَوْ بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ عِنْدَهُ أَيْ بِوَسَاطَةِ الْوُسَطَاءِ - وَتَقْرِيرُ أَصْلِ الدِّينِ الْإِلَهِيِّ وَهُوَ أَنَّ النَّجَاةَ فِي الْآخِرَةِ ، وَرِضْوَانَ اللَّهِ ، وَالْقِرَبَ مِنْهُ لَا تُنَالُ إِلَّا بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ - وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي تَتَزَكَّى بِهِ الْأَنْفُسُ مَعَ الْإِيمَانِ الْإِذْعَانِيِّ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ وَمَا جَاءُوا بِهِ ، وَمِنْ إِبْسَالِهِمْ كَسْبُهُمْ لِلسَّيِّئَاتِ وَالْخَطَايَا ، وَاتِّخَاذُهُمُ الدِّينَ لَعِبًا وَلَهْوًا ، وَغُرُورُهُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، فَلَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةٌ وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ فِدْيَةٌ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=70nindex.php?page=treesubj&link=28977أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا ) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذَكَرَهُمْ ، الَّذِينَ أُسْلِمُوا لِلْهَلَكَةِ ، وَارْتُهِنُوا ، وَحُبِسُوا عَنْ دَارِ السَّعَادَةِ بِسَبَبِ مَا كَسَبُوا مِنَ الْأَوْزَارِ وَالْآثَامِ ، حَتَّى أَحَاطَتْ بِهِمْ خَطَايَاهُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ دِينِهِمُ الَّذِي اتَّخَذُوهُ لَعِبًا وَلَهْوًا مَا يَزْجُرُهُمْ عَنْهَا . وَمَاذَا يَكُونُ جَزَاؤُهُمْ بَعْدَ الْإِبْسَالِ ؟ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=70nindex.php?page=treesubj&link=28977لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) أَيْ لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ مَاءٍ حَمِيمٍ ، وَهُوَ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ - وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّدِيدِ الْبُرُودَةِ أَيْضًا - وَعَذَابٌ شَدِيدُ الْأَلَمِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمُ الَّذِي ظَلُّوا مُسْتَمِرِّينَ عَلَيْهِ طُولَ حَيَاتِهِمْ ، حَتَّى صَرَفَهُمْ عَمَّا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَوِ اتَّبَعُوهُ - سَبَبَ نَجَاتِهِمْ . أَوِ التَّقْدِيرُ : أُولَئِكَ الْمُبْسَلُونَ بِكَسْبِهِمْ ، لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ ; وَبِهَذَا ظَهَرَ الْفِرَقُ بَيْنَ التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ بِالْكَسْبِ وَالتَّعْلِيلِ الثَّانِي بِالْكُفْرِ ، فَالْأَوَّلُ ذُكِرَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي ، وَالثَّانِي بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ الدَّالِّ
[ ص: 435 ] عَلَى الِاسْتِمْرَارِ ، فَلَوْلَا رُسُوخُهُمْ فِي الْكُفْرِ الَّذِي أَفْسَدَ فِطْرَتَهُمْ حَتَّى أَصَرُّوا عَلَيْهِ إِصْرَارًا دَائِمًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِمُ اسْتِعْدَادٌ لِلْحَقِّ وَالْخَيْرِ - لَمَا كَانَ مُجَرَّدُ كَسْبِ بَعْضِ السَّيِّئَاتِ الْمُنْقَطِعَةِ يَنْهَضُ سَبَبًا لِهَلَاكِهِمْ وَوُقُوعِهِمْ فِي هَذَا الْعَذَابِ كُلِّهِ . وَفِي الْآيَةِ أَكْبَرُ الْعِبَرِ لِمَنْ يَفْقَهُ الْكَلَامَ ، وَلَا يَغْتَرُّ بِلَقَبِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّمَا الْمُسْلِمُ مَنِ اتَّخَذَ إِمَامَهُ الْقُرْآنَ وَسُنَّةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ ، لَا مَنِ اغْتَرَّ بِالْأَمَانِ وَالْأَوْهَامِ ، وَانْخَدَعَ بِالرُّؤَى وَالْأَحْلَامِ .