الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الخامس عشر‏ : غلب على كتبة الحديث الاقتصار على الرمز في قولهم ( ‏حدثنا ) ، و‏ ( ‏أخبرنا ) غير أنه شاع ذلك وظهر حتى لا يكاد يلتبس‏ . ‏

[ ص: 203 ] أما ( ‏حدثنا ) فيكتب منها شطرها الأخير ، وهو الثاء والنون والألف‏ . ‏ وربما اقتصر على الضمير منها وهو النون والألف‏ . ‏ وأما ( ‏أخبرنا ) فيكتب منها الضمير المذكور مع الألف أولا‏ . ‏

وليس بحسن ما يفعله طائفة من كتابة ( ‏أخبرنا ) بألف مع علامة حدثنا المذكورة أولا ، وإن كان ‏الحافظ البيهقي‏ ممن فعله‏ . ‏

وقد يكتب في علامة ( ‏أخبرنا ) راء بعد الألف ، وفي علامة ( ‏حدثنا ) دال في أولها‏ . ‏ وممن رأيت في خطه الدال في علامة ( حدثنا ) ‏الحافظ أبو عبد الله الحاكم‏ ، و‏‏أبو عبد الرحمن السلمي‏ ، و‏‏الحافظ أحمد البيهقي‏ ، رضي الله عنهم . ‏ والله أعلم‏‏‏‏ . ‏

وإذا كان للحديث إسنادان أو أكثر فإنهم يكتبون عند الانتقال من إسناد إلى إسناد ما صورته ( ‏ح‏ ) ، وهي حاء مفردة مهملة .

ولم يأتنا عن أحد ممن يعتمد بيان لأمرها ، غير أني وجدت بخط الأستاذ الحافظ ‏أبي عثمان الصابوني‏ ، والحافظ ‏أبي مسلم عمر بن علي الليثي البخاري‏ ، والفقيه المحدث ‏أبي سعيد الخليلي‏ - رحمهم الله تعالى - في مكانها بدلا عنها ( صح‏ ) ‏صريحة‏ . ‏ وهذا يشعر بكونها رمزا إلى ( ‏صح‏ ) ‏‏ . ‏ وحسن إثبات ( صح‏ ) هاهنا ، لئلا يتوهم أن حديث هذا الإسناد سقط‏ ، ولئلا يركب الإسناد الثاني على الإسناد الأول ، فيجعلا إسنادا واحدا‏ . ‏

[ ص: 204 ] وحكى لي بعض من جمعتني ، وإياه الرحلة بخراسان ، عمن وصفه بالفضل من الإصبهانيين‏ أنها حاء مهملة من التحويل ، أي من إسناد إلى إسناد آخر‏ . ‏ وذاكرت فيها بعض أهل العلم من أهل المغرب ، وحكيت له عن بعض من لقيت من أهل الحديث‏ أنها حاء مهملة إشارة إلى قولنا ( ‏الحديث‏ ) ، فقال لي‏ : أهل المغرب - وما عرفت بينهم اختلافا - يجعلونها حاء مهملة ، ويقول أحدهم إذا وصل إليها ( ‏الحديث‏ ) ‏‏ . ‏

وذكر لي‏ : أنه سمع بعض البغداديين يذكر أيضا أنها حاء مهملة ، وأن منهم من يقول إذا انتهى إليها في القراءة ( ‏حا‏ ) ويمر‏ . ‏

وسألت أنا الحافظ الرحال ‏أبا محمد عبد القادر بن عبد الله الرهاوي‏ - رحمه الله - عنها ، فذكر أنها حاء من ‏حائل‏ أي تحول بين الإسنادين‏ ، قال‏ : ولا يلفظ بشيء عند الانتهاء في القراءة ، وأنكر كونها من ( الحديث ) وغير ذلك ، ولم يعرف غير هذا عن أحد من مشايخه ، وفيهم عدد كانوا حفاظ الحديث في وقته‏ . ‏

قال المؤلف‏ : وأختار أنا - والله الموفق - أن يقول القارئ عند الانتهاء إليها : ( ‏حا‏ ) ويمر ، فإنه أحوط الوجوه ، وأعدلها ، والعلم عند الله تعالى . ‏

[ ص: 205 ] السادس عشر‏ : ذكر ‏الخطيب الحافظ‏ ‏‏أنه ينبغي للطالب أن يكتب بعد البسملة اسم الشيخ الذي سمع الكتاب منه ، وكنيته ونسبه ، ثم يسوق ما سمعه منه على لفظه‏ ، قال‏ : وإذا كتب الكتاب المسموع فينبغي أن يكتب فوق سطر التسمية أسماء من سمع معه ، وتاريخ وقت السماع ، وإن أحب كتب ذلك في حاشية أول ورقة من الكتاب ، فكلا قد فعله شيوخنا‏ . ‏

قلت‏ : كتبة التسميع حيث ذكره أحوط له ، وأحرى بأن لا يخفى على من يحتاج إليه ، ولا بأس بكتبته آخر الكتاب ، وفي ظهره ، وحيث لا يخفى موضعه‏ . ‏

وينبغي أن يكون التسميع بخط شخص موثوق به غير مجهول الخط ، ولا ضير حينئذ في أن لا يكتب الشيخ المسمع خطه بالتصحيح ، وهكذا لا بأس على صاحب الكتاب إذا كان موثوقا به أن يقتصر على إثبات سماعه بخط نفسه ، فطالما فعل الثقات ذلك‏ . ‏

وقد حدثني بمرو الشيخ ‏أبو المظفر بن الحافظ أبي سعد المروزي ، عن أبيه ، عمن حدثه من الأصبهانية‏ أن ‏عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن منده ، قرأ ببغداد جزءا على ‏أبي أحمد الفرضي‏ ، وسأله خطه ليكون حجة له‏ . ‏ فقال له ‏أبو أحمد‏ ‏‏ : " يا بني ، عليك بالصدق ، فإنك إذا عرفت به لا يكذبك أحد ، وتصدق فيما تقول ، وتنقل ، وإذا كان غير [ ص: 206 ] ذلك ، فلو قيل لك‏ : ما هذا خط ‏أبي أحمد الفرضي‏ ، ماذا تقول لهم ؟ " .

ثم إن على كاتب التسميع التحري والاحتياط ، وبيان السامع ، ( والمسموع ) منه بلفظ غير محتمل ، ومجانبة التساهل فيمن يثبت اسمه ، والحذر من إسقاط اسم أحد منهم لغرض فاسد‏ . ‏ فإن كان مثبت السماع غير حاضر في جميعه ، لكن أثبته معتمدا على إخبار من يثق بخبره من حاضريه ، فلا بأس بذلك إن شاء الله تعالى . ‏

ثم إن من ثبت سماعه في كتابه فقبيح به كتمانه إياه ، ومنعه من نقل سماعه ، ومن نسخ الكتاب ، وإذا أعاره إياه فلا يبطئ به‏ ، روينا عن ‏الزهري أنه قال‏ : " إياك وغلول الكتب‏ " ، قيل له‏ : " وما غلول الكتب ؟ " قال‏ : " حبسها عن أصحابها‏ " . ‏

وروينا عن ‏الفضيل بن عياض رضي الله عنه أنه قال‏ : " ليس من فعال أهل الورع ، ولا من أفعال الحكماء أن يأخذ سماع رجل فيحبسه عنه ، ومن فعل ذلك فقد ظلم نفسه‏ " . ‏ وفي رواية : " ولا من فعال العلماء أن يأخذ سماع رجل وكتابه فيحبسه عليه‏ " . ‏ فإن منعه إياه فقد روينا‏ : أن رجلا ادعى على رجل بالكوفة سماعا منعه إياه فتحاكما إلى قاضيها ‏حفص بن غياث ، فقال لصاحب [ ص: 207 ] الكتاب‏ : " أخرج إلينا كتبك فما كان من سماع هذا الرجل بخط يدك ألزمناك ، وما كان بخطه أعفيناك منه‏ " . ‏

قال ‏ابن خلاد‏ ‏‏ : " سألت أبا عبد الله الزبيري عن هذا ، فقال‏ : لا يجيء في هذا الباب حكم أحسن من هذا ; لأن خط صاحب الكتاب دال على رضاه باستماع صاحبه معه‏ " . ‏ قال ‏ابن خلاد‏ ‏‏ : وقال غيره " ‏ليس بشيء‏ " ‏‏ . ‏

وروى ‏الخطيب الحافظ أبو بكر‏ ، عن ‏إسماعيل بن إسحاق‏ القاضي‏ : أنه تحوكم إليه في ذلك ، فأطرق مليا ، ثم قال للمدعى عليه‏ : " إن كان سماعه في كتابك بخطك فيلزمك أن تعيره ، وإن كان سماعه في كتابك بخط غيرك فأنت أعلم‏ " . ‏

قلت‏ : ‏حفص بن غياث معدود في الطبقة الأولى من أصحاب أبي حنيفة ، و‏أبو عبد الله الزبيري‏ من أئمة أصحاب ‏الشافعي‏ ، و‏إسماعيل بن إسحاق‏ لسان أصحاب مالك ، وإمامهم ، وقد تعاضدت أقوالهم في ذلك ، ويرجع حاصلها إلى‏ أن سماع غيره إذا ثبت في كتابه برضاه فيلزمه إعارته إياه‏ . ‏ وقد كان لا يبين لي وجهه ، ثم وجهته بأن ذلك بمنزلة شهادة له عنده ، فعليه أداؤها بما حوته ، وإن كان فيه بذل ماله ، كما يلزم متحمل الشهادة أداؤها ، وإن كان فيه [ ص: 208 ] بذل نفسه بالسعي إلى مجلس الحكم لأدائها ، والعلم عند الله تبارك وتعالى . ‏

ثم إذا نسخ الكتاب فلا ينقل سماعه إلى نسخته إلا بعد المقابلة المرضية‏ . ‏ وهكذا لا ينبغي لأحد أن ينقل سماعا إلى شيء من النسخ ، أو يثبته فيها عند السماع ابتداء ، إلا بعد المقابلة المرضية بالمسموع ، كيلا يغتر أحد بتلك النسخة غير المقابلة ، إلا أن يبين مع النقل ، وعنده كون النسخة غير مقابلة ، والله أعلم‏‏‏‏ . ‏

التالي السابق


الخدمات العلمية